يتتبّع كتاب «المتفائل.. سيرة حياة توفيق زيّاد الاجتماعيّة». رحلة القائد الشيوعيّ البارز المناضل والشاعر الفلسطينيّ توفيق زيّاد (1929-1994)، رئيس بلديّة الناصرة لسنوات طويلة، منذ نشأته الماركسيّة المناهضة للاستعمار في ظلّ الحكم البريطانيّ وصولاً إلى نضاله لقيادة المقاومة بعد عام 1948، وصعوده إلى الشهرة شاعراً ثوريّاً في ستينيّات القرن العشرين، ضمن جيل شعراء شارك في تشكيل هويّة الفلسطينيّين الوطنيّة، والتعبير السياسيّ عنهم.
الكتاب صدر مؤخراً في مدينة رام الله، عن “المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة” (مدار)، وهو من تأليف الباحث وعالم الاجتماع الإسرائيليّ اليساريّ بروفيسور تَمير سوريك، وترجمه عن الإنكليزيّة الباحث والمحاضر الأكاديميّ الفلسطينيّ باسيليوس حنّا بواردي، الأستاذ في قسم اللغة العربيّة في “جامعة بار إيلان”، وقدّم له الباحث في الشؤون الإسرائيليّة والناقد الأدبيّ أنطوان شلحت.
الخوض في معاني السيرة الذاتيّة والسياسيّة
يعدُّ الكتاب، الذي أصدره سوريك بالإنكليزيّة (منشورات جامعة ستانفورد – 2020)، والذي يقع بنسخته العربيّة الأولى في 280 صفحة، أوّل سيرة اجتماعيّة حول حياة الشاعر والمناضل والقائد الفلسطينيّ توفيق زيّاد، الذي قضى في حادث سيارة مروع يوم الخامس من تموز/ يوليو 1994، وهو في طريق عودته إلى الناصرة من مدينة أريحا بعد مشاركته في استقبال الرئيس ياسر عرفات برفقة قيادات وعناصر منظمة التحرير بعد إبرام اتّفاق أوسلو المشؤوم، وذلك منذ نشأته بفلسطين في ظلّ الانتداب البريطانيّ وصولاً إلى نضاله داخل صفوف (الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ) بعد النكبة عام 1948، وبداية صعوده كشاعر ثوريّ في ستينيّات القرن العشرين، ضمن جيل شعراء شارك في تشكيل هويّة الفلسطينيّين الوطنيّة، والتعبير السياسيّ عنهم. متوقّفاً عند مسيرته السياسيّة كأوّل رئيس بلديّة شيوعيّ في الشرق، ومأزقه في أعقاب هزيمة الأنظمة الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة، وصراعه مع الحركة الإسلاميّة، واندفاعه المتفائل وسط “عملية أوسلو” في أوائل التسعينيّات، مع أنّه لم يعِش ليشهد انهيار الاتّفاق المشؤوم. وهذا الكتاب؛ “ليس سوى عرض متعاطف لشخصيّة سياسيّة وثقافيّة فلسطينيّة من قبل عالم يهوديّ إسرائيليّ. إنّه نتاج جهد الكاتب للانخراط بجدّية مع الثقافة والسياسة الفلسطينيّة من خلال البحث في حياة توفيق زيّاد وشرح سياق عمله السياسيّ والخوض في معاني السيرة الذاتيّة والسياسيّة لعمله الشعريّ”. وفقاً للمؤلّف.
قسّم سوريك كتابه هذا إلى فصول عشرة هي: “الشيوعيّة ومعاداة الاستعمار، الصمود، شارات الحداثة، في مرمى النيران، الصراعات البلديّة، والقيادة القُطريّة، أطفال في أرض المعركة، حرب مقدّسة علمانيّة، عصا في عجلة التاريخ، وأوسلو: السماء هي الحدود”. في إجابته على سؤال طرحه الكاتب الفلسطينيّ إياد البرغوثي على مؤلّف الكتاب، في حوار أجراه معه في شباط/ فبراير الماضي، ومفاده: “متى قرّرت أن تكتب كتاباً عن توفيق زيّاد؟”. يجيب تَمير سوريك، قائلاً: “في الوقت الذي كنت أعمل فيه على مشروعي وكتابي السابق حول تخليد الذكرى والذاكرة الجماعيّة في أوساط الفلسطينيّين المواطنين في إسرائيل، اطّلعت على مواد كثيرة جداً، وظهرت شخصيّة توفيق زيّاد كلّ مرّة من جديد في العديد من المحطّات التاريخيّة المركزيّة؛ في يوم الأرض طبعاً، وفي انتصار (الجبهة) [الجبهة الدّيمقراطيّة للسّلام والمساواة] في الناصرة، ومخيّمات العمل التطوعيّ هناك، شخصيّته جذبتني..”. وبسؤاله عن الذي جذبه تحديداً بشخصيّة زيّاد؟ أجاب: “لا بدّ أنّها الكاريزما، فهذا ما جذب أيضاً الكثير من الناس إليه أيضاً، وكذلك الطريقة المباشرة التي خاطب بها الناس. لكن أعتقد أنّ هناك شيء آخر أيضاً، هو انتمائي لمجموعة صغيرة من اليهود الإسرائيليّين المتضامنين مع النضال الفلسطينيّ، الذين لا يريدون الفصل ويعترفون بأنّ هناك ظلماً عميقاً ويسعون لتغييره. بالنسبة لي، قائد مثل توفيق زيّاد، الذي ناضل من أجل الحقوق الفلسطينيّة دون هوادة، كان نضاله مغروزاً في سياق أمميّ عميق ومحتوٍ للنضال الطبقيّ، ومتضامن مع التمييز ضدّ اليهود الشرقيّين، ونضاله من أجل المساواة الجندريّة..”.
ويذكر شلحت في المقدّمة أنّ سوريك أشار في كتابه هذا، إلى أنّ “الخيوط التي استعملها في حياكة سرديّة حياة توفيق زيّاد مستمدّة من مصادر عدّة، فهو يقدّم طفولته من شظايا ذكريات زوّده بها زيّاد نفسه من خلال مقابلات عديدة تبدأ في منتصف السبعينيّات من القرن الماضي، وكذلك من ذكريات أصدقاء طفولة ومعارف، وحاول أن يضع هذه القصص في سياقاتها التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة وخلفياتها الأوسع، أما بالنسبة إلى الفترات المتأخرة، فهو يعتمد بصورة شديدة على مقابلات وأحاديث مع أفراد العائلة، والأصدقاء، والمعارف، وكذلك مع شركاء ومنافسين سياسيّين”. ولئن كانت الكتب التي تعالج شعر زيّاد -بحسب الناشر- تبدأ عادةً بعرض مختصر عن سيرته الشخصيّة والسياسيّة، لكنّها تُعدّ ثانويّة بالنسبة لشعره وغير قائمة على أبحاث أوّليّة، فإنّه بحكم كون تَمير سوريك عالم اجتماع أقدمَ على عكس الترتيب؛ تعامل مع الشعر أوّلاً وقبل أيّ شيء كوثيقة من سيرته الذاتيّة، واعتبره نافذة على تجربة زيّاد الذاتيّة لأحداث شخصيّة وسياسيّة، كذلك اعتبره أداة استعملها زيّاد كقائد سياسيّ.
ونقرأ في تمهيد الكتاب أنّه “في العام 1954، كان الفلسطينيّون الذين بقوا تحت الحكم الإسرائيليّ لا يزالون يستردون عافيتهم من الصدمة الجماعيّة للنكبة، المتمثّلة بطرد نحو 750 ألف فلسطينيّ من المنطقة التي أصبحت إسرائيل في العام 1948، وبتدمير مئات القرى، وكذلك طرد غالبية الفلسطينيّين من مراكز المدن.. خلال فترة قصيرة تغيّرت مكانة أولئك الذين بقوا بصورة عنيفة، فقد تحوّلت مكانتهم من جزء من أغلبيّة واثقة بنفسها إلى أقليّة تعيش تحت حكم عسكريّ عدائيّ، لقد فقد الناس الصلة مع أفراد عائلاتهم الذي طُردوا، والحكام الجدد كانوا يعاملونهم على أنهم دخلاء غير مرغوب فيهم في وطنهم، بينما كانوا يشاهدون التغيير الجذريّ للمشهد أمام أعينهم.. فقد كثيرون أراضيهم وأملاكهم وكانوا يحاولون التأقلم مع وضعهم الاجتماعيّ الجديد.. كان الفقر والبطالة شائعَين بينهم، وكان الاقتصاد الجديد في بنيته منحازاً ضدّهم”.
شعرنا الثوريّ هو امتداد لشعر السلف الثوريّ
ممّا جاء في مقدّمة الكتاب، التي وضعها شلحت: “في ما يخصّ نتاج زيّاد الشعريّ أرى من الواجب أن نعيد إلى الأذهان أنّه كان من جيل الشعراء الذين جسّدوا بواكير حركة الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة في أراضي 1948 بعد النكبة، وكانوا بمنزلة وعاءٍ حافظٍ للهويّة الوطنيّة، في وجهتين محدّدتين بالأساس، فرضتهما عوامل موضوعيّة: أوّلاً، في وجهة التمرّد على النسيان؛ ثانياً، في وجهة شحن الذاكرة الجماعيّة لفلسطينيّي أراضي 48 بحقول خصبة من الدلالات التاريخيّة والثقافيّة المرتبطة بالنكبة وآثارها، والمرتبطة، أيضاً، بالهويّة الوطنيّة للفلسطينيّين”.
يضيف الناقد الفلسطينيّ: “وكان الشعر، من ناحية تاريخيّة، السبّاق في النتاج الأدبيّ، ولعلّ أحد عوامل ذلك، وإن كان ليس أكثرها أهمّيّة، كون الشعر يستطيع أن ينتشر من دون أن يُطبع. كما تجدر الإشارة إلى انتشار الشعر الشعبيّ إلى جانب الفصيح، الذي كان بمثابة المتنفّس، ومن خلاله عبّر الباقون عن أشواقهم ومعاناتهم. وفي سبيل هذا كلّه، حرص هذا الجيل على توكيد استمراريّة الثقافة الفلسطينيّة في أراضي 48، من خلال منحيين متّصلين مبنًى ومعنًى: الأوّل، منحى إبراز الإنتاج الأدبيّ والفكريّ لأعلام الثقافة الفلسطينيّة قبيل نكبة 1948. والثاني، منحى التوكيد، في معرض ما يمكن اعتباره “تنظيراً مبكراً” لخلفيّات النتاج الأدبيّ الفلسطينيّ داخل (الدولة اليهوديّة)، على كون هذا النتاج بعد نكبة 1948 استمرار طبيعيّ للإنتاج الأدبيّ الذي شهدته فلسطين قبلها. ويبيّن شلحت، أنّ توفيق زيّاد كان من أوائل من أجمل ذلك بقوله في ستينيّات القرن العشرين الفائت: “إنّ شعرنا الثوريّ هو امتداد لشعر السلف الثوريّ لأنّ معركتنا هي امتداد لمعركتهم”.
مؤلّف الكتاب تَمير سوريك يؤكّد، أنّ “الشعر ليس المحور الرئيس في هذا الكتاب، الذي أعتبر توفيق زيّاد فيه، أولاً قائداً سياسيّاً، من الجدير بالذكر أنّه خلال أكثر السنوات دراميّة وتأثيراً في حياته السياسية (١٩٧٤-١٩٩٠)، لم يكتب الشعر، ومع ذلك فإنّ هويّة توفيق زيّاد كشاعر، من جهة، ومحتوى شعره من جهة أُخرى، هما أمران مركزيّان لفهم مركزه الاجتماعيّ والسياسيّ، ووثيقة صادقة لسيرة حياته، ونافذة على تجربة زيّاد الذاتيّة، ولفهم مجرى حياته”، مبيّناً أنه لا يلتزم بتحقيق تحليل أدبيّ دقيق لشعر زيّاد.
ويصف سوريك تجربة زيّاد بالمثيرة بشكلٍ خاصّ، حيث لم ينخرط أيّ شاعر آخر من جيله في السياسة أو طور مسيرة سياسيّة طويلة وناجحة كما فعل. إضافة إلى ذلك، أخذت السياسة الأولوية على تفانيه في الشعر بسبب نمو التزاماته السياسيّة، خلال الأعوام الثمانية عشر التي شغل فيها منصب عضو الكنيست، “لم يكتب أيّ شعر”. وبرّر ذلك بأنّه كان يفتقر إلى الوقت للكتابة. لكن سوريك يرجّح أنّ كون صاحب «أغنيات الثورة والغضب» عضواً في الكنيست فإنّ ذلك كان “يتطلّب حالة ذهنيّة لا تتوافق مع صياغة الشعر الثوريّ”.
ولقد كان الحماس المتفائل العلامة المميّزة لتوفيق زيّاد، “الذي استمر في لعب دور مهمّ في كفاح المواطنين الفلسطينيّين في إسرائيل، طوال أربعة عقود كقائد في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، كشاعر محبوب، وكرئيس لبلديّة مدينة الناصرة، وكعضو في الكنيست.. قبل كلّ شيء، كان توفيق زيّاد صانعاً للأمل: أمل في العدالة يتّسم بالمساواة القائمة على الكرامة الإنسانيّة ودون استغلال، مع أنّ فكرة الأمل قد تبدو ساذجة وغريبة وغير نقديّة أثناء كتابة هذه الأسطر في العام 2019، فقد كانت صفة أساسيّة في المسعى السياسيّ والفكريّ له”.
الهامّ في الكتاب هو ما يعرضه من نشأت وتطوّر، شخصيّة زيّاد منذ طفولته حتّى تاريخ رحيله عام ١٩٩٤، فمنذ مطالع شبابه كان ملتزماً بمبادئه الشيوعيّة، بوضوح وجرأة، كتب عام ١٩٥٩، “قالوا شيوعيّون..، قلت أجُلّهم.. حُمَراً بعزمهم الشعوب تُحرّرُ”، وكان في صميمه، أمميّاً طبقيّاً عندما كتب عن إضراب عمال آتا في العام ١٩٥٧، “فالذي لصَّ خبزكم لصَّ خبزي”، وأبرز طبقيّته العام ١٩٦١، بقوله: “أنا عامل.. أنا إنسان.. إنسانيّتي هي رأس ماليّ”. والمعروف عن زيّاد أنّ اهتمامه بالسياسة بدأ وهو في المرحلة الثانويّة من دراسته، وتأثّر توجّهه السياسيّ التقدميّ بأفكار ثلاثة من أساتذته، رشدي شاهين وجمال سكران وفؤاد خوري، الذين كانوا يطّلعون تلامذتهم على ما تنشره صحيفة “الاتحاد” ومجلة “المهماز”. وشارك زيّاد في سنة 1946 في قيادة مظاهرة طلّابيّة ضدّ السياسة البريطانيّة المؤيّدة للصهيونيّة.
ويتحدّث سوريك في كتابه باستفاضة عن إنجازات زيّاد السياسيّة التي كان أهمّها قيادة الإضراب الذي شهدته البلاد في 30 آذار/ مارس 1976 بنجاح احتجاجاً على مصادرة إسرائيل للأراضي الفلسطينيّة، وهو يوم يُحتفل به الآن سنويّاً بـ “يوم الأرض”. لكن “جوهرة تاج التعبئة العامّة”، وفق المؤلّف، كان “مخيّمات العمل السنويّة” التي نظمها في الناصرة، وتجاوزت نقص تمويل الحكومة الإسرائيليّة للبلديّة، وبنت أحياء كاملة في الناصرة حيث جذبت المخيّمات عشرات الآلاف من المتطوّعين من جميع أنحاء إسرائيل والضفّة الغربيّة وحتّى دول الكتلة الشرقيّة. وظلّ زيّاد مستهدفاً من سلطات الاحتلال طيلة حياته، حيث رأوا فيه واحداً من الرموز الأساسيّة لصمود الشعب الفلسطينيّ وتصدّيه لسياسة الحكومة الإسرائيليّة وممارساتها. عددُ الاعتداءات التي تعرّض لها بيته، حتّى وهو عضو كنيست ورئيس بلديّة، لا يحصى. وفي كلّ يوم إضراب عامّ للجماهير العربيّة هاجموا بيته بالذات وعاثوا فيه خراباً واعتدوا على من فيه.
قصّته في يوم الأرض معروفة فعندما حاولت حكومة الاحتلال إفشال ذلك الإضراب في 30 آذار/ مارس 1976 الذي قرّرته “لجنة الدفاع عن الأراضي”، أثبت لهم أنّ القرار قرار الشعب، والشعب أعلن الإضراب ونجح وكان شاملاً، فنظّمت قوّات الاحتلال اعتداءاتها وقتلت الشباب الستّة وجرحت المئات وهاجمت بيت توفيق زيّاد، “سمعت الضابط بأذني وهو يأمر رجاله: طوقوا البيت وأحرقوه» تقول زوجة توفيق زيّاد المناضلة نائلة يوسف صباغ.