من ساحة أومونيا، في قلب أثينا، يصل المرء إلى الأكروبولوس بعد نصف ساعة مشياً على الأقدام. ثلاثة معابد متفرقة على قمة التلة، للربة أثينا، تُشرف منها على البلاد. المعبد الأصلي هدمه الفرس عندما دخلوا أثينا وأحرقوها، قبل أن يُهزموا في معركة سلاميس البحرية، لتبدأ بعدها فترة قصيرة، ولكن عاصفة، من حياة أثينا: الديمقراطية الفاشلة، واستعباد للجيران الإغريق ولمن أسموهم “البرابرة”، وتوسع إمبراطوري نهم، ترافق مع تأسيس الفلسفة والمسرح بشقيه: التراجيديا والكوميديا. أعادوا بناء المعبد الكبير، مع معبدين آخرين أصغر حجماً، وبوابة مهيبة. لاحقاً، تحول المعبد إلى كنيسة، ثم إلى مسجد وقلعة، قبل أن يدمر الطليان أجزاء كبيرة منه في معركة مع العثمانيين، بقصف مدفعي. وفي النهاية، نهب البريطانيون معظم البقايا، في بداية القرن التاسع عشر، وأخذوها إلى متاحفهم، بعد أن دفعوا مبالغ محترمة للحاكم العثماني.
من المعبد، إلى سجن سقراط على التلة المقابلة: ذلك الرجل الذي قارنه برتراند راسل بالأنبياء، مفضّلاً الشهيد الوثني عليهم جميعاً: لم يلعن سقراط معارضيه، ولم يطلب منهم اتباعه، بل طلب فقط أن يسائلوا أنفسهم باستمرار. مثلهم، كان يؤمن برعاية الآلهة وبأنه مختار لأداء مهمة مقدسة، كما احترم الممارسات والشعائر الدينية. أقف على باب السجن، ولا أرى شيئاً في الداخل. فقط، سائحةٌ بريطانية تتمخط بجانبي، ثم تعطس بصوت يهز أركان السجن.
المسرح الأصلي الإغريقي خرائب صغيرة. ربما، هنا بالضبط، كان بيركليس ويوربيديس يدردشان حول الأساطير الدموية والقدر الذي كان الرجلان لا يؤمنان بقسوته ودورانه، كما فعل أسلافهما من الشعراء والمسرحيين والسياسيين. على بعد خمس دقائق، المسرح الروماني المهيب، والذي ما زال يُستخدم اليوم في الحفلات الكبرى. أتذكر الأقنعة المسرحية التي اشتريتُها: قناع التراجيديا مأساوي حزين، أما قناع الكوميديا فظ مخيف: كأن الضحك لا يستقيم بدون غلظة القلب.
أهرب من السياح، وأمشي على الدرب مسرعاً نزولاً إلى أثينا، متأملاً تعاليم آرسطو، الذي لم يبق من آثار مدرسته إلا أقل القليل: كالرسول محمد وأهل السنة، يميل إلى وسط الأمور دوماً. فجأة، أسمع موسيقا ساحرة: فتاة نحيلة جداً بأنف ضخم، تعزف “إريك ساتيه”. تلبس فستاناً أسود، والأورغ يبدو هارباً من القرن التاسع عشر، بهيكله الخشبي. تنظر إلي بعيون مذعورة، كأنني قناع …
أتذكر سركون بولص الذي عاش في أثينا سنيناً لا أعرف هل طالت أم لا، وكتب فيها (عنها) قصيدتين متتاليتين في أكثر دواوينه طزاجةً وحنكة: واحدة مملة جداً، يستعيد فيها أساطير المعجزة الإغريقية المكرورة المملة؛ كتبها كأنه لا يرى أثينا، كأنه مسكون بالكتب والخرافات، هو الرائي الكبير عادةً. أما في القصيدة الثانية، يستيقظ الشاعر فيه، ليكتب عن ساحة أومونيا كل ما يراه، وكل ما لا يراه الناس لأنهم يعيشون يومياً هنا. تنضح القصيدة بخليط ساحر بين الماورائي واليومي، كأن الحياة تتجلى في عيونه…
لم تتغير ساحة أومونيا كثيراً، بل يكاد ما كتبه سركون ينطبق عليها اليوم، بعد أربعين سنة. أجلس في مقهى يقع في منتصف الساحة تقريباً، معه، نتأمل بصمت الدوران القاسي العادي للزمن. أعتقد أنه سيفهم ما أقوله له. تأخرت كثيراً في قراءة شعره. لم أقتنع بأعماله المبكرة، ولا بمحاولاته في الوصول إلى مدينة أين؛ ولكنني مأخوذ بديوانيه: الطازج جداً “الأول والتالي”، والمكتوب بحنكة تمزج الأثر الأمريكي بالحساسية العراقية “عظمة أخرى”. أقول له إنهم نقلوا دائرة البريد من الساحة. أقول إن الساحة لم تعد الساحة الرئيسة للعاصمة، بل أصبحت الثانية من حيث الأهمية. أقول إن سوق القصابين ما زال هنا، على بعد دقيقتين. أكلت هناك البارحة حساء كبد الخروف، محاطاً بالدماء تسيل وبابتسامات متعبة بهية متحفزة. أخبره بأن العربات الخشبية اختفت من المدينة، ولكن الباعة ما زالوا يقفون على أبواب محلاتهم، يبيعون الموبايلات المستعملة بدلاً من الساعات الرخيصة، والأحزمة الجلدية والمظلات، والملابس، والحلويات والسندويش، “وسط تيار أهوج من السابلة”. أقول إن بائع الكستناء اختفى، لأننا في الربيع. لا بأس، في هذا الفصل، تزهر آلاف أشجار “اليوسف أفندي / الكلمنيتن” في أثينا كلها، كأن اللون البرتقالي يزيّن المدينة تأهباً لاستقبال أخبار النصر على… على من؟… يا سركون، أنا أيضاً ألجأ إلى سخافات مجاز التاريخ الميت أحياناً، ولكن لا نصر ولا فتوحات خارج المجازات، فأبطال الملاحم لا يخرجون إلى الواقع؛ ولذلك كانت الواقعية، وما زالت، هي الأصدق. في النهاية، ليست أثينا إلا مدينة عابرة، ككل المدن: لا يستنشق فيها المرء ذكريات الماضي الكلاسيكي ونفحات الحرية، كما ادعى طه حسين عندما وطأت قدماه المدينة، أو كما كتب محمود درويش عن الخيال الأثيني. الخيال الأثيني مرمي في الشوارع خلف الساحة، بين عشرات المدمنين، المسالمين، الغارقين في أحلام تافهة. لا شيء هنا يتذكره المرء إلا حنين ممض لمدن مشرقية تشبهها، وفيها أيضاً فشل أبطال الملاحم.
أرافق صديقي اليوناني ك. إلى حي “إكسارخيا”، معقل الشيوعيين والفوضويين. الجو ربيعي، والغرافيتي يملاً المكان، حرفياً: كأنه أرابيسك المسلمين، الذين يملؤون كل الفراغات، يقتلونها بمحبة وجمال؛ ولكن، على العكس من الأرابيسك، يفشل كل هذا الغرافيتي في إضافة أية مسحة جمال على الحي، ليبقى وحده شعور التمرد قائماً. كوفيات فلسطينية، على الكراسي والحيطان، وشعارات روجافا وال ب . ك. ك، بالطبع. أسأله، “أين السوريين؟”. يجيب: “اختفوا، أخذهم وزير الهجرة الجديد اليميني، كلهم، إلى معسكرات اللجوء: من الجزر، بعد أن تذمر الناس منهم، ومن الشوارع، بل حتى من البيوت التي استأجروها بعد أن حصلوا على الإذن والمال من المفوضية الأوروبية: لا يوجد سوريون في أثينا”.
كما لا يوجد مساجد. ممنوع بناء المساجد على معظم أراضي اليونان، باستثناء بقع صغيرة في الشمال الشرقي، والقانون سارٍ منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، بعد عمليات تبادل السكان المجنونة بين تركيا واليونان. المساجد، قليلة العدد أصلاً، تحولت إلى متاحف، وليس إلى كنائس: لم يحبذ اليونانيون، لا بعد حرب الاستقلال 1821، ولا بعد توحيد البلاد بعد قرن، أن يمارسوا طقوسهم في المساجد.
أطوف مع سركون في أثينا؛ يمد يديه، يلمسها: وأثينا تتفتح بين يديه، كأنها تعويض عن بلده التي لم يعد إليها ميتاً. نزور ساحة “كولوناكي”، حيث هجرته امرأة آخذةً معها “الحب، سلوقي الجنة”. نذهب سويةً إلى ما تبقى من معبد زيوس، حيث نتردد في الدخول: كلانا فقير، وكل الخرائب يجب أن يدفع المرء كي يشمها ويلمسها ويحتضنها. قطة كسول، تتمطمط، ثم تدخل المعبد عبر السور ببطء يذكّر بالأبدية نفسها. أقول له إن الحديقة الملكية خلفنا، حيث حكمت سلالة ألمانية بلاد اليونان عقب خروج العثمانيين، قد تكون نفسها حديقة أبيقور. أقول إنني معجب بأبيقور هذا كثيراً، هو الذي كان يحارب الخوف والخرافات الدينية، ويعتقد أن الصداقة أسمى من الحب. يبتسم سركون، للمرة الأولى، ابتسامة تكاد تكون… ولكنها ليست ابتسامة مرح، بل ابتسامة الفهم والتفهم؛ فقد عاش سركون وحيداً، وحيداً جداً؛ وشعره ينضح بوحدة عارمة، وحدة ناضجة: لا يتذمر منها كثيراً. لم يكن شعره متعالياً، بل أرضياً، مع مسحة ما ورائية تتصف بالتسامي وبالتواضع. يطوف في أقاصي الأرض وحده، فقيراً كقديس يبني صوامع صغيرة، كتلك التي تنتشر في أثينا، ولا تتسع لأكثر من عشرين مصلياً، بناها قديسون في العهد البيزنطي، بدلاً من الكاتدرائيات الكبرى التي غطت العاصمة القسطنطينية، بعد أن سقطت أثينا في النسيان.
سقطت أثينا في النسيان، لأكثر من ألفي سنة، منذ أن خسرت الحروب البيلوبونيزية. وحده آريسطوفان، المحافظ فكرياً وسياسياً، كتب ضد تلك الحرب، داعياً إلى سلام لم يجده. أعاد بعض الأباطرة الرومان بناء معابدها ومكتباتها، ولكنها كانت تتحول إلى مدينة صغيرة هامشية، مع ميناء تجاري قليل الأهمية: خسرت حروباً استعمارية وحشية شنتها وحركتها روح المنافسة والإمبريالية والعلم.
تاريخ أثينا حجارة متناثرة، لأزمان خلبت عقول وقلوب البشر، من الفلاسفة العرب (مسلمين وغير مسلمين) إلى النهضويين الأوروبيين، وقبلهما مدارس الساسانيين وحتى مناطقة الهنود، قبل أن يقرر قادة الثورة العلمية أن يجعلوا عالم الإغريق أضحوكة، كي يفتتحوا العصور الحديثة: ديكارت وبيكون وغاليليو، تاركين وراءهم الأساطير والمعجزات. لم يولد العلم الحديث، إلا بالمقتلة التي ارتكبها هؤلاء بحق إرث الإغريق.
على أن طه حسين وعبد الرحمن بدوي، ويوهان فولفغانغ فون غوته، يعتقدون أن الإغريق مهد الحضارة الإنسانية ومنبعها؛ وكذلك فريدريك نيتشه وكارل بوبر. لستُ واثقاً من ذلك. لطالما كنتُ متشككا بذلك الاحتفاء الأخرق بما يسمّى “المعجزة الإغريقية”. لستُ من المؤمنين بالمعجزات، على الرغم من ميولي الميتافيزيقية، التي تتزيّا دوماً بشكوكية لا-أدرية. أفضّل أن نرى المنجز الإغريقي ضمن سياقه العام، وما تدين به أثينا لمن سبقها وعاصرها.
تخرجني من تأملاتي طفلةٌ تلهو بقطعة شوكولا، وأمها المحجبة تشحذ بجانبها، بكسل وملل. لا أستطيع مقاومة ابتسامة الطفلة ووجهها ملطخ: أنفها وخدودها وجبهتها تلمع. أعطيها عشرين سنتاً. أسألها، بالإنكليزية: “من أين أنت؟” تردّ الأم، بالإنكليزية: “من سوريا”. أكلمها بالعربية، تردّ بلغة لا أفهمها. الطفلة تمسح أصابعها على بنطالي. المرأة تتأفف. أكاد أذوب، كالشوكولا التي تغطي بنطالي وأصابع الطفلة والساحات كلها في أثينا. أعطيها اثنان يورو، وأنا أتمتم، لنفسي ربما، عن الطفولة والحرب. تأخذ طفلتها، وتركض مبتعدةً عني، مذعورةً، مرددة بهيستيريا لا تناسب الموقف، بالإنكليزية: “من سوريا، من سوريا، من سوريا…”
قبيل المساء، “ينطلق الظلام كالوحش من عقاله”، يقول سركون، في خاتمة القصيدة- أغذّ الخطى إلى الساحة، أنا أيضاً، لأراقب بهدوء حذر، كيف “يخرج كل شيء من نفسه، ويطووووووووف”.