ضمن سلسلة “ذاكرة فلسطين”، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مؤخراً، كتاب بعنوان «مذكرات أبو ماهر اليماني: تجربتي مع الأيام»، وهو إضافة غنية للتاريخ الفلسطيني المعاصر، عن تجربة مناضل صلب، ذو تجربة واسعة في العمل النقابي والثوري والسياسي الفلسطيني، ما يؤهل المذكرات لاحتلال موقعاً مميزاً في حقل السير الذاتية والمذكرات الفلسطينية.
يتحدّث اليماني “ضمير الثورة”، كما أطلق عليه جورج حبش “حكيم الثورة”، في المذكرات عن بدايات النضال الفلسطيني في مطالع القرن العشرين، وعن الحرب والنكبة والنكسة والمخيمات والشتات، وعن بدايات العمل الوطني والقومي والفدائي ورفاق المسيرة، وعن تجربة لبنان المثيرة، وغير ذلك من أحداث مما عاشته الثورة الفلسطينية المعاصرة.
يورّخ أبو ماهر اليماني (1924-2011)، في 536 صفحة، فصولاً من سيرته الغنية الطويلة، مسطراً صفحات مجيدة من كفاح الشعب الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، من ذلك؛ التاريخ النقابي والحزبي والثوري والسياسي الذي عاشه وعايشه وكان شاهداً عليه.
نقرأ في فصول المذكرات الخمسة، صوراً من طفولته التي عاشها في قرية “سحماتا” قضاء عكا، ابتداءً من شهادته على إعدام الأبطال الثلاثة؛ عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، مروراً بمراحل دراسته طالباً في مدارس صفد وعكا والقدس، وصولاً لتأريخ مراحل تأسيس الحركة العمالية الفلسطينية وأحداث حرب 1947-1949، ورحلته في الشتات، وتجربته في ميدان العمل التنظيمي الجماهيري والمهني والكثير من الأطر السياسية والشعبية في فلسطين ولبنان.
وبالتفصيل، توزعت المذكرات على فصول خمسة، حمل الأول منها عنوان «في فلسطين»، فيما الفصل الثاني جاء بعنوان «”في دنيا الشتات خارج فلسطين»، ووسم الفصل الثالث بـ «في ميدان العمل التنظيمي الجماهيري والمهني»، في حين عنون الفصل الرابع بـ «في إطار حركة القوميين العرب»، أما الفصل الخامس، وهو الأخير، فأراد الكاتب المناضل أنّ يحمل عنوان «تجربتي في إطار منظمة التحرير الفلسطينية».
مما نقرأه في الفصل الأول، قول أبو ماهر اليماني: “أيُسلب حقي وأبقى أنا حليف التشرد، أصحب ذلة عاري هنا؟ أأبقى ومن قالها؟.. سأعود إلى أرضي الحبيبة بلى سأعود.. هناك سيطوى كتاب حياتي، سيحنو عليّ ثراها الكريم، ويؤوي رفاتي. سأرجع لا بدّ من عودتي، سأرجع مهما بدت محنتي وقصة عاري بغير نهاية، سأمحو بنفسي هذي الرواية، فلا بدّ، لا بدّ، لا بدّ، من عودتي..”.
كان أبو ماهر أحد مؤسسي “إقليم فلسطين” في حركة القوميين العرب، وهذا الإقليم هو الذي تحوّل نهاية العام 1967 إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليكون فيها القائد الفذ إلى جانب جورج حبش ووديع حداد.. وأحد صنّاع مجد الجبهة التي قدّمت آلاف الشهداء والجرحى والأسرى. وقد كان ممثلاً للجبهة الشعبية شبه الدائم في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولعل أكثر ما ميّز تلك السنوات الطويلة من النضال ما كانت تشهده من مد وجزر في العلاقة بين الشعبية ومنظمة التحرير.
يركّز “حكيمُ الثورة” في المقدمة التي كتبها، عند حديثه عن أبي ماهر، على نظافة يد رفيقه ولسانه، ونزاهته الأخلاقية، وتواضعه في المأكل والملبس والعيش، والحساسية الخاصة تجاه عوائل الشهداء والأسرى التي كان الجميع يلمسها من «ضمير الثورة».
ومما جاء في مقدمة الحكيم: “آمن أبو ماهر بأنّ الشعب الفلسطيني سيبقى عصياً على محاولات كسره كلها، وأنّ الأجيال المتلاحقة ستتابع النضال لاستعادة الحقوق الوطنية الثابتة مهما طال الزمن. وإيماناً منه بهذه الحقيقة، ساهم أبو ماهر برعاية الطموحات السياسية والفكرية والثقافية والنضالية للأجيال الجديدة، وساهم في دعم الخطوات التي استهدفت دفع الجيل الجديد الذي تربى في أحضان الثورة إلى تحمل المسؤولية على امتداد أكثر من خمسة عقود من الزمن”.
ومن يطالع مذكرات أبو ماهر اليماني لا بدّ أن يخرجَ بخلاصاتٍ كثيرة، من أهمها؛ إيمانه المطلق بأنّ البعد النضالي الفلسطيني جزءٌ لا يتجزأ من النضال العربي، مهما كانت شراسةُ تآمر الأنظمة العربية، على قضيتنا الفلسطينية. وأنّ لوحدتنا الوطنية ثوابت ينبغي أن ترتكز عليها، وهي التي تبنتها قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية المتعاقبة والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وتقضي بعدم التنازل عن شبر من أرض فلسطين من النهر إلى البحر، ولا عن حق العودة إلى كامل التراب الفلسطيني.
ولا شك أنّ هذه المذكرات تعدُّ إضاءة على تجربة الحركة العمالية الفلسطينية في فلسطين وخارجها، بعد النكبة، وعلى مسار حركة القوميين العرب، والتاريخ النضالي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وما شهدته من انشقاقات مدبرة لتعطيل مسيرتها الثورية.
الواضح أنّ اليماني تعمّد الابتعاد في مذكراته، خاصة في الفصل الخامس الموسوم بـ «تجربتي في إطار منظمة التحرير الفلسطينية»، عما هو إشكالي في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، من ذلك النقاشات الحامية في حركة القوميين العرب بين اليمين واليسار، وانفراط عقد مكونات الجبهة الشعبية، بخروج جبهة التحرير الفلسطينية منها بزعامة أحمد جبريل، ووقائع المؤتمر الذي أفضى إلى خروج نايف حواتمة، وتشكيل الجبهة الديمقراطية. كذلك غيّب الحديث عن أحداث جسام مثل أيلول/ سبتمبر 1970 في الأردن، فلا ذكر لتلك الوقائع التي شكّلت مقدمات الصدام ومجرياته والنتائج التي تمخضت عنه. وتنسحب سمة الغياب على ما حدث في لبنان ما قبل “اتفاق القاهرة” وحتى الحرب الأهلية اللبنانية ودور المقاتلين الفلسطينيين فيها، ولا ذكر لجبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني. وعلى صعيد العلاقات الداخلية في الجبهة، يغيب أي كلام عن الخلافات بشأن العمل الخارجي بقيادة وديع حداد، وغير ذلك من الموضوعات التي كان من المهم معرفة موقفه منها.
جدير بالذكر، أنّ المذكرات قد صدرت بعنوان «مع الأيام»، بخمسة أجزاء، عن دار كنعان للدراسات والنشر في دمشق عام 2007.