في حوارنا هذا مع الأكاديمي السوري ابن الجولان المحتل، الدكتور منير فخر الدين عميد كلية الآداب في جامعة بيرزيت، والزميل الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، نقف وإياه على تفاصيل كتاب «دليل إسرائيل العام ٢٠٢٠»، الصادر مؤخراً في بيروت، والذي تولى رئاسة تحريره، والذي يقدم دراسات أكاديمية لمجموعة من الباحثات والباحثين الفلسطينيين، المتخصصين في تاريخ الفكر والعلوم السياسية والاجتماعية والإعلام والتربية؛ دراسات تستعرض مختلف جوانب النظام والمجتمع الاسرائيلي وتاريخ الفكرة الصهيونية، بقراءات تحليلية نقدية خاصة وإضاءات فكرية في جوانب هامة من الظاهرة.
المزيد من التفاصيل في نص الحوار…
بداية، ماذا تُنبئنا عن ذاتك، وعن خلفيتك الأكاديمية؟ وما هي طبيعة العمل الذي تقوم به الآن؟
ولدت في الجولان المحتل عام 1972، وهذا حدد الكثير من خياراتي ومساري الأكاديمي. بدل التوجهات العملية، اخترت دراسة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الإنسان في مرحلة البكالوريوس. نظراً لمحدودية الخيارات آنذاك، قررت أن أذهب إلى مدينة القدس المحتلة، والتحق بالجامعة العبرية. اخترتها لأنّ أحد أصدقائي من البلد، وكان ناشطاً اجتماعياً مميزاً بنظري ونظر الكثيرين من أبناء البلدة، قال لي إنّ الحركة الطلابية الفلسطينية هي الأنشط في تلك الجامعة وهناك نتحدى الصهيونية، عدا عن أنّ مركز الحياة الثقافية والسياسية للفلسطينيين في الأرض المحتلة كان آنذاك في القدس. ذلك قبل أن تبتر عملية أوسلو المدينة وتُدخل الحال الفلسطيني في نفقه المعاش الآن. وبالفعل، هناك تعرفت على القضية الفلسطينية والخطاب الفلسطيني، وكنت ناشطاً في الحركة الطلابية الفلسطينية. ومن ثم وصلت تلك التجربة الجدلية إلى حدّها بالنسبة لي ولم أعد أحتمل التناقضات، فقررت أن أغادر إلى الولايات المتحدة، حيث التحقت ببرنامج دكتوراه مشترك بين دائرة الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية، ودائرة التاريخ في جامعة نيويورك.
لم أهرب بعيداً عن التناقضات، ولكن المسافة كانت كافية جداً بالنسبة لي. حصلت على درجة الدكتوراه عام 2008، وكانت رسالتي حول الموضوع الأول الذي أرقني منذ نشأتي في الجولان المحتل، وهو: الصراع على الأرض في السياق الاستعماري الاستيطاني. كان الموضوع المحدد للبحث هو تسوية الأراضي البريطانية في غور بيسان وتغلغل الاستيطان الصهيوني فيه. بعدها درّست لسنة واحدة في جامعة سكيدمور في ولاية نيويورك والتحقت بمنحة ما بعد الدكتوراه في برلين، قبل أن أحصل على وظيفة في جامعة بيرزيت في فلسطين كأستاذ مساعد في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية.
في العام 2015 عيّنت مديراً لبرنامج ماجستير جديد في جامعة بيرزيت، متخصص بدراسة إسرائيل والصهيونية، وبقيت في ذلك المنصب حتى مطلع هذا العام الأكاديمي، حيث عُيّنت عميداً لكلية الآداب في الجامعة. وخلال معظم فترة عملي في الجامعة كنت أيضاً باحثاً وعضواً في لجنة الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وكان من بين مهامي الأخيرة رئاسة تحرير النسخة الرابعة من كتاب «دليل إسرائيل العام»، 2020.
حدّثنا عن فكرة كتاب «دليل إسرائيل العام» والحاجة إليه الآن، وما هي ظروف إنجازه؟ وماذا عن الصعوبات التي رافقت مراحل العمل عليه إلى أن رأى النور؟
ارتأت مؤسسة الدراسات الفلسطينية من أواسط التسعينات، ضرورة لإصدار كتاب مرجعي شامل يقدم للقارئ العربي العام والمتخصص مواداً علمية موثقة، مكتوبة بأقلام خبراء عرب وفلسطينيين مطلعين عن كثب. فهو عبارة عن فصول مرجعية تقدم للقارئ صورة شاملة حول إسرائيل ونظامها السياسي والأيديولوجي والأمني والقانوني، فضلاً عن بنيتها الاقتصادية وتركيبتها الاجتماعية، ونظامها التعليمي، وآليات الاحتلال، والاستيطان.
النسخة الحالية هي الرابعة، وهي عبارة عن استمرار ومراكمة لجهود فردية ومشتركة للعديد من الزملاء والأساتذة الذين شاركوا في التأليف أو حرروا النسخ السابقة، وأخص بالذكر هنا الراحل أحمد خليفة، والأستاذ صبري جريس محررا النسخة الأولى عام 1997، والدكتور كميل منصور محرر النسختين الثانية والثالثة، سنتي 2004 و2011، والزملاء خالد فراج ومحمود سويد والراحل أحمد خليفة، الذين شاركوا عن كثب في عملية التخطيط والمراجعة العلمية والتحرير في النسخة الأخيرة الصادرة العام الماضي.
في النسخة الجديدة 2020، قررنا أن نشارك إلى جانب عدد من المؤلفين السابقين، مؤلفين من الزملاء والزميلات الشبان (وهذه سياسة تسعى المؤسسة إلى توطيدها) وأن نطلب منهم التأليف من جديد بدل تحديث الفصول القديمة. كما وقررنا أن نستحدث فصلين جديدين؛ أحدهما حول نظام الأراضي والتخطيط الإسرائيلي، نظراً لكونه أداة أساسية في صنع النظام الاستعماري الاستيطاني وفي التأثير في المجتمع والاقتصاد وفي الاحتلال والتوسع الاستيطاني؛ والآخر حول العلاقات بين إسرائيل ويهود العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، نظراً لأهمية هذا الموضوع.
لقد كانت عملية اختيار المؤلفين ووضع محاور جديدة للفصول ومراجعة مسوداتها وتحريرها النهائي عملية دقيقة واستمرت تقريباً لعامين. في خضم هذه العملية دخلت جائحة كورونا فاتخذت المؤسسة قراراً شجاعاً، وأعتقد أنه صائب جداً، وهو أن تنشر بعض الفصول إلكترونياً على موقعها، وأن توفر كافة الفصول بالكامل مجاناً بالتزامن مع صدور الكتاب ورقياً. لقد عمل الزملاء في فريق التحرير والإعداد الطباعي والإلكتروني في بيروت جاهدين، متغلبين على كافة الظروف الصعبة. ولهم الشكر الجزيل.
ما الهدف الأساسي الذي فكرتم به حين شرعتم في وضع المخطط العام للنسخة الرابعة 2020؟ وما هي أهم الرسائل التي أردتم توصيلها من خلال هذه النسخة، ولمن تحديداً؟
يعتمد الكتاب على فلسفة المؤسسة القديمة وهي ضرورة إنتاج معرفة عربية أكاديمية وملتزمة حول المشروع الصهيوني بكافة تجلياته ومراحله، بما يخدم القضية العربية والفلسطينية، وربما علينا أن نستدرك اليوم ونقول “القضايا” العربية المتعددة. هذا الكتاب، في نسخته الجديدة، تحديداً يوفّر للقارئ العربي، باحثاً متخصصاً أم طالباً كان، أم صحفياً، أم سياسياً، أو مجرد مهتم بالشأن العام، استعراضاً منهجياً لبنى الحقول المختلفة التي تشكل الظاهرة قيد الدراسة.
المعرفة والسياسية مترابطان جوهرياً. إسرائيل ظاهرة تتغير وأدوات سيطرتها ونفوذها في المنطقة تتغير ولا بد من المواكبة الحثيثة. مع الأسف الشديد، لا يوجد إنتاج معرفي عربي كاف، أولي وأصيل، عما يدور في هذه الدولة من تحولات وتوجهات خطيرة وما تقوم به ككيان استعماري في الإقليم. بهذا المعنى، تأتي مساهمة الكتاب في سد ثغرة متعلقة بوجود معرفة أساسية مواكبة موثقة وأكاديمية، ويمكن اعتمادها مرجعاً علمياً ودليلاً لاتجاهات ومشاريع بحثية.
في نهاية المطاف الأمل والغاية هو أن يكون الكتاب مرشداً للباحثين وملهما لإنتاج أبحاث تخصصية. حقيقة، يطول الحديث في هذا المجال، وللاختصار أود فقط الإشارة إلى أنّ كم الكتب والأبحاث وعدد المراكز والباحثين والدوائر الاكاديمية الإسرائيلية التي تنتج معرفة عن الفلسطينيين والعالم العربي تشكل حقلاً استشراقياً إسرائيلياً كاملاً. في المقابل فإنّ الحقل المعرفي العربي حول اسرائيل مشتت ولم يحقق بعد إلا جزءً صغيراً من قدراته الكامنة.
ما هو الهدف من صدور الكتاب إلكترونياً -على مراحل كما أشرتم – على الموقع الرسمي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية؛ بحيث كان يتم بين الحين والآخر نشر دراسة من الدراسات التي أنجزها الباحثون المساهمون في تحريره، ومن ثم قامت المؤسسة بنشره ورقياً؟
كما ذكرت جاءت فكرة إطلاق الكتاب إلكترونياً في ظرف جائحة كورونا، التي اضطرتنا أن نؤخر الإصدار الورقي بضعة أشهر عما هو مخطط، حتى مطلع عام 2021 عملياً، وكان لزاماً علينا من باب الالتزام الأخلاقي مع القراء أن نقدم على الأقل جزء من المواد في العام 2020. إلا أنه بغض النظر عن الجائحة، أنا سعيد جداً بقرار المؤسسة توفير كامل الكتاب على موقعها وفي نسخة HTML و PDF، وذلك لتوسيع دائرة الاستفادة وتوفير إمكانية الوصول إلى القارئ العربي أينما وجد. طبعاً مع انتشار النشر الالكتروني يبقى للنسخة الورقية رونقها وجاذبيتها للعديد من القراء، وخاصة لمن يود أن يعتمد النسخة المطبوعة في ترقيم صفحاتها التسلسلي لغايات الاقتباس العلمي.
ما هي أبرز التحديات التي يواجهها الباحثون الفلسطينيون في حقل الدراسات الإسرائيلية اليوم؟
يجب أن نميّز بين مواقع مختلفة للباحثين الفلسطينيين، ولكل فئة تحدياتها. بالنسبة للباحث الفلسطيني المتحدث بالعبرية والمنخرط في الحياة الأكاديمية الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، فإنّ لديه تحد أول وهو أن يخرج من البوتقة التي وضعه فيها النظام الاستعماري بكونه مخبراً محلياً ينتج معرفة “نافعة” عن ذاته (نافعة لمنظومة الحكم والثقافة المهيمنة). وعلى هذا الصعيد نجد العديد من النجاحات، ونجد عدداً متزايداً من الدراسات النقدية عن المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر التي تتحدى الهيمنة الصهيونية، وتنشر في مجلات ودور نشر عربية وعالمية وحتى إسرائيلية ومرموقة. زمن الهيمنة المطلقة انتهى. إلا أنّ هناك تحد آخر وهو أكثر صعوبة، ويتمثل في مقدرة الباحث الفلسطيني أن ينسف “اختصاصه” التقليدي، أي أن يكتب عن مجتمعه، ليصك معرفته التخصصية الدقيقة عن الآخر. هناك على هذا الصعيد، يوجد مساهمات فلسطينية أصيلة وفي غاية الأهمية، ولكنها فريدة وتشق نفسها للنور بصعوبة أكبر.
بالنسبة للباحث الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967، فإنّ العائق الأكبر هو اللغة والوصول إلى المصادر والمراجع الأولية، وعدم الاكتفاء بالترجمات فقط. كما وأنّ البرامج الأكاديمية والمراكز البحثية الناشطة نشأت متأخرة نسبياً. ومع هذا هناك تقدم سريع ومساهمات عديدة ومبشرة، خاصة من الجيل الجديد من الباحثين.
ماذا عن تقييمك كباحث لما يصدر من دراسات إسرائيلية عن الأوساط الأكاديمية الفلسطينية؟ ما الذي ينقصها؟ وهل نسبة هذه الدراسات كافية؟ وماذا تنصح في هذا الصدد؟
هذا يعتمد طبعاً على موضوع ونوعية البحث الذي يريده المرء. فإذا ما أراد أن يبحث مثلاً في مفهوم الاستعمار الاستيطاني والمنظور الفلسطيني للصهيونية كأيديولوجيا، نجد مساهمات فلسطينية سباقة وأصلية (وإن كان بعضها منسي). أما إذا أراد المرء أن يواكب ظواهر وتحولات في عمق المجتمع والاقتصاد والنظام القانوني والأمني إلخ، وهذه تعتمد على بيانات محددة؛ فلا بد أن يعتمد بشكل مباشر على المصادر والمراجع الإسرائيلية، ولا يوجد كفاية من الكتابات الفلسطينية التي تستخلص البيانات وتقدم تحليلات سباقة في هذا المجال.
مرة أخرى، مأسسة الإنتاج المعرفي الفلسطيني حول إسرائيل جاءت متأخرة نوعاً ما، ومع هذا أؤكد أنّ من يرغب في الاطلاع المعمق سيجد فائدة كبيرة فيما تنتجه عدة مراكز بحثية فلسطينية إلى جانب مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومجلاتها وإصداراتها المختلفة. وأخص هنا بالذكر دون الحصر، “مدار – المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية” في رام الله الذي يصدر مجلة متخصصة بعنوان “قضايا إسرائيلية” وترجمات وكتب ودراسات وتقارير مهمة جداً.
كيف تنظر المؤسسات السياسية والأكاديمية في إسرائيل إلى مثل هذه الدراسات والبحوث الفلسطينية؟
المؤسسات السياسية في إسرائيل تراقب بأعين مخابراتية أمنية عدائية، كل ما يمكن تراه مهماً، ليس فقط فيما يقع في نطاق الأمن العسكري، إنما أيضاً في مجال الحياة الثقافية والأكاديمية، وخاصة في إطار الحملة المضادة الشرسة التي تشنها على حركة المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل BDS. المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية متصلة بالهيمنة السياسية إلى حدّ بعيد بالرغم من وجود فسحات فيها لأكاديميين ومثقفين نقديين من اليهود الاشكناز والميزراحيم-العرب وكذلك من الفلسطينيين.
على العموم، النص الفلسطيني العلمي مغيب كجزء من تغييب الرواية الفلسطينية برمتها. مع ذلك، لا بد من التنويه بأنّ بعض الأبحاث الفلسطينية فرضت نفسها بقوة في مجالات تخصص معينة، وإما ألهمت باحثين إسرائيليين نقديين أو وضعت باحثين صهاينة في وضعية دفاعية. فيما يتعلق بالتأريخ للنكبة وتبعاتها، مثلاً، أخص بالذكر دون الحصر، أعمال وليد الخالدي وعادل مناع وقيس فرو. وهناك غيرهم العديد من الكتّاب الفلسطينيين اللامعين في مجال الفكر والنقد، الذين لا يمكن للباحث الإسرائيلي الجاد، مهما كانت توجهاته العقائدية، أن يتجاهلها بسهولة.
هل لكتابكم من تأثير على صنّاع القرار في منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية في رام الله أو حكومة حماس في قطاع غزة أو فصائل العمل الوطني الفلسطيني في عموم فلسطين وفي الشتات؟
لا أعتقد أنّ ثمة مقياس دقيق لهذا الأمر. الأمل موجود طبعاً. ولكن تقديري الشخصي هو أنّ تأثير الكتاب له علاقة طردية عكسية مع مدى الاقتراب من مراكز صنع القرار. أي أنّ تأثيره لدى صانع القرار أقل بكثير من تأثيره لدى الباحث الشاب والجاد الذي يعد بحثاً علمياً أو رسالة ماجستير ويرى ذلك جزءً من مواجهته الثقافية مع المستعمر، أي جزءً من نضاله لأجل تحرره الوجودي.
المشكلة هي أنّ المنظومة السياسية المقاومة أو المفاوضة اليوم، تعتمد على التكتيك قصير وربما متوسط المدى وليس الإستراتيجي. ولذلك فإنّ المعرفة العلمية تبدو من هذا المنظور وكأنها تدور في فلك آخر وببطء لا يحتمل. الكتاب حقيقة لا يقدم معرفة عسكرية أمنية أو أية أسرار تفيد من يخوض سياسة التفاوض، لا يوجد فيه معارف من صنف “أعرف عدوك”، ولا أسرار شخصية قد تفيد مناورات الديبلوماسي. المعرفة الأكاديمية تساهم في تشكيل الرأي العام، ولكنها تمشي على منهج مختلف وقد يكون متناقض بشدة مع منطق الدعاية السياسية.
على المعرفة أن تكون قابلة للتأكيد أو الدحض. جدوى المعرفة تُختبر- أو هكذا من المفترض أن يكون الأمر- مع كل عملية نقل لها (من كاتب إلى قارئ، من متحدث إلى مستمع، وبالعكس)، وعليها أن تنجح في اختبار الزمن، على الأقل لمدة معينة. أما الدعاية فهدفها أن تصدق الآن وتنسى غداً، حينما لا تعود نافعة أو يستوجب التكتيك نقضها. أن نؤمن بصواب قضيتنا السياسية وأن نلتحم بها، وأن نفهم اللعبة الدعائية، لا يعني أنه علينا أن نحارب بها المعرفة. وأعتقد أنّ ما نقدمه في الكتاب بالأساس هو معرفة تسعى لتصويب أخطاء شائعة عربياً في فهم الظاهرة (أخطاء قد يكون من شأنها أن تساهم في تكريس حالة الوهن العربي) والتأسيس لإنتاج معرفة عربية. باعتقادي هذا هدف نبيل وعليه أن يسير في منطقه الخاص وزمنه الخاص. الوهج الذي يشعر به المرء في تجربته الذهنية الفردية لا يشع إلى الآخرين ولا يعدي بسرعة، فهو أقرب للتأمل بلوحة أو قصيدة وفهمها، أكثر من تجربة الحفل الشعري أو المسرحي الذي يحرك الجمع وهناك فيه مجال للعدوى السريعة.
هل من صدى لدى القراء الفلسطينيين بعد صدور هذا الكتاب؟
ما زلنا نعيش تداعيات جائحة كورونا، ومن الصعب التقييم في ظل فترة قصيرة خاصة نظراً لطبيعة الكتاب. مما رأيته على صعيد منصات التواصل الاجتماعي، ثمة تقدير واهتمام بالكتاب، ولكن هذا غير كاف للقياس. آمل أن نبدأ بسماع ردود الأفعال، خاصة من الأوساط الجامعية التي تقوم باستخدام الكتاب في التدريس، فضلاً عن الباحثين الذين يحتاجون إلى المراجع الموثوقة.
برأيك هل هناك تهميش عربي لمثل هذه الدراسات التي تعنى بالقضية الفلسطينية والفكر العربي الحديث والمعاصر؟
بالتأكيد. العالم العربي يمرّ في مرحلة قاتمة، فقد ابتلي بكافة أنواع الشرور من مطامع خارجية وفساد وقمع سياسي واقتتال داخلي. في العقد الأخير وعلى ضوء موجة التطبيع الجديدة، باتت رمزية فلسطين رمزية متناقضة وإشكالية جداً. من جهة، هي رمز لمفهوم للمقاومة مفرغ من معناه، مفهوم حمّال أوجه وموظف في أجندات مركبة وقمعية؛ ومن جهة أخرى، باتت قضية فلسطين رمزاً للمشاكل و”وجع الرأس” في منظومة التحالفات الأمنية والاقتصادية الإقليمية، التي بدأت تجمع علناً دولاً عربية مع إسرائيل تحت شعار “السلام والرخاء والتقدم الاقتصادي”. في هذا السياق سوف نرى بالتأكيد تهميشاً لكل خطاب عقلاني – وأقصد بعقلاني، خطاب يخضع لفكرة حرية المعرفة والقول والفكر والنقد. ولا أقصد بها المعنى المستخدم في الخطابات السلطوية.
كيف يَنظرُ المثقف الفلسطيني بشكل عام إلى ما يُطرح حول مسألة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؟
على العموم هناك رفض شديد وواسع لمسألة التطبيع من كافة الأطياف الفلسطينية في المجال الأكاديمي الذي أعرفه. المسألة ليست مسألة أن نكون مع أو ضد التطبيع؛ من هذه الناحية الأمور جد واضحة وهذا نتاج نشاط ونضال مستمر. إنما المسألة هي ماذا نعني بالمقاومة والصمود، وما هو دور المعرفة في المسألة التحررية. أن نكون ضد التطبيع، لا يعني بالضرورة أن نمارس المعرفة ضمن مخيال تحرري. الأول دون الثاني لا يكفي.
أخيراً؛ هل من مشاريع جديدة لديك على صعيد الكتابة والتأليف؟
سيصدر لي قريباً فصل في كتاب محرر من جامعة منيسوتا حول نضال أهالي قرية الساخنة في غور بيسان في الثلاثينات من القرن الماضي، ضد محاولات إخراجهم من الأرض على يد الاقطاعي العربي الذي تملّك الأرض منهم بسبب الديون والفقر، وبعد أن وعدهم بإبقائهم فيها كمزارعين دائمين، ثم أخلف بوعده وقام ببيعها للحركة الصهيونية. على تلك الأرض نشأت باكورة موجة من الاستيطان شبه-العسكري والهجومي معروفة باسم “البرج والسور” التي تحولت إلى اسطورة قومية مركزية في المخيال الصهيوني.
الكتاب من تحرير الباحثين دانيال هيث جستيس وجان اوبراين، ويضم مساهمات عالمية عديدة حول موضوعات التجارب الأصلانية مع سلب الأرض الاستعماري، وعنوانه: «قصص تقسيم الأراضي: الأرض الأصلانية تحت حصار المستوطنين» (https://www.upress.umn.edu/book-division/books/allotment-stories). والآن أعمل على كتاب موسع بالعربية حول تسوية أراضي بيسان سيصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وعلى كتاب محرر حول ذاكرة الهوية والمقاومة في الجولان المحتل سيصدر عن دار النشر البريطانية I. B. Tauris بالإنكليزية. في الأخير أتناول موضوعة سوسيولوجيا الهوية الوطنية السورية، في معناها العملي في الحياة اليومية في الجولان المحتل، في ظل بنية السيطرة الإسرائيلية المدنية الشاملة (أي بعد فرض القانون الإسرائيلي أو ما يسمى بضم الجولان عام ١٩٨١).