“غَت”، فعلٌ له تأويلات، ومعانيه المتعددة، درج استخدامه بين أهالي الجولان، ويعرف بـ “الغيمة المحملة بقطرات الماء ثم تلتقي بقمة الجبل، وتغلف كل شيء، بهالة بيضاء، رقيقة شفافة، بحيث تجد نفسك مجبراً، على أن ترى الأماكن التي تعرفها عن ظهر قلب، من منظور مختلف، وبلغة ضبابية.
استخدم هذا الفعل حديثاً، ليكون عنوان معرض فني، لكل من، الفنانان شذى الصفدي، وأكرم الحلبي، حيث افتتح المعرض بتاريخ 16/6/2022، في “غاليري زاوية”، في رام الله، تحت إشراف القيمة الفلسطينية، رنا عناني.
عكس هذا المعرض مراحل متعددة، من حياة سكان الجولان الأصليين، سواء ما تم تفتيته منها، أو ما بقي، وذلك من خلال ثيمة الطبيعة، مؤطرة بفعل الغَث الذي يشكل الهالة البيضاء.
هذه الثيمة، لم تتم بمعزل عن الامتداد الهوياتي العربي للمكان، والذي عكسته الأعمال الفنية المطروحة، من مشاهد بصرية وصور تمت معالجتها وتحويرها وتحويلها، بما أظهرته، من الممارسات الحياتية اليومية، المتسقة مع سرديات الذاكرة والأسطورة.
تم عرض الأعمال الفنية في معرض “غَت”، بطريقة تقليدية، تتناغم مع النهج العالمي القديم للمعارض الفنية، بحيث تكون فيه الأعمال الفنية، مريحة ومتسلسلة بالنسبة للناظر، وقد حملت بعداً تفكيكياً، لماضٍ مستمر، وعكست، ثيمة واضحة في المجمل، وبمعاني وأشكال متعددة، متناغمة، على الرغم من الجدلية والتنوع، المحيط في منطقة الجولان السوري المحتل، والذي يشهد أيضاً تنوعا في ساكنيه، مضافاً إليه ما يفرضه المحتل، من عنف على كل مظهر من مظاهر الحياة، والطبيعة.
امتد أثر العلاقة مع الطبيعة، وتحولاتها وصوت غضبها، على جميع أعمال المعرض، وهذا ما أعكسُه هنا من خلال تحليل بعض الأعمال الفنية في المعرض، الذي بدأ، مع عمل فني بعنوان “تحديق” للفنانة الصفدي، ويطرح العمل مجموعة من الأشكال الهندسية، من تطابق وتماثل، من خلال زوايا متعددة تختفي، لتظهر شجرة التفاح الجولاني بمنظور ثلاثي الأبعاد، ولكن سرعان ما يختفي هذا التضاعف، وتعود أشكال أخرى في الظهور، هذا المشهد يحمل دلالة، مفادها، إمكانية الإختفاء، أو الضبابية، في كل لحظة، لكل مكون من مكونات الجولان. ويقابل هذا العمل الصوت أو روح شجرة التفاح التي تنسل، في العمل المعنون بـ “وشوش نجوم السما” وهي مقطوعة موسيقية مركبة للفنان الحلبي (قريبة من مقطوعات الفنان الإيراني محسن نامجو الذي يعكس الثقافة الإيرانية من خلال مقطوعاته الموسيقية ووشوشاته). عند سماع مقطوعة حلبي، يتبادر إلى ذهنك لحظة سماعها الخيط الذي يصل بين الأشياء، التي اختفت أو على وشك الإختفاء. هذا الاختفاء الذي يؤرق الجولاني، ويحاول لملمته، أو استعادة من خلال الذات، التي تصمد في وجه الأزمات المتعددة، التي يمر بها.
في المقطع ذاته تظهر أسراب الحمام محلقة بينما، الحمامة الكريمة؛ ذات الطوق حول العنق، تظهر محبوسة في القفص الحديدي، وهي تعتبر أحد أنواع الطيور المشهورة والثمينة في الجولان، ويحتل مكانة مهمة، لدى المجتمع المتدين، ويعد رمزاً لبعض العادات والممارسات الشعبية التي لها جذور في الماضي.
هذا يعني أن كل رمزية تحفظ ذاكرة المكان، يتم حبسها والسيطرة عليها من قبل المحتل، وهو انعكاس حقيقي لواقع الأراضي الجولانية التي تعاني بسبب سياسة الاحتلال. وهذا ما تؤكد عليه الصفدي في عملها الفني الذي يعكس القفص، بداخله مطوية نستطيع أن نراها، من منظورين، أحدهما الطير الكريم، والآخر هو الشال، الذي يحاول الفكاك من هذا القفص، وتؤكد صفدي أن هذا العمل يمثل لديها المسافة التي تفصل بينها وبين وصولها إلى المكان، والذكريات الملتصقة، في مرآة الذاكرة، المعلقة على أحد جدران المعرض. هذه المسافة، بما تحمله من ذكريات، تحاول الصفدي طيها، لتصل إلى المكان من جهة، والى الذكريات من جهة أخرى، ليعكس كلاهما بذلك عمق الصراع بين محتل يريد المحو، وسكان أصليين يبحثون عن كل خيط يقرب المسافة ويحفظ الذكريات.
ففي كل عمل يظهر الماضي، وفعل الاستمرارية بأشكاله المتعددة، على الرغم من حالة الصراع القائمة بسبب الاحتلال، وذلك من خلال الامتداد الطبيعي بين سكان الجولان والمنطقة المحيطة، بحيث تؤكد الأعمال أنه لا يمكن الانسلاخ عن هوية المكان العربية، سواء من خلال المشهد الطبيعي، أو البشري. ففي عمل الحلبي المعنون بـ “بدون عنوان” تظهر العلاقة بين البشر والشجر، من خلال هياكل عمودية ممتدة ومتشعبة ومتشابكة ومنفصلة لكلاهما، بحيث لا تستطيع الفصل بين الطبيعة والبشر، وحالة الفصل أو وحدانية الأمتداد للبشر أو الشجر معناها البتر للامتداد الطبيعي. هذا البتر يعني الحسرة والندم، كما تنعكس في العمل المعنون بـ “دموع” للحلبي، والذي يظهر الأعمدة البشرية والشجرية وهي تبكي. وفي عمل آخر يظهران في حالة عناق جاف وقاتم.
هذا التشابك بين البشر والشجر أو الطبيعة ككل، لا يخلو من أصوات، وحيوانات، تتمركز جلها في أعمال حلبي، والتي في جوهر كل عمل منها مقاطع، أو حروف، في داخل حيوان، أو رأس إنسان، أو آلة، وكل حرف أو مقطع يحمل دلالة، لها علاقة في واقع الجولان، برأي، والتي أراها كالتالي: (الغضب، د ج) (الضوضاء، ط ط)، (الفوضى، و ش) (الإلحاح، وز) (التسارع، البطء، المسافة، السلحفاة، النعامة، رض) ( المكان، م ج د ل) (الخفة، الرشاقة، الفراشة، ف ر) (الضجيج، ج ج) ( التأكل، العث، ع ث) (العطاء، بقرة، ب ق ر)، جميع هذه المكونات بتناقضاتها، وصلاتها، لها علاقة بدوام الإستمرارية، سواء بالإمتداد، أو التأكل للذاكرة.
هذا التآكل يظهر في العمل المعنون بـ “الوداع الأخير”، والذي يعكس، الجدران، وخربشات تظهر على شكل سياج، كأن وجودها ينذر بالتآكل بفعل التضيق، الذي امتد زمانه، مما جعل دواخل الجسد، الرأس تمتلئ بشوائب، هذا الضيق، وتكاد تنفجر، كما في اللوحة الفنية، التي تعكس رأس ضخم يكاد يتمزق، من شدة تمدده، ومزروع في اصيص، يكاد يشبه الصبار. وفي عمل آخر معنون بـ “تقيأت مثل مالك الحزين” يظهرمالك الحزين وهو يتقيأ كأنما، الشوائب التي تم حشوها في الرأس المتمدد، تم تقيؤها من قبل معدة مالك الحزين، وقد يكون في ذلك دلالة الى نهاية كل هذه الشوائب، أو بداية قطيعة عن ماضي ممتلئ بشوائب الأزمات.
حالة الصراع هذه تخلق حالة من التشظي، تقود الى ضرورة جمع هذه الشظايا مجدداً، كما فعل الحلبي في عمله المعنون بـ “تلاصق”، الذي يُظهر، إعادة جمع أجزاء الرأس الأربع ، أي أنه حتى ان كان ثمة رغبة بالقطيعة، أو فعل التقيؤ للماضي، لا فكاك من العودة، سواء من خلال فعل الطي، الذي قامت فيه الصفدي، او من خلال فعل التلاصق لأجزاء الرأس، عند الحلبي.
تنقطع الأصوات الغاضبة، الجافة، في أعمال الصفدي، لتحل محلها لغة أخرى متمثلة، بالأسرار، الطلاسم، كما في عملها المعنون بـ “استحالة” والذي تستخدم فيه، لغة بريل، والملح، لاستحالة قراءة رسائلها، كرغبة منها في إثارة الفضول والتساؤلات حول هذه الرسائل. أما اللغة الثانية التي تستخدمها فهي الغارقة، بالماء والسماء والأزرق، والأكسجين (القفص الصدري، والرئتين، المتكررة، في بعض أعمالها في المعرض)، هذه اللغة التي تظهر الوجه الأخر للجفاف والاختناق، الذي ينعكس في أعمال، الحلبي باللونين الأبيض والأسود.
وتؤكد الصفدي، على هذا اللغة المتدفقة، الغارقة بالماء والحياة، من خلال مجموعة من اللوحات، احدها معنون بـ “تدفق” وأخر بـ “غيمة نون قطناً”، وغيرها من العناوين، لكن جميعها تعكس رموز يكمل بعضها الآخر، مثل الحلقات الدائرية، المتماثلة، وبراميل داخلها ماء، ويحيط فيها عيون الكائنات الفضائية، بالإضافة الى جزء من رأس حمامة، والجزء السفلي من وجه إنسان، الأذن، بؤبؤ العين، الجمل، ذيل الحوت، جميعها أجزاء تعكس حالة من التشظي الذي يعيشه سكان، وطبيعة، الجولان. ويعود هذا العمل في الحقيقة بالنسبة للصفدي، إلى قصة حقيقية معروفة بين أبناء الجولان، وهي قصة، خزانات الماء، التي وحدت وجمعت، أهالي مجدل شمس، عندما، منعهم الاحتلال من حفر آبار المياه، اتحدوا وبنوا الخزانات، لجمع مياه المطر، لكن الاحتلال كان يقوم في هدمها في كل مرة يتم بنائها فيها، لذا قام اهالي مجدل شمس ببنائها ليلاً بأعداد هائلة، ولم يستطع الاحتلال السيطرة على عملية البناء، التي تتم ليلاً لذا، قام الاحتلال بفرض غرامات مالية على كل خزان يتم بنائه. هذا الإصرار الذي دفع السكان، إلى بناء خزاناتهم على الرغم من عنف المستعمر، هو ذاته إصرار، زهرة الجبل، على التفتح، والصمود في ظل البرد القارص في قمم الجبال، والذي تعكسه الصفدي في عملها الفني المعنون بـ “زهرة الجبل”. انضم الى صمود الزهرة هذا، صمود الطفل الصغير، واستمرار بقائه في ظل منظومة من المحظورات، والمباحات، التي تفرض على جسده الصغير الذي ما زال في طور النمو، وذلك ما انعكس في عمل الصفدي، معنون بـ “عندما كان الطفل طفلاً” والذي يفتح الباب على كم هائل من الأسئلة التي تبحث عن الذات، في فراغ يملؤه الماضي والآخر، والسلطة التي نبدأها مع الأب، والعادات، والتنوع، كل ذلك من خلال فعل التقمص الذي يفرض على الطفل الذي يظهر بالزي العسكري الى جانب شاشة التلفزيون والذي يعكس كيف يتم بناء منظومة الطاعة التي تتناغم مع السياق المفروض.
هذه الطاعة لا بد لها أن تشهد لحظات ومراحل من التمرد والعصيان، والجفاف، والتدفق، والبتر، والتلاصق، وغيرها من الجدليات التي طرحها المعرض. والتي انعكست من خلال ثيمة واحدة، بنيت على التناقضات، والتفكيك، في محاولة للبناء، على هذا التنوع، أو ربما نسفه، كما انعكس الامتداد منذ بداية المعرض إلى نهايته، لخيط الطبيعة، برموزها وطلاسمها، وما تفرضه من انظمة، كونية، أو أنظمة، ناتجة عن تدخلات المستعمر فيها.