الڪِتاب التُّحفة

Henri Matisse, Still Life with Books and Candle, 1890

عمر زكريا

كاتب عربي

قيمة الكتاب هنا لم تعد مرتبطةً بالمحتوى، لكنّها لم تكن يومًا كذلك، فلطالما كانت قيمة الكتاب المالية ترتبط بحجم الكتاب ونوع المواد المصنوع منها. لكن مع ذلك فالكتاب التحفة يضفي شعورًا بالغنى لا يعطيه كتابٌ مُعاصر غالي الثمن بسبب نوعية موادّه وتكلفة طباعته، رغم أنّه على الأغلب قد ابتيع بهدف قراءته. أيّ أنّ المحتوى هو الهدف، لكنّ المحتوى يُلغي التحفة.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

08/09/2021

تصوير: اسماء الغول

عمر زكريا

كاتب عربي

عمر زكريا

ومؤلف روائي، ومؤدي صوتي يعمل راوياً للكتب الصوتية (https://linktr.ee/omarzakaria)، (https://www.youtube.com/@kitabologia).

دخلتُ في إحدى رحلاتي إلى بريطانيا، وتحديدًا في المدينة متحفيّة الطابع “باث”، إلى متجر لبيع الكتب كان مختلفًا عن كلّ متجر دخلته في حياتي. أولًا بدأت غرابة تجربتي مع كيفيّة دخولي إلى المتجر، فلفعل ذلك يتوجب قرع جرس في الخارج حيثُ يتم فتح الباب من الداخل للسماح للشخص بالدخول، تمامًا كمحال الصاغة. لا معنى لهذا الأمر ما لم يكن ما في الداخل ثمينًا. وسلعة الكتاب نادرًا ما تُعامل على هذا النحو، لكنَّ متجر George Bayntun ليس متجر بيع كتبٍ عادي.

داخل هذا المتجر هناك مشغلٌ كاملٌ وكبيرٌ نسبيًّا لتجليد الكتب. يُمنع على الزبائن الدخول إلى قسم التجليد لكنّني استطعت استراق النظر إليه عبر الباب المفتوح. قمت بذلك بعد جولةٍ سريعة على بضائع هذه المكتبة.

جورج باينتون هو مُجلّد كتبٍ وجامع لها أيضًا وُلِد في باث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد نجح بتحويل شغفه إلى مهنة ما زالت مستمرّة عبر أجيال العائلة. كما أنّ اسم هذا المشغل يُعَدُّ رياديًّا ومبادرًا في مجال الكتب الأثرية والتاريخيّة وعلى مستوى عالميّ. لكن ما هي تلك الكتب الأثرية التي لديه؟

في جولة عبر خزائن كتبه تجد رفوفًا مليئةً بالكتب القديمة المطبوعة في قرون سابقة. أقلُّ سعرٍ لحظته هناك كانت الإصدارات الأولى لكتب تشارلز ديكينز وجاين أوستن طبعًا، فهي من مدينة باث، حيث يصل سعر النسخة من هذه الكتب إلى ثلاثمئة جنيه إسترليني. وهو السعر الذي قد يدفعه أي شخصٍ لديه كتاب قديم يريد تجليده في هذا المشغل.

لن يجد القارئ صعوبةً في إنكلترا بالوصول إلى كلاسيكيات الأدب الإنكليزي والعالميّ أيضًا، ليس فقط في متاجر بيع الكتب الجديدة بل حتى في محال بيع الكتب المستعملة. فلماذا إذن سيتكبّد أحدٌ مبلغ ألفٍ ومئتي جنيه إسترليني لشراء الطبعة الأولى للترجمة الفرنسية لرواية دون كيخوتيه دي لا مانتشا التي تحتوي على الرسومات الملوّنة، في حين أنّ هذا الكتاب يمكن الوصول له بالمجان؟ بل ولماذا نتكبّد ثلاثمئة جنيه لتجليد كُتُبٍ نمتلكها أصلًا؟

لا أحد يدخل إلى مكتبة جورج باينتون بالغة الجمال تلك بغية شراء كتابٍ لقراءته، بل لشراء تحفة هي بالأصل كتاب. أن تكون هذه التحف ممتلكات خاصّة أمرٌ يثير القارئ الذي أراد أن يتماهى مع شغفه لكتابٍ من تلك الكتب، ولكن القارئ ليس هو المُستهدف في رأي بائع الكتب هذا. بل جامعي التحف وربما الفنّانين الذين يُقدّرون أهمية تفاصيل عملية إنتاج الكتاب. بالمُقابل مَن يدخلُ متجرًا كهذا لا يريد امتلاك كتابٍ للزينة فقط؛ فبثلاثمئة جنيه يمكن شراء موسوعةٍ مطبوعة حديثًا متقنة الصنع لعرضها في المكاتب والصالونات (غالبًا ما نسمع عن ممارسات شبيهة لأثرياء يقصدون معارض الكتاب بقصد ملئ فراغ على رفّ زينة في المنزل).

لكن لا يُمكن ربط الكتاب التُّحفة ببساطة بالأشياء الأُخرى المصنوعة على شكل كتاب بهدف الزينة؛ كعلب الحلوى والصناديق الخشبية والطاولات المنقوشة على شكل كُتُبٍ متراكمة أو حتى ورق الجدران المطبوع عليها كعاب الكتب. بل ولتوفير ثمن الموسوعات الحديثة على أثرياء الصالونات هُناك قطع زينة مصنوعة من الخشب أو الكرتون المُقوّى على شكل كتب من الخلف لكنّها مجوّفة من الجانب الآخر والتي يمكن وضعها على الرَّف لكسب الهيبة المصحوبة بامتلاك الكتب والمكتبات المنزليّة.

إنَّ الكتاب التحفة المعروض للبيع حاليًّا عند جورج باينتون كُتِبَ وطُبِعَ في زمنٍ ما بغية بيعه وقراءته. تمامًا كالكتب المنسوخة باليد التي كانت تُباع بدراهم في أسواق الورّاقين. لكنّها الآن أصبحت تحفًا أثرية في المتاحف الوطنية. كُتُبٌ لا يريدُ أحدٌ قراءتها، أو لِنَقُل قراءتها عبر تلك النُّسخ تحديدًا، رغم أنّ الجميع يسعون إلى التحديق بها وتأمُّلها خلف علب الزجاج المعروضة بداخله.

الكتاب التُّحفة يمكن له أن يكون نسخًا قديمة لكُتُبِ كاتبٍ ما أصبح مشهورًا مع مرور السنين أو مجموعات الملوك الخاصّة، كنسخ مكتبة جورج الثالث في المكتبة البريطانيّة أو كتب ألفونسو العاشر المعروف بالحكيم في مكتبة الإسكوريال في إسبانيا. الغرض من عرض هذه الكتب يبقى دائمًا مرتبطًا بالسردية الرسمية للهوية القومية لتلك الدول. هدفها كهدف كلّ ما يُجمع تحت سقف المتحف؛ صوَريّ وليس ثقافيّ، حيث علماء الآثار قد يكونون أكثر اهتمامًا بتلك الكتب من الأُدباء.

أن يمتلك إذن شخصٌ ما في منزله تحفةً كالتي تُباع في متجر باث، هي سرديّة متعلّقة بسيرة حياة المكتبة الخاصة، لا سيما إذا كان المُشتري قارئًا (يمكن تغيير هذا الادعاء إذا كان المُشتري جامعًا للتحف وليس قارئًا). لكنّها مفارقة أن يبرز ضمن رفوف المكتبة الخاصّة كتابٌ أُضيف إليها بهدف عرضه لا قراءته من شأنِهِ أن يُغني المكتبة، لأنَّ هذا الكتاب يقول بأنَّ صاحب هذا الدّار يُقدّر الكتب قلبًا وقالبًا. وتحديدًا إن كان قد اشترى كتابًا بعينه دون غيره لأنّه شغوفٌ به ممّا يعني أنّه اشترى كتابًا قد قرأه أصلًا بنسخة حديثة وبالتأكيد أقل تكلفة.

قيمة الكتاب هنا لم تعد مرتبطةً بالمحتوى، لكنّها لم تكن يومًا كذلك، فلطالما كانت قيمة الكتاب المالية ترتبط بحجم الكتاب ونوع المواد المصنوع منها. لكن مع ذلك فالكتاب التحفة يضفي شعورًا بالغنى لا يعطيه كتابٌ مُعاصر غالي الثمن بسبب نوعية موادّه وتكلفة طباعته، رغم أنّه على الأغلب قد ابتيع بهدف قراءته. أيّ أنّ المحتوى هو الهدف، لكنّ المحتوى يُلغي التحفة.

الكتاب التحفة لا يجوز قراءته وإلّا سيصبح كتابًا عاديًّا.

بعد تحويل الطبعات والنسخ الأولى لتحفٍ في العصر الحديث هل يُفكّر الكُتّاب المعاصرون بأنَّ الطبعات الأولى من كتبهم ستكون تُحفًا في يومٍ من الأيام؟ بعض ممارسات دور النشر، وتحديدًا الغربية، تُشير إلى أملها بذلك، حيث تقوم بإصدار الطبعات الأولى من الكتب بأغلفة قاسية وأحيانًا بأعدادٍ قليلة. في العالم العربي يُعاد دائمًا طباعة كتبٍ لأُدباء “كلاسيكيين” بطبعات منمّـقة ومتماثلة الشكل لتكون على شكل مجموعات تُرغِب المشتري بشرائها جميعًا معًا لاقتناءها والافتخار بها وتتميّز بكون اسم المؤلّف أكبر حجمًا من عنوان الكتاب. وكما قال خليل صويلح ضمن نصوص ’ضد المكتبة‘: “عندما يُكتب اسم الرّوائي على غلاف كتابه بحجم أكبر من عنوان روايته، هذا يعني ببساطة أنّه نجيب محفوظ آخر”. فهل هذا خيار الرّوائي أم دار النشر؟ وهل هذا يعني أنّ سوق الكتب سيتوجّه إلى نموذج الكتاب التحفة لإنعاش نفسه؟ في كلتا الحالتين يتحوّل الكاتب إلى سلعة وليس الكتاب، إنّه جنون الخلود الذي يبحثُ عنه الكاتب الذي رأى الكُتُب تُعرَض في المتاحف بدل إتاحتها في المكتبات.

***

هناكٌ مثالٌ من الأندلس أورد ذِكره ألكسندر ستيبتشفيتش في ’تاريخ الكتاب‘ نقله عن ’نفح الطيب‘ للمقريزي على لسان رجلٍ أندلسي حيث سرد قصته كالتالي:

“أقمتُ بقرطبة، ولازمت سوق كتبها مدة، أترقب فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتسفير (تجليد) مليح، ففرحت به أشدَّ الفرح، فجعلتُ أزيد في ثمنه فيرجع المنادي بالزّيادة عليّ، إلى أن بلغ فوق حدّه، فقلت له: يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلّغه إلى ما لا يساوي. فأراني شخصًا عليه لباس رياسة فدنوت منه وقلت له: أعزَّ الله سيدنا الفقيه، إن كان لكَ غَرَضٌ في هذا الكتاب تركتُه لك، فقد بَلَغَت به الزّيادة بيننا فوق حدّه. فقال لي: لستُ بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكن أقمتُ خِزانة كتب، وحافظتُ عليها لأتجمَّل بها بين أعيان البلد وبقي فيها مَوضِعٌ يسع هذا الكتاب، فلمّا رأيته حسن الخط، جيّد التجليد، استحسنته ولم أُبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير. فقلتُ لنفسي: لكَ حِكمتُكَ يا رب، تُعطي البندق لمن لا نواجذ له.”

الكاتب: عمر زكريا

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع