أعشاب الصيف،
كلّ ما تبقّى
من أحلام الجنود.
باشو. هايكو
بدأ الهايكو بفكرة بسيطة، تقتضي القبض على اللحظة الراهنة في صورة مباشرة، ترتبط بالطبيعة. يترافق ذلك مع ممارسة دينية ملتزمة واعية تماماً بما تفعله: أن يقبض العقل على ما يحصل هناك، في الخارج: أو، للدقة، أن يكون العقل هو ذلك الذي يحصل، الآن، في الخارج. على أنّ الهايكو، حتى عند مؤسسه باشو، يخرج من هذا التعريف مراراً: اللحظة الراهنة انساحت بين المدن، والأساطير، والمشاعر الشخصية، والتساؤلات التائهة بدون إجابات. ولكن، مهما انساحت وانزاحت، لم تتحول إلى الرمزية: لا يوجد رموز في الهايكو الياباني. لا تسمح بنية الهايكو الدينية بمثل هذه التفرعات والترهات: الرمز، أي ما يشير إلى عوالم أخرى، غير ممكن عندما نقبض على اللحظة الهاربة، اليومية، العادية، البسيطة: لا يوجد عوالم أخرى، بالأصل، في جذور الهايكو.
ولكن، كيف استطاع باشو، إذن، أن يكتب عن أحلام الجنود؟
على العكس من الهايكو والنفور العام الصيني (الذي ورثه شعراء اليابان) من الميتافيزيقيا، خلطت الحضارات القديمة الأخرى الواقع بالخيال، بشكل كلي. كانت أساطير جلجامش وأوديسيوس تاريخية وأسطورية، في نفس الوقت. يلتقي الناس العاديون بالآلهة والشياطين والأرواح بشكل دوري طبيعي. تحارب الآلهة مع الجنود، لتُهزم أحياناً وتنتصر أحياناً أخرى. وقد اشترط الحكيم أوتنابشتي على جلجامش ألا ينام سبع ليال، كي يكشف له سر الخلود.
نام جلجامش في أول ليلة، مرهقاً ككل المحاربين. هل راودته أية أحلام في ذلك الكرى الذي بسببه فاتتنا أسرار الآلهة؟
لاحقاً، سيفصل أفلاطون من جهة، وزارادشت من جهة أخرى، الميتافيزيقيا وعوالمها عن الحياة الأرضية. أصبح العالم الماورائي مفارقاً وتراندستالياً حقاً. وسيصبح التواصل محدوداً بين الآلهة وبين البشر. وستغدو الأحلام والرؤى، بحسب فلاسفة الإغريق، وورثتهم من فقهاء ولاهوتيي الأديان السماوية، دروباً مأمونةً إلى الماوراء، بخيره وشرّه.
الإمام الحسن البصري أوضح بأن الإسراء كان بالروح فقط، مستنداً إلى صحة رؤى النبي. هل كانت تلك الرؤى رمزية، إذن؟
نشأت طبقة الجنود مع نشوء الحضارة. لولا الحضارة والتمدن، لم تعرف البشرية وحشية المجازر المفتوحة والإبادة الجماعية، ولا عبقريات الشر كتيمور الأعرج وليوبولد الثاني البلجيكي، ولا الجامع الأزرق ولا كاتدرائية القديس بطرس، ولا فيزياء الكوانتم والجينوم، وربما، لم نكن لنسمع شوبان أو رافي شنكر. أول إمبراطورية في التاريخ أسسها سركون الأعظم الأكادي، وما زالت ثمارها المرُّة تُعصَر فينا. لاحقاً، سيجادل الهندوس وأفلاطون وغيرهما بأن للبشر طبائع ثابتة، وبأن طبقة المحاربين تتصف بالخير والشجاعة في جوهرها. ومع صعود الهوس بالقوميات بُعيد الثورة الفرنسية، ستتحول فكرة التجنيد الإجباري إلى شبه مسلّمة تأخذ المراهقين من عوائلهم وعشاقهم وأصدقائهم إلى القاع الذي لا مخرج منه.
اعتبر الشيخ ليون تولستوي التجنيد الإجباري علّة كل الشرور الاجتماعية. أليست الحقيقة دوماً بهذه البساطة؟
جندي يحلم بالزنابق البيضاء؟ ربما. في أفلام ياسوجيرو أوزو، يلتقي الجنود السابقون بعد نهاية الحرب، مكسورين بدون أحلام. في حيص يصر فرانسيس فورد كوبولا وأوليفر ستون على الدخول في عوالم الجنود، على تصوير حرب فيتنام كما بدت لهؤلاء المراهقين المساكين. في أحد أشهر أفلام الحرب، “تعال وانظر” للمخرج الروسي إليم كليموف، يكاد المرء يشمّ الذعر، متجسّداً في جنون المدنيين الذين يهربون باستمرار إلى أرض بلا جنود.
أخبرني محارب سابق في “أحرار الشام” بأنه لا يحلم بالمعارك على الإطلاق، كأنها لم تكن. ثم سألني، نصف ساخرٍ، وبتوجّس، بماذا تحلمون أنتم؟
دخل أبو مسلم الخراساني مدينة مرو عاصمة خراسان، في جيش جرّار. كانت البلاد في حرب أهلية مفتوحة، بين طامعين في السلطة وناقمين على ظلم الأمويين. المساواة بين الناس -مسلمين وغير مسلمين، والعدل في الضرائب، والشورى المباشرة، حرّكت الحارث بن سُريج ليقود ثورة استمرت أكثر من عقد، حالف فيها الكفار الأتراك أكثر من مرّة، مستنداً إلى بعض خيرة الفقهاء المسلمين، كالجبريّ الشهير الجهم بن صفوان، ليتحالفا مع الخليفة يزيد الناقص القدري -خصمهما في العقائد وقرينهما في العدل. هُزمت الثورة قُبيل وصول أبي مسلم، الذي رفع شعارات مشابهة، ولكنها أقل وضوحاً وأكثر تشيّعاً.
لم تراود أبا مسلم وابن سُريج رؤى صادقة، بل حركهم إيمان لا يتزعزع بالعدل. أليس هذا الإيمان الصادق الأخرق ما قتل الرجلين في النهاية؟
رسم غويا كوابيسه عن الحرب الأهلية، في لوحاته المتأخرة وفي المطبوعات الحجرية. الإسباني التنويري هذا، آمن بالعقل ودافع عنه في مواجهة الظلام والتعصب والخوف والكراهية. على أن إنجازه الأسمى كان خارج العقل، في عالم الجن والإنس الشيطاني، ليصوّر عاهرات في برجوازية فاسقة، ومارداً يطل على الكون كأنه الشر الكامن فينا، وخازوقاً يركب عليه البسطاء ليضحك الجنود بفرح هادر. رسم بدون هوادة، ودافع عن رسالته، التي نقشها بفخر على أشهر رسماته:
“سُبات العقل يصنعُ الوحوش”. ويضيف على الرسم قائلاً، “عندما تتحد المخيلة بالعقل، تصبح أم الفنون ومصدر إبداعاتها”. هل كان العقل إذن بوابة غويا الفنية إلى الماورائيات الغيبية؟
اعتبر بوسون نفسه تلميذاً لباشو. عاش حياته في ظله، وأوصى أن يُدفن في كوخه. كانت طبقة الساموراي تحكم البلد، التي أغلقها الإمبراطور أمام الأجانب، باستثناء تبادل تجاري وفكري محدود مع الصين وكوريا وهولندا. في هذه الظروف، كتب بوسون قصيدة هايكو، قد تكون صدى لقصيدة باشو حول أحلام الجنود التي تتبخر في الصيف؛ أو قد تكون صدى لحلم بوسون نفسه، أو غياث مطر، عن عالم آخر، ليس رمزياً أو متعالياً أو ما ورائياً:
المحارب يمضي في طريقه،
ناثراً قطرات الندى
بطرف قوسه!