الرهينة الأبديّة

Landscapes, Shitao; Zhu Ruoji, Chinese, ca. 1690s

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عقب وصول موجات من اللاجئين السوريين إلى الغرب، حذّر من استقبالهم الدالاي لاما، الأب الروحي لبوذية التيبت، الذي يتجسّد فيه، حرفياً بحسب المؤمنين به، روح أفالوكيتسافارا، البوذا لمشهور بإله الرحمة – وهو غير البوذا التاريخي المعروف. تشكل بوذية التيبت أكثر أشكال البوذية تمسكاً بالسحر، وبالهرمية الصارمة والتبعية المطلقة للمعلّم.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

05/02/2023

تصوير: اسماء الغول

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عدي الزعبي

في فيلم عن الفن البوذي، ضمن سلسلة وثائقية عن فنون الإيمان Art of Faith، يزور الصحفي البريطاني ومعدّ الأفلام الوثائقية جون مكارثي مواقع ومعابد بوذية متنوّعة، تتوزّع بين الهند وكمبوديا والصين واليابان. أشهرها وأكثرها إثارةً كهوف لونغمين Longmen  قرب مدينة لويانغ الصينية. للدقة، ليستْ كهوفاً، بل مجموعة هائلة من التماثيل نحتها الفنانون، على مدى قرون، في الجبل. 

تعرّضت الكهوف لثلاث هجمات حطمت نصف كنوزها: الطبيعة ومناخها المتقلّب، والنهب المدروس في بدايات القرن العشرين، والتخريب المتعمّد في منتصفه. الطبيعة مارستْ دورتها التي ادّعى البوذيون والهندوس والطاويون أنها بلا بداية ولا نهاية، على العكس من الأديان الإبراهيمية والفارسية (زارادشت وماني) التي وضعتْ حدّ بداية الخلق ونهايته بوضوح وصرامة. النهب مارسه اليابانيون والأمريكيون والإنكليز والفرنسيون، الذين سرقوا آلاف التحف والتماثيل، مشوّهين بعض ما بقي منها، كي يعرضوها في متاحفهم الباردة بلا قلب. أما التخريب فقام به طلّابٌ مراهقون بناءً على أوامر الرفيق ماو في عهد “الثورة الثقافية”، ليدمروا عشرات آلاف المعابد والمخطوطات والقطع الفنية، بما فيها بعض تماثيل الكهوف، كي تتخلّص البلد من الخرافات والفكر الإقطاعي الذي يعشعش فيها، بحسب عقلانية الرفاق الشيوعيين حينها. وميزان العقلانية يميل في أغلب الأحيان إلى تبرير العنف والعنصرية والطبقات والاستعمار: من كراهية أفلاطون وأرسطو للديمقراطية، إلى تلميذهم النجيب ابن رشد واحتقاره للعامة، وصولاً إلى الفيلسوفين جيمس مل وابنه جون ستيوارت موظّفي الشركة الهندية البريطانية والمنظّرين للحكم الاستعماري وإذلال السكان الأصليين بحجّة تخلفهم ولا-عقلانيتهم ودينهم المليء بالخرافات.  

في قلب الجبل، يقبع أضخم تمثال لبوذا في المنطقة، وأشهرها وأكثرها تأثيراً بالنفس (من القرن السابع الميلادي من عهد أباطرة تانغ): يعتقد الصينيون أنه يبتسم، تلك الابتسامة الخفية التي تحمل المحبة والطمأنينة لكل الكائنات الحية. بوذا رفض نظام الطبقات كلياً والعقلانية التي بررتها، وربما، كان هذا بالضبط ما جعله ينشق عن معاصريه، ليؤسس ديناً يقوم على المساواة والشفقة أساساً للحياة. 

يقول مكارثي إنه خلال فترة احتجازه الطويلة، خمس سنوات في أقبية بيروت، فكّر بممارسة التأمل، ولكنه لم يقم بذلك. خطفَ حزبُ الله الصحفيَّ الشاب، مع أكثر من مائة آخرين من الغربيين، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي في معمعة الحرب الأهلية الطويلة. يبدو لي أن السلسلة الوثائقية، التي أنجزها بعد عشرين سنة من إطلاق سراحه، عن الفن والإيمان، أشبه بمحاولة للتأمل في المعنى والماورائيات والأمل المتفلّت من أيدينا. 

سنة 2009، اغتيل عماد مُغنية، المسؤول عن عملية خطف مكارثي وغيرها من العمليات التي استهدفت المدنيين العرب والغربيين واللبنانيين، في حي كفرسوسة الدمشقي، أو، للدقة، في القسم الغني من الحي. إذ ينقسم الحي إلى “التنظيم” والحي القديم، الأول للأغنياء والثاني للطبقة الوسطى والوسطى الدنيا. يبدو الأول امتداداً لتجمع ضخم من المباني الحكومية والأمنية؛ أما الثاني، فيشكل حياً تقليدياً، وبينهما ينتصب جامع كفرسوسة، الذي سيتحوّل إلى أكبر تجمع في دمشق للثورة السورية، وخطيبه عبد الكريم الرفاعي يحثّ الناس علناً على الخروج على حاكمٍ لا ينصت إليهم ولا يكترث بهم.

مصادفةً، قبيل ساعات من الاغتيال، كنتُ برفقة صبيّة سمراء قرب مكان الانفجار، مرتبكاً في نهاية عشرينياتي، أتفوّه بحماقات الشباب عن الحب والكتب والحشيش، الذي يتاجر فيه مُغنية وحزب الله ويصلنا بكمياتٍ معقولة من البقاع اللبناني، في واحدٍ من تلك المساءات الشفيفة الشتوية الدافئة الدمشقية. لم أكترث كثيراً بالمقتول، ولكن الخوف اجتاحني من أن تكون الكاميرات -التي عرفتُ لاحقاً أنها مزروعة في بعض أركان الحي لحماية مُغنية- قد تشكّل الدليل على علاقتي بصبيةٍ لم يكن أهلها النافذون ليقبلوا بأقل من الذبح، الذي يتجلّى لنا برقّةٍ مرحةٍ مذعورة، كما يتغنّى به التراث العراقي: “لويشوفونك عمامي، يذبحونك وانا إيش بيديّه؟” 

 شقيق عماد مغنية استُشهد في بيروت سنة 1985، في “بئر العبد”، عندما حاولت المخابرات الأمريكية الانتقام من الشيخ محمد حسين فضل الله، المقّرب من حزب الله، والذي اشتُهر بين الشيعة بإنكاره حادثة كسر ضلع فاطمة الزهراء على يد عمر بن الخطاب. تفجير “بئر العبد” أسفر عن مقتل أكثر من 80 مدنياً وجرح أكثر من 250 آخرين.

سوف يعود تيري وايت، الرهينة الأشهر بين أولئك الغربيين وممثل الكنيسة الأنغليكانية، وجون مكارثي إلى بيروت، ويلتقيان حسن نصر الله. مكارثي، بقلب يفيض الإيمان، يريد فهم الماضي، والشيعة، ومعنى ما حصل. أما تيري وايت، الذي ردّد وليد جنبلاط مقولة حزب الله بأنه كان مرتبطاً بالمخابرات الغربية، بعد سنوات من انتهاء أزمة الرهائن، فقد طلب من نصر الله أن يحمي المسيحيين السوريين سنة 2012: فيما كانت البراميل تشعّ كنجوم عيد الميلاد على رؤوس السكان السنّة، يحاصرهم حزب الله الذي خطف وايت نفسه. من بين كل الرهائن المدنيين، كان الصحفي والأكاديمي الفرنسي ميشيل سورا الوحيد الذي أعدمته ميليشيا حزب الله، وكان الوحيد الذي حلّل دولة البعث السوري، والبنى الطائفية التي تقوم عليها. 

عقب وصول موجات من اللاجئين السوريين إلى الغرب، حذّر من استقبالهم الدالاي لاما، الأب الروحي لبوذية التيبت، الذي يتجسّد فيه، حرفياً بحسب المؤمنين به، روح أفالوكيتسافارا، البوذا لمشهور بإله الرحمة – وهو غير البوذا التاريخي المعروف. تشكل بوذية التيبت أكثر أشكال البوذية تمسكاً بالسحر، وبالهرمية الصارمة والتبعية المطلقة للمعلّم. عندما اجتاحت القوات الصينية التيبت، دمرت بشكل متعمّد تلك الهرمية، وحوّلت البلد إلى تابع للصين، بعنف الدولة الحديثة وعسكرها، ثم نفت الدالاي لاما إلى الهند. مثل الإسلام والمسيحية، تراوح موقف البوذية من السلطة السياسية بين التواطؤ والرفض: الشفقة طُوّعت حسب الظروف. 

أبو الريحان البيروني تذمّر من الدمار الهائل الذي أنزله غزو السلطان محمود الغزنوي على شمال الهند، ذلك الغزو الذي سجّل نهاية وجود البوذية في المنطقة، بعد تراجع مستمر لقرون: انزوى الرهبان في الجامعات مبتعدين عن العامّة، فيما امتصت الهندوسية الصاعدة الوجود والفكر البوذي، حتى أصبح بوذا نفسه أصبح أحد تجسدات الإله الهندوسي المفضّل فشنو. دمر المسلمون بقيادة السلطان محمد الغوري، خليفة الغزنوي، المعابد والجامعات البوذية عن بكرة أبيها، ونهبوها بعنفٍ لا سابق له في تاريخ شبه القارة الهندية. لم يقم العرب قبلهما، ولا الخلفاء المُغال-أحفاد تيمور بعدهما، بمثل هذه الحملات العنيفة. 

في فيلم “خارج الحياة”، أعاد مارون بغدادي سرد قصة الرهائن الغربيين، من وجهة نظر المخطوف: بدون معنى وبدون شفقة، تخطف الميليشيا صحفياً فرنسيا لسنين. ولكن، في مشاهد ولمحات قصيرة، نطّلع على حياة الخاطفين العجيبة والقاسية، إلى أن نبلغ المشهد الأخير، حيث تتجلى وحدة الوجود في أعمق معانيها: بعد تحريره بشهور، يغادر الصحفي حفلَ عشاء في باريس، ليهاتف بيروت، والكاميرا تجول في خراب كبير لا نهاية له، فراغٍ يبدو كأنه أصل الكون أو نهايته؛ ورنين الهاتف المستمرّ بدون إجابة يجسّد شعور المعاناة، والشفقة. وكلا الأمرين، من صُلب العقيدة البوذية، أطلق القدرات الفنية الهائلة في الصين واليابان ودول جنوب غرب آسيا. فالفن، في أحد جوانبه، تجسيد للمعاناة، أو للشفقة، أو لكليهما. 

عندما وصلت البوذية إلى الصين، اختلطت بالطاوية بالتدريج، وأصبحت الكونفوشية فلسفة الحكم الرشيد: يستطيع المرء أن يعتنق الإيديولوجيات الثلاث معاً، كما فعل معظم المثقفين، الذين أصبحوا عملياً رهباناً بوذيين في معظم الأحيان. أحد أولئك الرهبان، الرسام والشاعر والخطاط شيتاو Shitao (1642-1708) هرب من غزو المنشوريين متنقّلاً بين معابد بوذية، ثم عمل مع الغزاة فترة في البلاط، وفي النهاية عاد إلى قريته، هاجراً الدنيا، ليمضي ما بقي من عمره في معبد بوذي صغير، يتأمل المعاناة التي تشكل لبّ الكون.

على طريق العودة، كتب القصيدة التالية: 

في أعالي الجبال

الألوان الخلّابة باردة،

هنا حيث الغيوم الطافية البيضاء

تكفّ عن البياض. 

الكاتب: عدي الزعبي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع