تأريخ روحي وسياسي وثقافي للعلاقات الروسيّة-الفلسطينيّة في كتابين

أوس يعقوب

كاتب من فلسطين

ويبيّن المؤلّف في الكتاب، كيف أنّ العلاقات بين روسيّا والشرق الأرثوذكسيّ شهدت في الفترة الأولى من المرحلة الإمبراطورية ضعفاً. وكان السبب هو الحروب الروسيّة - التركية الدائمة، التي استمرت في الواقع طوال القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر أيضاً. ولم تكن مصادفة أن يسمّي أحد أفضل المتخصّصين بتاريخ الإمبراطورية العثمانية بحثه الواسع "إمبراطورية في النار"، وهو وصفٌ ينطبق على روسيّا أيضاً.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

02/01/2023

تصوير: اسماء الغول

أوس يعقوب

كاتب من فلسطين

أوس يعقوب

يعمل كاتباً ومراسلاً صحفياً لعدد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية منذ العام 1993. صدر له عدة كتب ودراسات في الشؤون الثقافية الفلسطينية والعربية. وله مجموعة دراسات منشورة ضمن موسوعة "أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين"، الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في تونس.

«فلسطين في مرآة الثقافة الروسيّة” تأليف الباحث في الشؤون الاقتصادية والجيوسياسية الدكتور محمد دياب، المحاضر في الجامعة اللبنانية، و«الوجود الروحي والسياسي الروسيّ في الأرض المقدّسة والشرق الأوسط (في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)» للمؤرّخ الروسيّ نيقولاي نيقولايفيتش ليسوفوي، بترجمة للطبيب السوري مسوح مسوح، كتابان صدرا عام 2022، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الغرض منهما إلقاء الضوء على صورة فلسطين في الثقافة الروسيّة، وإظهار مدى تأثير بلادنا في وعي الإنسان الروسيّ وانعكاسها في نتاج الأدب والفن والفكر السياسي في روسيّا، إضافة إلى تفاعل المجتمع الروسيّ مع ما خبرته الأراضي المقدّسة من أحداث مصيريّة، وكذلك بيان نشاطات نصف قرنٍ من العمل الدؤوب لرجال الدين الروس من أجل بناء وجود أرثوذكسيّ في الأراضي المقدّسة، وإبراز أهميّة دور المدارس الروسيّة التي أُنشئت في فلسطين وسوريا ولبنان في تعريف طلّابها بالثقافة الروسيّة ومساهمتها في تقديم صورة أكثر واقعية للمجتمع الروسيّ. ناهيك عن تسليط الضوء على مصير الإرث الروسيّ في الشرق الأوسط في القرن العشرين، وإعادة بعث نشاط “البعثة الروحية الروسيّة” و”الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة” في الظروف المعاصرة.

ومن المحاور الهامة التي عُنيّ بها المؤلّف، في الفصل الرابع من الكتاب، كتابات المؤرّخين والكتّاب السياسيين الروس في العصرين الإمبراطوري والسوفياتيّ، لما تحتلّه فلسطين من مكانة تاريخية مرموقة في المنطقة بوصفها جزءاً من المشرق العربي. ويلاحظ دياب أنّ بداية الحقبة ما بعد السوفياتيّة، شهدت شحاً في الكتابات عن فلسطين. معقباً: بيد أن هذه الحالة لم تدم طويلاً، فعاد المؤرّخون والباحثون السياسيون، المستشرقون والمستعربون في الدرجة الأولى، إلى إيلاء قضية فلسطين وشعبها اهتماماً متزايداً. وخلافاً لكتابات مؤرّخي الحقبة السوفياتيّة التي اتّسمت عموماً بالنظرة الموضوعية والعادلة والتعاطف مع قضية فلسطين وشعبها، فقد تنوّعت كتابات المؤرّخين والباحثين السياسيين الروس في المرحلة الراهنة بين من هو متعاطف مع شعب فلسطين، وآخر محايد، بل وميَّال إلى النظرة الصهيونية في مقاربة القضية الفلسطينيّة.

ويحفل الكتابُ بأسئلة عديدة انشغل المؤلّف بالإجابة عنها، من تلك الأسئلة: إلى أيّ مدى أثّرت فلسطين في وعي الإنسان الروسيّ؟ وكيف انعكست في نتاجات الأدب والفن والفكر السياسي في روسيّا؟ وكيف تفاعل المجتمع الروسيّ مع ما شهدته وتشهده الأراضي المقدّسة من تطورات وأحداث مصيرية؟ وما أهمية دور المدارس الروسيّة التي أُنشئت في فلسطين وسورية ولبنان في تعريف طلابها بالثقافة الروسيّة، ومساهمتها في تقديم صورة أكثر واقعية للمجتمع الروسيّ عن فلسطين.

غوغول وبوشكين وآنّا أخماتوفا يتغنون بفلسطين

يسعى الباحث الدكتور محمد دياب، في مؤلّفه “فلسطين في مرآة الثقافة الروسيّة” (156 صفحة من القطع الكبير مع قائمة مراجع غنية عربية وروسيّة وفهرس عام)، إلى إلقاء الضوء على صورة فلسطين في الثقافة الروسيّة، كما بدت في كتابات الحجّاج الروس إلى الديار المقدّسة بدءً من القرن الثاني عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وكما بدت أيضاً في انطباعات كبار الأدباء والشعراء الروس، وفي إبداعات رسامين مبدعين تركوا لوحات ورسوماً عديدة تصوّر الطبيعة الفلسطينيّة أو تجسّد أحداثاً من تاريخ فلسطين القديم، وفي مقاربات مؤرّخين ومستعربين بارزين في القرنين التاسع عشر والعشرين، وكذلك في كتابات الباحثين السياسيين المعاصرين. وفي هذا السياق يبرز المؤلّف كيف اُعتبر أدب رحلات الحجّ من روسيّا إلى الأراضي المقدّسة جزءاً مهماً من الآداب الروسيّة، ابتداءً من القرن الثاني عشر.

وقد احتفظ هذا الأدب بأهميته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أثناء خلق صورة العالم المشرقي في روسيّا، وسعي الأخيرة إلى تأكيد حضورها فيه، ومن ثم ترسيخه. ولهذا الأدب سماته الخاصة؛ إذ أكد العديد من دارسي أدب الحجّ أن هذا الأدب لم يكن يهدف إلى نشر المعرفة الدنيوية عن عالم الخليقة، وإنما ظهر من أجل هدف آخر هو التنوير الروحي، فتركَّز اهتمام الحجاج كلّه على وصف الأماكن المقدّسة، وربطها بأحداث الكتاب المقدّس. وكانت رموز الفضاء المقدّس تمثّل بالنسبة إلى الحاج موضوعاً أكثر أهمية بما لا يقاس من صور الزمن الفاني الحيّة. فما إن تطأ قدما الحاج أرض فلسطين، حتى يشعر بالانعتاق من زمنه، فيزيح القديم المقدّس الواقع اليومي المعيش. وغالباً ما كانت معاناة أحداث العهدين القديم والجديد تمحو سمات أحداث الحاضر الدنيوية.

يرى دياب أنّ العامل الأساسي الذي أثّر في وعي الحجّاج الروس إلى الأراضي المقدّسة (والعالم العربي عموماً) تَمثَّل في التغيّرات التي طرأت على عملية التطوّر التاريخي في الأساليب والتيارات الثقافية الكبرى، مستشهداً بما تذكره المؤرّخة والمستشرقة الروسيّة إيرينا سميليانسكايا عن وجود خمس حقبات أو تيارات ثقافية، تأثرت بها كتابات الحجّاج، هي: الحقبة الأولى (بداية القرن الثاني عشر حتى النصف الأول من القرن الخامس عشر)، وهي حقبة “استكشاف” الحجاج الأوائل لعالمٍ مقدّس “عرفوه” من الكتب الدينية والأساطير والأحاديث المتناقلة، وكان القمُّص دانييل أبرز ممثّلي هذه الحقبة. أما الحقبة الثانية (النصف الثاني من القرن الخامس عشر حتى النصف الأول من القرن السابع عشر)، فهي حقبة ما قبل النهضة، أو ظهور ما يسمى الفهم الأنثروبولوجي للعالم، ومن أبرز ممثّليها الكاهن فارسونوفي، والتاجران فاسيلي بوزنياكوف وفاسيلي غاغرا. والحقبة الثالثة (النصف الثاني من القرن السابع عشر حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر)، فهي ما يُعرف بـ”العصر الباروكي”، وأبرز ممثّليها الحجّاج أرسيني سوخانوف ويوحنا لوكيانوف وإيبوليت فيشينسكي. والحقبة الرابعة (منتصف القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر)، وتُعرف بـ”العصر الكلاسيكي”، الذي تميّز بالتأثير الكبير الذي مارسته أفكار التنوير على الأدب، وتمثّلت هذه الحقبة بكتابات الراهب فاسيلي غريغوريفيتش – بارسكي والأرشمندريت ليونتي زيلينسكي والكاهنين إيغناتي دينيشين وميليتي. والحقبة الخامسة والأخيرة (النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى نهايته)، فقد تميّزت بتأثير الروح الرومانسية في كتابات الحجّاج الأدباء الذين زاروا الأراضي المقدّسة حينئذ، ومن أبرز ممثّليها ديميتري داشكوف وأندريه مورافيوف وأبرام نوروف وبيوتر فيازيمسكي.

يبيّن المحاضر في الجامعة اللبنانية في دراسته الرصينة، كيف أنّ الإبداعات الأدبية المكرّسة لفلسطين والقدس أخذت في الظهور منذ بدايات القرن التاسع عشر بصورة أساسية. ففي هذا القرن (19)، زار فلسطين العديد من الأدباء والشعراء والفنانين والدبلوماسيين الروس البارزين، كان من بينهم الأدباء كوكولنيك وغوغول وبونين ودوروشوفيتش، والفنانون ريبين وفوروبيوف وبولينوف والأخوان تشيرنوفيتس، رسوماتهم عن فلسطين تحتويها أكاديمية الفنون في سانت بطرسبورغ)، إضافة إلى الدبلوماسيين دافيدوف وخيتروفو ومورافيوف، وكذلك المؤرّخ وعالم الإثنوغرافيا نوروف، وكثيرون آخرون. وكتب شعراء عظام، مثل بوشكين وليرمنتوف، قصائد من وحي الأماكن المقدّسة من دون زيارتها. وغنّى شعراء روس بارزون في تلك الحقبة فلسطين، من أمثال: ديرجافين ولومونوسوف وسوماركوف وأوبودوفسكي وغلينكا وآخرون؛ فكانت فلسطين هي الرابط الروحي الذي يشدّ الإنسان الروسيّ إلى هذه الأرض المقدّسة، هذه الأرض الموعودة. وتساءل إيفان بونين: “هل من أرض أخرى [غير فلسطين] تجتمع فيها مثل هذه الذكريات العزيزة على القلب البشري؟”.

في حين تساءل ستيبان بونوماريوف: “أليست روسيّا هي التي تربطها بفلسطين روابط وعُرى أكثر من أي دولة أخرى؟”، مذكراً القرّاء بأنّ كييف هي “أورشليم الروسيّة”. أما فاسيلي خيتروفو فقال: “إن أسماء الأماكن المقدّسة: أورشليم، الأردن، الناصرة، بيت لحم، تمتزج في مخيلتنا منذ الطفولة بأسماء مدن عزيزة على قلوبنا هي: موسكو، كييف، فلاديمير، نوفغورود”. ويأخذنا المؤلّف عبر صفحات الكتاب إلى رحلة شيقة إلى عوالم شعراء وأدباء روس كثر في القرن العشرين تغنوا بفلسطين، من بينهم الشاعر ألكسندر فيودوروف (1868–1949)، الذي كتب بعد زيارته الأراضي المقدّسة عام 1909 مجموعة من القصائد حملت عنوان “فلسطين”، فضلاً عن مجموعة من القصص. وكانت قصائد آنّا أخماتوفا (1889–1960)، وفلاديمير نابوكوف (1899–1977)، ومارينا تسفيتايفا عن فلسطين (1892-1941) في رأي الكثيرين ذروة الإبداع الشعري. كما كانت فلسطين وعاصمتها القدس، موضوعاً محبّباً لدى الشاعر الكبير نيقولاي غوميليف (1886–1921)، عضو “الجمعية الفلسطينيّة الأرثوذكسيّة الإمبراطورية”. أما شاعر روسيّا الكبير الداغستاني رسول حمزاتوف (1923–2003) فخصّص لفلسطين قصائد رائعة تنضح بالتعاطف العظيم مع قضية الشعب الفلسطينيّ العادلة.

الأراضي المقدّسة بوابة روسيّا إلى المشرق العربي

يرى المؤلّف أن الثقافة الروسيّة ارتبطت على مدى الدهر بأواصر روحيّة خفيّة لا تنفصم مع الأراضي المقدّسة ما ترك أثرًا واضحًا على تكوين الحضارة الروسيّة، مُذكّراً في سياق دراسته، بما قاله صاحب «الجريمة والعقاب» فيودور دوستويفسكي، “منذ أن ظهر الشعب الروسيّ، منذ أن نشأت الدولة الروسيّة، ومنذ أن تعمّرت الأرض الروسيّة، اندفعت قوافل الحجّاج الروس نحو كنيسة القيامة”، ومع الوقت أضحى تبجيل الأماكن المقدّسة والحجّ إلى القدس وبيت لحم أحد مظاهر الشخصيّة الوطنية الروسيّة. 

ويتوقّف الباحث في الشؤون الاقتصادية والجيوسياسية الدكتور محمد دياب، وهو من المساهمين في ترجمة كتاب «روسيّا في حوض البحر الأبيض المتوسط: حملة كاترينا العظمى في الأرخبيل» (2021)، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يتوقّف في الفصل الثالث من الكتاب عند حدثٍ بالغ الأهمية بالنسبة إلى الحضور الروسيّ في المنطقة، وهو إنشاء “الجمعية الفلسطينيّة الأرثوذكسيّة الإمبراطورية” في نهاية القرن التاسع عشر (أيّار/ مايو 1882). مستنتجاً أنّ الهدف من إنشاء هذا الكيان هو تعزيز تأثير روسيّا الروحي والثقافي في المشرق العربي. ودليله على ذلك أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن يحظى إنشاء الجمعية بدعم القيصر ألكسندر الثاني، ومن بعده ابنه ألكسندر الثالث، أحد أكثر القياصرة الروس حصافةً وبُعد نظر، وهو القائل في موعظته إلى وليّ عهده: “ليس لدى روسيّا حلفاء، سوى الجيش والأسطول”؛ أي إنّ على روسيّا أن تعتمد على نفسها حصراً، على قواها الذاتية في الصراع من أجل البقاء، وتعزيز موقعها بين الأمم. وقد كانت روسيّا ترى في انقطاعها عن المياه الدافئة عائقاً أمام تطوّرها الاقتصادي، وحاجزاً أمام امتداد نفوذها وترسيخ مكانتها بوصفها قوةً عظمى، فسعت إلى تعزيز مواقعها عند التخوم البحرية على المحيط الهادئ، وإلى ضمان حرية وصول أساطيلها إلى البحر المتوسط.

كان إنشاء الجمعية بأهدافها المعلنة وغير المعلنة، وفقاً للمؤلّف، بمنزلة ردِّ فعل بعيد الأثر على الهزيمة التي تعرّضت لها روسيّا في حرب القرم، وكانت مجرد محطة في الصراع الدائر على التركة العثمانية، ومن أجل بسط السيطرة على المضائق (الدردنيل والبوسفور) وعلى الأراضي المقدّسة. لقد وجدت روسيّا نفسها حينذاك محرومة من الوصول إلى البحار الدافئة، وبرز في وجهها خصمان رئيسان هما بريطانيا، والولايات المتحدة – الدولة الفتية الصاعدة – أو بالأحرى رأس المال المالي البريطاني والأميركي المهيمن في هذين البلدين. كما عملت دول أخرى أيضاً على الوقوف في وجه روسيّا وإعاقة تقدّمها جنوباً، هي فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا، وقد تمكّنت جميعها في السابق من حجز مواقع استراتيجية لها بوصفها دولاً استعمارية في البلدان الجنوبية. وفي هذه الظروف خرجت فكرة إنشاء الجمعية إلى النور.

ولفهم أبعاد السياسة الروسيّة في المشرق العربي من بوابة الدين المسيحي الأرثوذكسيّ، يجدر بنا قراءة ما توصل إليه أيضاً الباحث في الدراسات الإسلامية سليم هاني منصور، الأستاذ في الجامعة اللبنانية، في كتابه «البعد المسيحي للسياسة الروسيّة في المشرق العربي» مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2021)، من أنّ علاقة روسيّا بالمسيحية والأرثوذكس (اعتنقت روسيّا المسيحية رسمياً عام 988م)، واهتمامها بالأراضي المقدّسة ودفاعها عن الأرثوذكس في مواجهة المذاهب الأخرى مثل الكاثوليكية والبروتستانتية. يعود إلى أنّ الأرثوذكسيّة جزء لا يتجزأ من السياق القومي الروسيّ، وهي جزء من السطوع الثقافي والفكري والأدبي والموسيقي، حيث تعد أيضاً الكنيسة الأرثوذكسيّة خط الدفاع الروحي الأهم عن الهوية الروسيّة. مبرزاً في السياق؛ أنّ الروس شعب يتعلّق بإرث الأجداد شديدي الإيمان، الأمر الذي يجعلهم يرفعونهم إلى مقام القديسين العظام. فالطوباوي سيرغي في القرن الرابع عشر، يعد الأب الروحي الأبرز ليس للكنيسة فقط، بل للأراضي والبلاد والوعي التاريخي للروس، وضريحه في ضواحي موسكو يعد محج كل روسيّ أرثوذكسيّ وغير أرثوذكسيّ أيضاً. ومع انشقاق الكنيسة الشرقية (الأرثوذكسيّة) وفصلها عن الكنيسة الغربية الكاثوليكية، باتت موسكو تعد بمنزلة “روما الثالثة”.

تناقض تاريخي للوجود الروسيّ في القدس

نيقولاي نيقولايفيتش ليسوفوي، مؤلّف الكتاب الثاني، «الوجود الروحي والسياسي الروسيّ في الأرض المقدّسة والشرق الأوسط (في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)» فيلسوف ومؤرّخ وناشط اجتماعي روسيّ، وعضو “الجمعية الفلسطينيّة الأرثوذكسيّة الإمبراطورية” منذ عام 1974 حتى وفاته في عام 2019،

جاء الكتاب في 768 صفحة، ويندرج ضمن كتب (سلسلة ترجمان) التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ونقرأ في تقديمه: “هو أول كتاب في التاريخ الروسيّ يعتمد على الوثائق المتعلّقة بالتناقض التاريخي للوجود الروسيّ السياسي والروحي في القدس والشرق الأوسط، ويسرد بالتفاصيل الدقيقة نشاطات نصف قرن من العمل الدؤوب لرجال الدين الروس لبناء وجود أرثوذكسيّ في الأراضي المقدّسة، ويبحث انتظام هذا العمل، الذي كان فردياً حيناً، وبرعاية أعلى المرجعيات السياسية في الإمبراطورية الروسيّة، حيناً آخر، ومن ثم مأسسة ذلك كلّه في: “البعثة الروحية الروسيّة إلى القدس”؛ “اللجنة الفلسطينيّة”؛ “اللجنة الفلسطينيّة التابعة لإدارة آسيا في وزارة الخارجية”؛ “الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة”؛ ومن ثم “الجمعية الروسيّة الفلسطينيّة” في ظل الحكم الشيوعي. كما يتناول الكتاب، أيضاً، مصير الإرث الروسيّ في الشرق الأوسط في القرن العشرين، وإعادة بعث نشاط “البعثة الروحية الروسيّة”؛ و”الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة” في الظروف المعاصرة.

يقترح المؤلّف في بحثه، ثلاث مجموعات من العوامل: الدينية، والسياسية، والاقتصادية، ناسباً أول هذه العوامل (الدينية) إلى عاملين: العلاقات بين الكنائس داخل الوحدة الكنسية للكنيسة المسكونية الأرثوذكسيّة من جهة، وتطوّر الحج الأرثوذكسيّ إلى الأرض المقدّسة من جهة أخرى. لافتاً إلى أنّ الوحدة الكنسية للكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة مع كنيستَي القدس وأنطاكية، وغيرهما من الكنائس الأخرى، يمكن اعتبارها كلّها مؤشراً لا علاقة له بالزمن أو “الموضة” أو الظروف السياسية. 

ويرى المؤرّخ الروسيّ أنّ الحروب والنشاطات الدبلوماسية تُعتبر من العوامل السياسية، وأنّ العوامل الاقتصادية تتألّف من قوى عدة موجِّهة. مفصلاً ذلك، بأنه يدور الحديث أولاً “عن المساعدات المادية التي كانت تقدّمها الإمارة، ثم القيصرية الروسيّة، وفي ما بعد الإمبراطورية الروسيّة، إلى البطريركيات الأرثوذكسيّة في الشرق الأوسط. وقد كانت هذه المساعدات تحمل أحياناً طابع ضخٍّ مقطوعٍ من الدولة والكنيسة، وأحياناً تأمين دخلٍ ثابت للبطريركيات الشرقية على حساب الممتلكات في القوقاز وبيسارابيا (مولدافيا) فيما بعد”، (وهذا أيضاً متعلّق بالحروب والجهود الدبلوماسية). بحسب ليسوفوي.

أما ثانياً، فعلينا -والكلام لمؤلّف الكتاب- أن “نذكر المساعدات الإنسانية للعرب المحلّيين، التي كانت تجري في إطار النشاط الكنسي التنويري (المدارس التي أقامتها “الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة” في الشرق الأوسط)، أو في إطار الدعم السياسي لهذه الدولة أو تلك، أو لأي حركات أخرى”. فيما يشدّد في النقطة الثالثة والأخيرة، على أنّ “العامل الاقتصادي الأهم والأكثر توثيقاً هو ممتلكات الدولة والكنيسة والجمعيات في الأرض المقدّسة. حقّاً إنّ الممتلكات غير المنقولة وما نما خلال 150 عاماً عليها، هي قاعدة للبنية التحتية القوية، لما يسمى فلسطين الروسيّة، تحدد الوجود الروسيّ في القدس وفلسطين وتثبته”.

ويشير المؤلّف الروسيّ في كتابه، إلى أنّ زيارة بطريرك القدس ثيوفانيوس لروسيّا، في عام 1619، شكّلت افتتاحاً للطريق نحو موسكو بالنسبة إلى كثير من الممثّلين المهمين لكنيسة القدس. وتلخصت دبلوماسية بطريرك القدس في أنه استطاع أن يعطي انطباعاً مفاده أنه، شخصيّاً، يتعلّم لدى الروس ولا يتطفل عليهم بالتوجيه. كما كتب مؤرّخ العلاقات الروسيّة مع القدس ن. ف. كابتيريف: “كانت الحياة الكنسية الروسيّة منذ منتصف القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن السادس عشر منغلقة على نفسها، وانعزلت عن الحياة الكنسية اليونانية آنذاك، وبذا أصبحت غير قابلة بقدراتها الخاصة أن تحلّ ما يعترضها من مسائل وقضايا. لذا كانت مضطرة إلى طلب المساعدة من الكنيسة المسكونية اليونانية”. وفي نهاية القرن السابع عشر، كان من المهم والصائب ترشيح بطاركة القدس لمهمة الحَكم والمستشار حتى في القضايا السياسية.

ويبيّن المؤلّف في الكتاب، كيف أنّ العلاقات بين روسيّا والشرق الأرثوذكسيّ شهدت في الفترة الأولى من المرحلة الإمبراطورية ضعفاً. وكان السبب هو الحروب الروسيّة – التركية الدائمة، التي استمرت في الواقع طوال القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر أيضاً. ولم تكن مصادفة أن يسمّي أحد أفضل المتخصّصين بتاريخ الإمبراطورية العثمانية بحثه الواسع “إمبراطورية في النار”، وهو وصفٌ ينطبق على روسيّا أيضاً.

تغيّرات جذرية بعد قيام دولة الاحتلال

شكل اغتصاب فلسطين وقيام دولة الاحتلال منعطفاً في مسار سياسات الروس في القدس، من ذلك ما يذكره المؤلّف عن تعلّق انبعاث “الجمعية الروسيّة – الفلسطينيّة” في أواسط القرن العشرين بالتغيّرات الجذرية التي حصلت في الشرق الأوسط. حيث جرى الإعلان في 14 أيّار/ مايو 1948 عن قيام دولة إسرائيل. وفي 30 تشرين الثاني/ نوفمبر، وصل إلى القدس أول طاقمٍ للبعثة الروحية الروسيّة. ثمّ صدر أمرٌ من مجلس الوزراء السوفياتيّ (رقم 175рс)، في 25 أيلول/ سبتمبر 1950، يقضي بعودة ناشطي الجمعية الفلسطينيّة، وبالتصديق على فروع ممثّليتها في دولة إسرائيل.

ويوضّح أن كل موجة نشاطٍ جديد للجمعية الفلسطينيّة ارتبطت بشكلٍ أو بآخر، بتغيّر الوضع في الشرق الأوسط، إذ ظهرت مرحلة جديدة في حياة الجمعية مع بداية السبعينيات من القرن العشرين. وبعد حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو 1967، قطع الاتحاد السوفياتيّ علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل. وغادر إسرائيل جميع ممثّلي الاتحاد السوفياتيّ، ومنهم ممثّل “الجمعية الروسيّة – الفلسطينيّة” الذي كان يقيم، منذ آذار/ مارس 1951 حتى حزيران/ يونيو 1967، في مقر قيادة الجمعية، في “مجمّع سيرغي” في القدس.

ويذكر المؤرّخ الروسيّ أنه كان لقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل تأثيران في “الجمعية الروسيّة – الفلسطينيّة”. أولاً، أنها لم تعُد ممثّلية الجمعية إلى عملها حتى ذلك الوقت. ثانياً، طالب الجهاز الحكومي – الحزبي بنشر دعاية معادية للحركة الصهيونية. وعلى هذه الركيزة، انضمّ إلى “الجمعية الروسيّة – الفلسطينيّة” العديد من العلماء والإعلاميين المتخصّصين بالتاريخ المعاصر لإسرائيل والشرق الأوسط، وبالحرب الأيديولوجية، ومن فرع موسكو للجمعية أيضاً، فضلاً عن قسم “العلاقات الأدبية بين الشرق والغرب”.

أما في تسعينيات القرن العشرين، ومع تعاظم الدور الروسي الجديد في الأراضي المقدّسة، فالحال كما يُخبرنا المؤلّف المؤرخ الراحل نيقولاي نيقولايفيتش ليسوفوي تبدل، حيث ظهرت موجة نشاطٍ جديدة متعلّقة بإعادة العلاقات الدبلوماسية السوفياتيّة بدولة إسرائيل، والتغيير في المفهوم التقليدي للسياسة الخارجية في الحقبة السوفياتيّة. أمّا في الوقت الحالي (تاريخ تأليف الكتاب)، فيرأس “الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة” المؤرّخ الروسيّ البارز، العضو المرشح لأكاديمية العلوم الروسيّة، ي. ن. شابوف، الذي انتُخب رئيساً للجمعية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2003.

الكاتب: أوس يعقوب

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع