«بدو النقب وبئر السبع: ١٠٠ عام من السياسة والنضال»، للدكتور منصور النصاصرة، ترجمة ساندرا الأشهب، وهو في نسخته العربية من إصدار مركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية للكتب المُترجَمة، دراسة نقدية قيمة ووثيقة أرشيفية تقدّم نظرة تاريخية وسياسية واقتصادية حول عرب النقب وقضاء بئر السبع بدءً من نهاية الحقبة العثمانية في جنوب فلسطين وبناء مدينة بئر السبع مروراً بالفترة الكولونيالية البريطانية في الشرق الأوسط، ثم إلى عام النكبة وحرب ١٩٤٨ ووصولاً الى فترة الحكم العسكري الإسرائيلي حتى الوضع الراهن.
يعتمد الكتاب، الصادر قبل أربع سنوات باللغة الإنكليزية عن منشورات جامعة كولومبيا – نيويورك، على وثائق أرشيفية نادرة من لندن، وأكسفورد، وبلفاست، والقدس. إضافة إلى استناد المؤلف على مقابلات شفوية عديدة في النقب والأردن والمملكة البريطانية المتحدة.
يسعى الكتاب إلى المساهمة في النقاشات العلمية والبحثية فيما يتعلّق بعرب النقب وقضاء بئر السبع. كما يساهم في التطوّر المستمرّ في حقل سياسات العشائر والأقليات القومية في العالم، ويسهم في عملية تقصّي إذا ما كانت هذه المجالات القانونية تساعد في فهم الحالة النقباوية.
ويقدّم المؤلف (محاضر في العلاقات الدولية جامعة بن غوريون)، في دراسته فهماً جديداً ونقدياً للحكم الكولونيالي الاستعماري البريطاني في جنوب فلسطين ولعلاقتهم مع عرب قضاء بئر السبع، عن طريق دراسة تصوّر السلطات الاستعمارية لمنظومة العشائر في هذه المنطقة ومحاولة انخراطها في المنظومة الكولونيالية. ملاحظاً أنّه لم يُبذل جهد لتوثيق تاريخ البدو في فلسطين إبان الاحتلال البريطاني باستثناء عمل المؤرخ الفلسطيني عارف العارف (1891 – 1973). ولذلك، فإنّ كتابه هذا يعدّ المحاولة الأولى لتسجيل عرض زمني عام لتاريخهم وسياساتهم في القرن المنصرم، ليس مبنياً على الرواية الإسرائيلية بل مبنية على الرواية المحلية. كما يقول إنّ الكتاب يوثّق الصلة الأوسع لتاريخ البدو والسياسة بهدف فهم علاقات الأقليات والشعوب الأصلية في الإقليم وخارجه. ويضيف إنّ “الأدبيات المتوافرة عن البدو/ البداوة محدودة للغاية تكشف عن بعض الثغرات اللافتة”.
الكتاب جاء في (519 صفحة) من 11 فصلاً، إضافة إلى ثبْت بالمصادر والملاحق والصور التي تضمّنها، وهو تكملة للنقاش حول نضال عرب النقب المستمرّ في سبيل الاعتراف بحقوقهم التاريخية منذ اتفاقيات أوسلو حتى اليوم. ويركّز المؤلف على قضية النقب منذ سنوات التسعينيات والمخططات الإسرائيلية المعروفة اليوم بمشروع “برافر” لتهجير قرى كاملة عن أراضيهم وآليات الصمود التاريخية التي فرضها أهل النقب.
النصاصرة يستعرض في طيات الكتاب فصولاً من نضال عرب النقب ضد ما يُعرف بـ”مخطط برافر”، وهو قانون أقرّه الكنيست يوم 24 حزيران (يونيو) 2013 بناء على توصية رئيس قسم التخطيط في مكتب رئيس الحكومة إيهود برافر عام 2011 لتهجير سكان عشرات القرى لعرب النقب، وتجميعهم في ما يسمى بـ”مجمعات التركيز”، حيث تم تشكيل “لجنة برافر” لهذا الغرض.
يتمحور الفصل الأول على فهم مشروع الدولة – السلطة والمقاومة والأصلانية القانونية. فيما تطرق الفصل الثاني إلى سياسات العثمانيين تجاه المناطق الحدودية والسيطرة على الصحراء. بينما يناقش الفصل الثالث السياسات الاستعمارية البريطانية تجاه بدو جنوب فلسطين، وشرق الأردن (1917 – 1948).
أما الفصل الرابع فخصص لمشروع الدولة اليهودية وحلم ثيودور هرتزل في تأسيس دولة أحادية الدين، ولم ينكر بأنّ فلسطين كانت مأهولة بالشعب الفلسطيني، لكنه كان يراهم (رجعيين ومتخلفين).
الفصل الخامس تمحور حول تأسيس منظومة الحكم العسكري بوصفه أداة سيطرة على الأقلية العربية الفلسطينية (1949 – 1950).
ويبحث المؤلف في الفصل السادس إعادة تشكيل المنظومة العشائرية التاريخية (1950 – 1952) _ قضايا الحدود، حقوق الأرض والنازحين، وتدخل الأمم المتحدة.
القيادة التقليدية، اقتصاد الحدود، النضال والصمود (1952 – 1956) كانت قضايا ناقشها المؤلف في الفصل السابع. فيما بحث الفصل الثامن في المرحلة الثانية من الحكم العسكري (1956 – 1963) والنقاش الدائر لإلغائه. وكانت نهاية الحكم العسكري والنضال ضد مخططات التوطين القسّري (1962 – 1967).
ويبحث الفصل العاشر وعنوانه: فترة أوسلو، والجدل المعاصر حول مخططات برافر، في الوعي السياسي الذي برز بعد اتفاقية أوسلو، حيث شهدت النقب نهضة ثقافية متميزة أسفرت عن تأسيس أحزاب وطنية تسعى لتمثيل أهالي النقب سياسياً، وتحاول تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية مثل حزب (نداء الوفاق).
بينما يتناول الفصل الحادي عشر، استمرار رفض المحاكم الإسرائيلية حقوق عرب النقب التاريخية، وآليات النضال السلمي أو الحقوقي، مبرزاً حالة الإنكار المستمرّ لقضايا ملكية الأراضي البدوية والمقاومة غير العنيفة، أي الوضع المعاصر للبدو، كما يلقي الضوء على الإنكار المستمرّ لقضايا ملكية الأراضي البدوية في نظام المحاكم الإسرائيلي.
النصاصرة، يوضح منذ الفصل الأول من كتابه، أنّ الدولة الحديثة -بحسب تعريف ماكس فيبر- هي “منظمة سياسية إلزامية ذات تنظيم متصل، تنجح حكومتها في احتكار الاستخدام الشرعي للقوة في تنفيذ أوامرها ضمن منطقة إقليمية معيّنة”. وهو يرى أنه إذا كانت السلطة والمقاومة مفهومين واضحين، فإنّ مصطلح “الشعوب الأصلانية” لا يزال غامضاً ويثير اللبس حتى يومنا هذا؛ لأنه يتشابك ويتشابه مع مصطلحات أخرى مثل “الشعوب الأولى”، و”السكان الأصلانيين”، و”شعوب العالم الرابع” وغيرها من التسميات التي تشير إلى تجمعات بشرية مبثوثة في أميركا، وأستراليا، ونيوزيلندا، والمكسيك، والبرازيل، وإسرائيل. ولعل أسهل تعريف للشعب الأصلاني، أنه “يتألف من أمة عاشت لأجيال في إقليم غزاهُ مجتمع استيطاني جديد”.
يستند المؤلف لدعم أطروحته برأي العلامة عبد الرحمن ابن خلدون الذي وصف البدو بأنهم “غير متمدنين، لكنهم هم العرب الأصليون الذين وُجدوا قبل سكان المدن المستقرين”. وعندما سيطرت الإمبراطورية العثمانية على فلسطين لأكثر من 400 عام (1516 – 1917) حاولت دمج هؤلاء البدو في الإدارة المركزية بعد أن جعلت معظم الأراضي تابعة لها، وشرعت في بناء مدينة بئر السبع كمركز إداري عام 1900 فانتقلت السيطرة على جنوب فلسطين إلى العثمانيين بعد أن كانت بئر السبع تُدار إما من غزّة أو القدس.
أما البدو الذين كانوا يدفعون الضرائب على الأراضي الزراعية والمواشي فهو مؤشر واضح يعترف بمِلكية الأراضي للبدو الذين استوطنوا بئر السبع التي تُعدّ أهمّ رمزٍ خلّفه العثمانيون في جنوب فلسطين.
ومما يتوقف عنده المؤلف في الفصل الثالث رصد طبيعة علاقة المُستعمِر البريطاني مع العرب البدو في جنوب فلسطين وكيفية اعتماد السلطة البريطانية على الشيوخ الذي ساهموا في حفظ النظام، وتأمين الحدود، مقابل الاستجابة لتخفيض الضرائب على الأراضي الزراعية والمواشي، خاصة في سنوات القحط والجفاف، إضافة إلى مطالبتهم بتحسين الخدمات الإدارية، والصحية، والتعليمية. كما ركّز في هذا الفصل على إنشاء المحاكم العشائرية الإقليمية التي تبتُّ في مئات القضايا، وتنفِّذ أحكامها. معرّجاً على انسحاب القوات البريطانية من بئر السبع في 14 أيار (مايو) 1948 ورفع العلم الفلسطيني على مبانيها الرسمية، لكن المدينة سرعان ما سقطت بأيدي القوات الإسرائيلية في تشرين الأول (أكتوبر) من العام ذاته لتبدأ نكبة التهجير المعروفة.
ويكشف النصاصرة عن رسالة كتبها دافيد بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل) في رسالة لابنه عاموس، مما جاء فيها: “إنّ أراضي النقب محجوزة للمواطنين اليهود متى أرادوا… ويجب أن نطرد العرب لضمان حقنا في الاستيطان على هذه الأرض”.
يبيّن المؤلف في سياق دراسته أنّ الحاكم العسكري الصارم أصبح هو الذي يرسم مستقبل البدو، ويعيد تشكيلهم من جديد، فمن بين 95 عشيرة بدوية في جنوب فلسطين بقيت منها 19 عشيرة في النقب وبئر السبع أسكنوهم في منطقة مغلقة أطلقوا عليها اسم (السياج)، وهجّروا بعض مشايخهم إلى الأردن ومصر. كما طلبت السلطات الإسرائيلية من هذه العشائر أن تؤدي قسم الولاء لتطرد بالنتيجة العشائر غير الموالية مثل عشيرة الصانع التي هُجِّرت إلى الأردن، لكن الملك الأردني لم يسمح لهم بالإقامة الدائمة خشية من انضمام المزيد من القبائل المُهجّرة. وقد أجرت الحكومة الإسرائيلية خمس عمليات تعداد سكاني، لكنها لم تنجح لأنّ البدو رفضوا التعاون مع الجهود المبذولة لإحصائهم.
كما يبيّن المؤلف كيف لجأت سلطات الحكم العسكري إلى تعيين شيوخ القبائل للسيطرة على السكان الأصليين لدرجة أنّ هؤلاء المشايخ أصبحوا وكلاء للإدارة العسكرية يزوّدونها بالمعلومات التفصيلية عن المواليد والوفيات وحالات الزواج.
وأما البدو فتبنوا إستراتيجية (اقتصاد الحدود) حيث لجأوا إلى تهريب القهوة والحلويات والأقمشة والمواشي التي تُعينهم على تحمّل نفقات المعيشة اليومية الصعبة. كما كانوا يستقبلون المهجّرين ويلمّون الشمل. وعلى الرغم من انتفاع الشيوخ مادياً فإنهم كانوا يقاومون المحتل بطرق متعددة، أبسطها التضليل وعدم التعاون.
وارتأى الزعماء الإسرائيليون بعد مجزرة كفر قاسم ضرورة إنهاء الحكم العسكري؛ وذلك لتناقضه مع اشتراطات الدولة الديمقراطية التي شجعّت على تخفيض بعض القيود عن العرب البدو الذين يتعرضون للتهميش، وحظر التجوال، ومصادرة الأراضي، ورغم المضايقات التي شهدها بدو النقب، فإنهم نجحوا في بناء المدارس، والمشاركة في الانتخابات، والوصول إلى الكنيست، لكن بعضهم رضخ لسياسة التوطين التي يسعى لها المحتل أو اختاروها طوعياً بأنفسهم، وطلبوا السكن في الأماكن المختلطة بعيداً عن المناطق الحدودية في الجزء الشمالي الشرقي من النقب.
يُختتم الكتاب بالنظر في الأعمال اللاعنفية ومقاومة البدو للحكم العسكري، مما يمثل مساهمة في مجال الوكالة الفرعية والمقاومة الأصلية.
ويخلص الدكتور منصور النصاصرة في دراسته إلى أنّ العثمانيين والسلطات البريطانية قد اعترفوا بحقوق القبائل الفلسطينية الأصلية في الأرض وبقية الموارد الأخرى في النقب وبئر السبع في جنوب فلسطين، بينما ظل الحكم العسكري الإسرائيلي يرى فيهم خطراً على الأمن وتهديداً للتوازن السكاني في الدولة الجديدة. وقد دعّم طروحاته بالأدلة والسجلات الأرشيفية العثمانية والبريطانية.