هذا النص جزء من مقالة لباديو نشرت في صحيفة “لو موند” في ٢/٢/٢٠٠٦، وبالإنكليزية في كتاب له بعنوان Polemics. هذه الترجمة عن النص الإنكليزي وهو ترجمة عن الفرنسية لستيف كوركوران، من موقع “لاكان“.
إبَّان العقدين الفائتين، شهد ميدان المعرفة الفرنسيّ مناقشاتٍ لا حصر لها بصدد المكانة التي ينبغي أن تُعامل بناءً عليها مفردةُ “يهوديّ” ضمن المجالات المختلفة للفكر.
لا ريب أنَّ لهذه المناقشات علاقةٌ بشبهةٍ مفادها أنَّ معاداة الساميَّة قد “عادت إلى الظهور” استناداً إلى حقائق بعضها غير قابلة للدحض، وأخرى مختلقة. لكن هل حدثَ أن اختفت معاداة الساميَّة في أيِّ وقتٍ كان؟ أم أنَّه ليس بالأهمِّيَّة بمكانٍ ملاحظة أنَّ هناك تغييراً كبيراً قد وقع على كلٍّ من طبيعة أشكال معاداة الساميَّة، ومعاييرها، وآثارها في الخطاب العامِّ على امتداد السنوات الثلاثين الفائتة؟ لنتذكَّر ما حدث في سنة 1980 في أعقاب الهجوم على الكنيس اليهوديِّ في شارع كوبرنيك؛ عندما أدلى رئيس الوزراء شخصيَّاً آنذاك، وبأعصاب في منتهى الهدوء، بتصريحٍ يُميِزُّ فيه ما بين أولئك الضحايا الذين حضروا في الكنيس بقصد العبادة من جهة، و”الفرنسيِّين الأبرياء” الذين كانوا في المنطقة مصادفةً من جهةٍ أخرى. وفضلاً عن التمييز ما بين اليهود والفرنسيِّين وما رافقَه من قلقٍ زائف، فقد بدا أن السيِّد ريمون باغ طيِّبَ القلب يرمي إلى أنَّ اليهوديَّ المستهدفَ على نحوٍ عشوائيٍّ إنَّما يتحمَّل بالضرورة الذنب بطريقة أو أخرى. قال الناس حينها إنَّ الأمر لا يعدو مجرَّد زلَّة لسان. بيد أنَّ هذه الطريقة المذهلة في النظر إلى الأمور قد كشفت بوضوحٍ عن اللاوعي العنصريِّ المستمرِّ دونما انقطاعٍ منذ ثلاثينيَّات القرن الفائت. في هذه المرحلة، وعندما يتعلَّق الأمر باستعمالات مفردة “يهوديّ”، فإنَّه لم يعد ممكناً تصوُّر صدور هكذا تمييز بكلِّ ثقةٍ على مستوى الدولة، ولا يسع المرء هُنا إلَّا أن يَسعَد بذلك. وأمَّا الاستفزازات المتعمَّدة المعادية للساميَّة والأشكال الساذجة والزائفة للتمييز؛ على غرار إنكار غرف الإعدام بالغاز أو الإبادة النازيَّة ليهود أوروبا، فهي متبناةٌ اليوم من قِبل اليمين المتطرِّف فقط أو محصورةٌ في دوائر خطابه. لذا، وعلى الرغم من أنَّه من الخطأ تماماً القول إنَّ معاداة الساميَّة قد اختفَت، إلَّا أنَّه من الإنصاف القول بأنَّ الشروط اللازمة لاحتماليَّة وجودها قد تغيَّرت، لدرجة أنَّها لم تعُد مدرجةً في أيٍّ نوعٍ من الخطابات العاديَّة على غرار ما كانت عليه الحال في زمن ريمون باغ. ضمن هذا السياق، فإنَّ ماري لوبان، في فرنسا، هي الوصيَّة السئِمة على معاداة الساميَّة التاريخيَّة التي كانت في نظر الرأي العامِّ في ثلاثينيَّات القرن الفائت مسألة مألوفةً تماماً. خلاصة القول، ربَّما من الجيِّد أنَّ تكون هذه الحساسيَّة الجديدة إزاء السلوكيَّات والعلامات المعادية للساميَّة عاملاً أساسيّاً في التشخيص القائل إنَّ معاداة الساميَّة قد “عادَت إلى الظهور”. بالتالي، قد تكون هذه العودة، إلى حدٍّ بعيد، مجرَّد أثرٍ للانخفاض الإيجابيِّ الهائل لعتبة تسامُح الرأي العامِّ مع هذا النوع من الاستفزاز العنصريّ.
سأعودُ في موقعٍ آخر إلى مسألة ولادة نوعٍ جديدٍ من معاداة الساميَّة؛ تلك التي تتمحور حول النزاعات في الشرق الأوسط، وإزاء وجود أقليَّاتٍ كبيرةٍ في فرنسا من المسلميِّن والعمَّال ذوي الأصول الأفريقيَّة. أمَّا الآن، فيكفي القول إنَّ وجود هذا النوع من معاداة الساميَّة ليس موضع شكّ، فضلاً عن أنَّ الحماسة التي ترافقُ إنكارَ البعض لوجودها -عندما يتعلَّق الأمر عموماً بدعم الفلسطينيِّين أو الأقليَّات من الطبقة العاملة في فرنسا- شديدةُ الضرر. ضمن هذا السياق، لا يبدو لي أنَّ البيانات المتاحة مجَّاناً للجميع خطيرة لدرجةٍ تستدعي حالة تأهُّبٍ قصوى، على الرغم من أنَّه يجب أن يكون واضحاً أنَّ اليقظَة والحذر بصدد هذا النوع من القضايا هي ثوابت حتميَّةٌ على نحوٍ لا يقبل الجدل.
إنَّ نقطة انطلاق مجموعة المقالات الحاليَّة، والعلَّة وراء كتابتها، ليست حالة الوضوح في تمظهرات معاداة الساميَّة، القديمة والجديدة. ذاك نقاشٌ له عواقب بعيدة المدى، أو بالأحرى، نقاشٌ لا بدَّ من معالجته بصورةٍ مسبقة، بما في ذلك من قِبل أولئك الذين يتَّفقون على أنَّه من غير الوارد التسامح مع أبسط تلميحٍ معادٍ للساميَّة. في الواقع، تكمن المسألة هنا في الخلاف بصدد ما إذا كانت مفردة “يهوديّ”، ضمن المجال العموميِّ للمناقشات الفكريَّة العامَّة، تُشكِّل، دالَّاً استثنائيَّاً؛ بحيث يكون من المشروع توظيفها في موضعِ دالٍّ نهائيٍّ، أو حتَّى مُقدَّس. يبدو جليَّاً أنَّ معالجة القضاء على أشكال الوعي المعادي للساميَّة تحدثُ ضمن سياقاتٍ ورؤى ذاتيَّةٍ مختلفة، اعتماداً على ما إذا كنَّا نعتبر أنَّ أشكال الوعي هذه تختلف في جوهرها عن أشكال التمييز العرقيّ الأخرى (على غرار النزعات المعادية للعرب، أو عزل السود عن أنشطتهم المجتمعيَّة)؛ أم أنَّنا نعتبر- بناءً على وقائع تاريخيَّةٍ مميَّزةٍ وغير قابلةٍ للاختزال- أنَّ جميع أشكال الوعي العنصريّ على حدٍّ سواء تستدعي ردَّ الفعل نفسه على صعيدي المساواة والعالميَّة. علاوةً على ذلك، لا بدَّ من التمييز ما بين هذا الاشمئزاز المشترك من معاداة الساميَّة من جهةٍ، والفيلوساميَّة من جهةٍ أخرى؛ التي لا تكتفي بادِّعاء أنَّ التحامل على اليهود يُعبِّر عن انحطاطٍ إجراميٍّ فحسب، بل أنَّ مفردة “يهوديّ”، وكذلك المجموعة التي تزعم تمثيلها أيضاً، إنَّما يجب أن توضَع في موقعٍ نمطيٍّ/ نموذجيٍ فيما يتعلَّق بميدان القيم، والتسلسلات الهرميَّة الثقافيَّة، وصولاً إلى تقييم سياسات الدول.
عندما يتعلَّق الأمر بمسألة كلٍّ من الأشكال القديمة والحديثة لمعاداة الساميَّة، والآليَّات المتَّبعة في القضاء عليها، فيكفي القول إنَّ هناك نهجين متعارِضَين؛ حيث يكمن الخلاف بصدد تحديد ما تتكوَّن منه العالميَّة المعاصِرة وكذلك مدى توافقها مع أيِّ نوعٍ من أنواع التفوُّق الرمزيِّ أو المجتمعيّ.
من الواضح اليوم أنَّ هناك تيَّاراً فكريَّاً قويَّاً، يتَّسمُ بالمنشورات الأكثر مبيعاً والتأثير الإعلاميِّ الملحوظ، يؤكِّدُ على أنَّ مآل مفردة “يهوديّ” يكمن في بقائها في حالةٍ من التفوُّق المجتمعيّ؛ على نحوٍ يجعلها غير متناسبةٍ مع مآلات مفرداتٍ أخرى تخضعُ لتقييماتٍ متناقضةٍ ضمن مُدخلات الأيديولوجيا، أو السياسة، أو حتَّى الفلسفة.
بالطبع، تنطلق الحجَّة الرئيسيَّة هنا من إبادة اليهود الأوروبيِّين على أيدي النازيِّين والمتواطئين معهم. وفي داخل بُنية أيديولوجيا الضحيَّة، والتي تُشكِّل السلاح الدعائيَّ للأخلاقيَّات المعاصرة، فإنَّ هذه الإبادة غير المسبوقة تحتلُّ موقعاً نموذجيَّاً. من شأن الإبادة بحدِّ ذاتها أن تدعِّم الضرورات السياسيَّة والقانونيَّة والأخلاقيَّة لإبقاء مفردة “يهوديّ” في مرتبةٍ فوق كلِّ أنماط التعامل المعتادة مع الحمولات الهويَّاتيَّة، بل وتضفي عليها طابعاً من القدسيَّة الرمزيَّة. وبمقدورنا اعتبار أنَّ الفرض التدريجيَّ لمفردة شوآه (وتعني بالعبريَّة المحرقة أو الهولوكوست) للإشارة ما سمَّاه راؤول هيلبرغ، وهو واحدٌ من أبرز المؤرِّخين، بدقَّةٍ رصينة بـ “تدمير اليهود الأوروبيِّين”، إنَّما هي مرحلةٌ لفظيَّة من هذا التقديس للضحايا. ثمَّة هُنا مفارقةٌ لافتةٌ للنظر، إذ قد يبلغ المرء من خلال توظيف مفردة “يهوديّ” على هذا النحو إلى ادِّعاء أنَّ المسيحيِّين كانوا في الأصل يستهدفون اليهود أنفسهم؛ وذلك من خلال اعتبار أنَّ اسم “المسيح” كان أجدر من بقيَّة الأسماء الأخرى. وليس من غير المألوف اليوم قراءة أن مفردة “اليهوديّ” تتجاوز بالفعل كلَّ المفردات العاديَّة. يبدو أيضاً أنَّ هناك افتراضاً مفادُه، على غرار الخطيئة الأولى لكن معكوسةً، أنَّ البركة التي ترافقُ كون المرء ضحيَّةً لا مثيلَ لها لا تنتقلُ إلى الأحفاد وأحفاد الأحفاد فحسب، بل تمتدُّ أيضاً إلى أولئك الذين يُعرِّفون أنفسهم ضمن القيمة موضع البحث ذاتها، سواءٌ أكانوا زعماء دولٍ أو جيوشٍ منخرطة في القمع الشديد الذي يتعرَّض له أولئك الذين صودِرَت أراضيهم.
هناك نمطٌ تاريخيٌّ آخر من هذا التفوُّق الزائف، يدَّعي أنَّ “المسألة اليهوديَّة” قد حُدِّدَت في أوروبا منذ عصر التنوير، وبهذا تكون هناك استمراريَّة إجراميَّة بين كلٍّ من فكرة أوروبا عن نفسها والإبادة النازيَّة التي قُدِّمَت باعتبارها “الحلَّ النهائيّ” للمشكلة. وعلاوةً على ذلك، يستدعي ما سبق استمراريَّةً جوهريَّةً بين كلٍّ من الإبادة والعداء الأوروبيِّ لدولة إسرائيل، والدليل الأساسيُّ على ذلك هو الدعم المستمر الذي يحصل عليه الفلسطينيُّون من المجتمع الأوروبيِّ. برأيي أنَّ الذريعة السابقة غير متَّسقةٍ على الإطلاق، لكن لندع هذا الأمر جانباً الآن. لا بدَّ أنَّ الأوروبيِّين سيغضبون من حقيقة أنَّ “الحلَّ النهائيَّ” قد هُزِم في الفصل الأخير من خلال الظهور المفاجئ، في جدول ميزانيَّة الحرب، لدولةٍ يهوديَّة. ونتيجةً لذلك، سيكون من المبرَّر عدم الوثوق في أيِّ شيءٍ عربيّ؛ نصل سريعاً، انطلاقاً من دعم الفلسطينيِّين، إلى تقويض دولة إسرائيل، ثمَّ يفضي هذا التقويض إلى معاداة الساميَّة، ثمَّ تفضي معاداة الساميَّة هذه بدورها إلى الإبادة. وبإيجاز، لا بدَّ أن يكون هذا المنطق مناسباً.
أودُّ هُنا أنَّ أوثِّق قدر المستطاع موقفاً متنافراً تماماً مع التأكيدات سالفة الذكر مفادُه أنَّني أعلنُ عن موقفي الخاصّ بكلِّ وضوح. ففي مثل هذا النوع من القضايا، ومع الأخذ بعين الاعتبار للمشاعر التي تنبثق بالضرورة مع كلِّ نزاعٍ حول قوَّة الترميز الجماعيّ، فإنَّه من الأفضل للمرء التصريح مباشرةً بأنَّه يتحدَّث عن نفسه فقط، أو، بصورةٍ أدقّ، باسمه الشخصيّ.
من الواضح أنَّ النقطة المحوريَّة هُنا هي أنَّه ليس بمقدوري تقبُّل أيديولوجيا الضحيَّة بأيِّ شكلٍ من الأشكال. وقد سبقَ لي أن شرحت موقفي بصدد هذه المسألة في كتابي الصغير المعنون بـ “الأخلاق”، الصادر في سنة 1999، والمتمثِّل في أنَّ ما اقترفه النازيُّون والمتواطئون معهم من إبادةٍ بحقِّ ملايين الأشخاص الذي وصفوهم بأنَّهم يهود ليس من شأنه إضفاءُ أيِّ شرعيَّةٍ جديدةٍ لمسند الهويَّة المعنيَّة. بطبيعة الحال، ولأسباب دينيَّة في العموم، يرى المتمسِّكون بهذا المسند أنَّه مؤشِّرٌ على تحالفٍ مُجتمعيٍّ مع التفوُّق النَمطيّ لصورة الآخر، ولذا يعتبرون أنَّ من الطبيعيِّ النظر إلى الفظائع النازيَّة باعتبارها تخدمُ بصورةٍ ما كإقرارٍ على صحَّة المفارقة المرعبة والصادمة بصدد اصطفاء “الشعب” الذي يزعم المسندُ سالف الذكر أنَّه يَشمله بصورةٍ جامعة. وإضافةً إلى ذلك، فإنَّه من الضروريِّ تفسير كيفيَّة تطابق المسند النازيِّ لليهود، والذي جرى توظيفُه في تنظيم العزل ثمَّ الترحيل والقتل، مع المسنَد الذاتيِّ الذي يؤطِّر طبيعة هذا التحالف. لكن بالنسبة إلى كلِّ من لا تشمَلهُ الخرافة الدينيَّة قيد البحث، فإنِّ الإبادة توقِع على النازيِّين حُكماً مُطلقاً غير قابلٍ للاستئناف، من دون أن يؤسِّس لأيِّ قيمةٍ إضافيَّةٍ للضحايا عدا التعاطف الصادق والعميق. أودُّ الإشارة هُنا سريعاً أيضاً، وباقتضاب، إلى أنَّني أُسلِّم بأنَّ التعاطف الأصيل لا يعبأ البتَّة بالمُسندات التي ارتُكِبت الفظائع باسمها. وبناءً عليه، فإنَّه من الخطأ الجسيم الاعتقاد بمنطق أنَّ الفظائع تسبغُ قيمةً فائضةً على المسنَد. ليس بمقدور الفظائع أن تُوفِّر أيَّ صورةٍ من صور الاحترام الخاصِّ لأيِّ شخصٍ يَتوقَّع اليوم أن يلجأ إلى المسند السابق ليطالبَ بأن يحظى بمكانةٍ استثنائيَّة. بدلاً من ذلك، ينبغي أن نستنتج، انطلاقاً من تلك المجازر غير المحدودة، أنَّ من شأن كلِّ طَرحٍ انفعاليٍّ للمسندات المجتمعيَّة في ميادين الأيديولوجيا أو السياسة أو الدولة، سواءٌ أكان تجريماً أم تقديساً، أن يفضي إلى الأسوأ.
اسمحوا لي أن أضيف هُنا شيئاً بمسحةٍ أكثر عاطفيَّة: من غير المقبول على الإطلاق أن أُتَّهمَ بمعاداة الساميَّة من قِبل أحدٍ لسببٍ وحيدٍ، هو أنَّه ليس بمقدور المرء الاستنتاج، من الحالة الحسَّاسة للإبادة، مُسندَ مفردة “يهوديّ” وبُعدَيها الدينيِّ والمجتمعيِّ بناءً على تثمينٍ منفردٍ -بشارةٍ متفوِّقة!- وكذلك ينبغي عدم التسامح بصورةٍ خاصَّةٍ مع عمليَّات الابتزاز الإسرائيليَّة بطبيعتها الواضحة والمبتذلة. ما أقترحُه هو ألَّا يرضخ أحدٌ، في السرِّ أو العلن، إلى مثل هذا النوع من الابتزاز السياسيّ.
ثمَّة اختلافٌ مُجرّدٌ في موقفي يتمثَّل في الإشارة إلى أنَّه، من بولس الرسول إلى تروتسكي، مروراً بسبينوزا وماركس وفرويد، لم تُعزِّر الجماعانيَّة اليهوديَّة سوى العالميَّة الإبداعيَّة طالما أنَّ هناك مواقع قطيعةٍ جديدةٍ ما بين الظاهرتين. من الواضح أنَّ المعادِل الراهن لقطيعة بولس مع اليهوديَّة العقديَّة، أو قطيعة سبينوزا العقلانيَّة مع الكنيس اليهوديّ، أو قطيعة ماركس السياسيَّة مع الاندماج البرجوازيِّ لجزءٍ من مجتمعه الأصليّ، إنَّما هي قطيعةٌ ذاتيَّةٌ مع دولة إسرائيل؛ ليس مع وجودها العمليّ إذ لا يختلف كثيراً في دناءته عن بقيَّة الدول، لكن مع ادِّعائها الهويَّاتيِّ الحصريِّ بأنَّها دولة يهوديَّة، وكذلك مع الطريقة التي تستمدُّ من خلالها امتيازاتها المستمرَّة من هذا الادِّعاء، وخاصَّةً عندما يتعلَّق الأمر بالدوس بالأقدام على القانون الدوليّ. لطالما كانت الدول الحديثة بحقّ، أو البلدان التي لطالما كانت عالميَّة، غير واضحةٍ تماماً بصدد مسألة تكوينها الهويَّاتي؛ ذلك أنَّها تُسلِّم بالإمكانيَّة الكلِّيَّة لتكوينها التاريخيّ، وتعتبرُ الأخير وجيهاً وساريَ المفعول شريطة ألَّا يندرِج تحت أيِّ مسندٍ عنصريٍّ أو دينيّ، أو “ثقافيّ” بصورةٍ عامَّة. في الواقع، في آخر مرَّةٍ حدث فيها أن كانت هناك دولة عقائديَّة في فرنسا تعتقدُ بأنَّه يجب أن يُطلق عليها لقب “الدولة الفرنسيَّة” كانت في ظلِّ حكم بيتان والاحتلال الألمانيّ. وبالطبع، لا تُمثِّل الدول الإسلاميَّة نماذج أكثر تقدُّميَّة للنسخ السابقة المختلفة لـ “الأمَّة العربيَّة”. كذلك يبدو لي أنَّ الجميع متّفقون بصدد أنَّ طالبان لا تُجسِّدُ مسار الحداثة بالنسبة إلى أفغانستان. إذاً، يبدو ممكناً أنَّ الديموقراطيَّة الحديثة تشمل الجميع بلا استثناء، من دون إحالتهم إلى أيِّ مُسندات. في مواجهته للقوانين الفرنسيَّة الرجعيَّة ضدَّ العمَّال غير المسجَّلين، يُبيِّن التنظيم السياسيُّ موقفه القائل بـ “من هو هُنا فهو من هُنا”. وهكذا، فإنَّه ما من سببٍ مقبولٍ لاستثناء دولة إسرائيل من هذه القاعدة. يلجأ البعض أحياناً إلى الزعم بأنَّ الدولة سالفة الذكر هي “الديموقراطيَّة” الوحيدة في المنطقة، لكن حقيقة أنَّ هذه الدولة تُقدِّم نفسها باعتبارها دولةً يهوديَّةً تتناقض على نحوٍ صارخٍ مع هذ الزعم. إذاً، بمقدورنا القول عند هذه النقطة إنَّ إسرائيل بلدٌ لا يزال يحتفظ بتمثيلٍ ذاتيٍّ عفا عليه الزمن.
سأعمدُ، من خلال مقاربةٍ مختلفة، إلى تعميم هذا الادِّعاء. أصرُّ هنا على مسألة أن استرساب أيِّ مُسندٍّ هويَّاتيٍ إلى الدور المحوريِّ في تحديد السياسات يفضي إلى كارثة. ومثلما ذكرتُ في موضعٍ سابق، ينبغي أن يكون هذا هو الدرس الحقيقيُّ المستخلص من النازيَّة. ذلك أنَّ النازيِّين، قبل أيِّ جماعةٍ أخرى، وبحماسٍ قلَّ مثيله بصدد المواصلة حتَّى النهاية، قد استرعوا كلَّ العواقب جرَّاء تحويل الدالّ “يهوديّ” إلى استثناءٍ راديكاليّ- وفي نهاية المطاف، كانت تلك الطريقة الوحيدة التي أمكنتهم من الاحتفاظِ بنوعٍ من الاتِّساق على صعيد إسنادهم “الآري” المتناظر؛ وهو الخواء الخاصُّ الذي استحوذ عليهم إبَّان كوارثهم الاقتصاديَّة.
ثمَّة عاقبةٌ أهمُّ وأكثر صلةً بما سبق، مفادها أنَّه لا ينبغي تمجيد الدالَّين “عربيّ” أو “فلسطينيّ” بأكثر ممَّا هو مسموح به بصدد الدالَّ “يهوديّ”. ونتيجةً لذلك، فإنَّ الحلَّ المشروع للنزاع في الشرق الأوسط ليس المؤسَّسة المروِّعة القائمة على دولتين من الأسلاك الشائكة. إنَّ الحلَّ هو إقامة فلسطين علمانيَّة وديموقراطيَّة، منزوعة من كلِّ المُسندات؛ على غرار مدرسة بولس في رؤياه للعالميَّة القائلة بأنَّه “ليسَ يهوديٌّ ولا يونانيّ”، وأنَّ “الختان لا ينفع شيئاً ولا الغرلة”- من شأن ذلك إظهار أنَّه من الممكن تماماً إنشاء مكانٍ على تلك الأراضي بحيث، من وجهة نظرٍ سياسيَّةٍ وبغضِّ النظر عن الاستمراريَّة غير السياسيَّة للعادات، “لا يكون هناك عربيٌّ ولا يهوديّ”. بطبيعة الحال، لا بدَّ أنَّ ما سبق بحاجة إلى وجود مانديلا ذي طابعٍ إقليميّ.
أخيراً، لا مجال للشكِّ بصدد أنَّه لا تسامح مع الخطاب المشين المعادي لليهود، المستدعى باسم الذنب الكولونياليّ وحقوق الفلسطينيِّين، المتداول في أوساط عددٍ من المنظَّمات والمؤسَّسات المعتمدة بصورةٍ أو أخرى على مفرداتٍ هويَّاتيَّة من قبيل “عربي” أو “مسلم” أو “إسلام”… ليس من الممكن التغاضي عن هذا النهج من معاداة الساميَّة بمنطق الأخذ والردِّ لصالح رؤيةٍ تقدُّميَّةٍ ترضى بالقليل. وعلاوةً على ذلك، نحنُ نعرف الحكاية بالفعل. في فرنسا، في أواخر القرن التاسع عشر، لم ترَ بعضُ المنظَّمات العمَّاليَّة “الماركسيَّة”، ولا سيما تلك المنبثقة عن مدرسة جوليس جويسد، أيَّ خطبٍ في معاداة الساميَّة المبتذلة التي كانت واسعة الانتشار في ذلك الوقت. كانوا يعتقدون أنَّ شؤون معاداة الساميَّة، وبالذات فيما يتعلَّق بقضيَّة دريفوس، ليسَت من ضمن اهتمامات الطبقة العاملة، وأنَّ الانخراط في هذه الشؤون إنَّما سيُشتِّت الانتباه عن التناقض الجوهريِّ ما بين البرجوازيَّة والبروليتاريا. لكن سرعان ما اتَّضحَت العلَّة التي غذَّت التصاق هذا الاهتمام بـ “التناقض الجوهريِّ”: ففي سنة 1914، التحقَ جوليس جويسد، بدافعٍ من القوميَّة ضيِّقة الأفق وكراهية المحتلِّين الألمان، إلى الاتِّحاد المقدَّس الذي نظَّم المذبحة العسكريَّة. أمَّا الجدليَّة المقابلة فهي أنَّه ينبغي أن نتذكَر أن المعالجة الصحيحة للتناقض الجوهريِّ تتكوَّن غالباً من التحمُّل العلنيِّ للمسؤوليَّة عن إدارة التناقض “الثانويّ”. اليوم، ينجذبُ البعض منَّا بصورةٍ واضحة، بدافعٍ من الميزة الرئيسيَّة للتناقض ما بين الشمال والجنوب، أو ما بين العرب والإمبرياليَّة الأميركيَّة، إلى إيجاد كافَّة الأعذار لتحويل المعارضة “المشروعة” ضدَّ ممارسات دولة إسرائيل إلى معاداةٍ علنيَّةٍ وصريحة للساميَّة، وهي مسألة لا تُطاق ولا ينبغي التسامح معها. وهكذا، فإنَّ ما يفعله الإسرائيليُّون التقدميُّون الذين يُظهرون دليلاً على شجاعةٍ استثنائيذَة، أيَّاً كانت ندرته، إنَّما يساهم بصورةٍ حاسمةٍ في تحسين الظروف في فلسطين.
بالنسبة إلى أيِّ شخصٍ يريد القضاء على معاداة الساميَّة الظرفيَّة، يبدو صحيحاً بما فيه الكفاية أنَّه سيكون من المفيد عدم الإشارة إلى دولة إسرائيل باعتبارها “دولةً يهوديَّة”، وأنَّ يكون هناك اتِّفاق في كلِّ مكانٍ بصدد الإبقاء على فصلٍ صارمٍ ما بين التوظيفات الدينيَّة والعرفيَّة والخاصَّة للمسندات الهويَّاتيَّة لمفردات “عربيّ” و”يهوديّ” بقدر ما تنطوي عليه مفردة “فرنسيّ” من جهة، وتوظيفاتها السياسيَّة الضارَّة على الدوام من جهةٍ أخرى.
في مفردة “يهوديٍّ” وشخصيَّة المتزلِّف
في وسع المرء أن يمتنع عن الردّ، بل ربَّما ينبغي ألَّا يفعل ذلك. أو، بإمكانه الاستجابة من خلال النظر إلى الأمور نظرةً شاملةً باعتبارها أعراضاً في منتهى الضآلة أمام الهوَّة التي سقطَت فرنسا فيها في الفترة الأخيرة. “ظروف 3، Circonstances 3” هو كتابٌ نتحمَّل أنا وسيسيل وينتر المسؤوليَّة الكاملة عنه بمفردنا. ومع ذلك، فإنَّ لا بدَّ من وضع ردِّ الفعل العنيف الذي أثاره هذا الكتاب في سياقه السياسيّ. الحقيقة هي أنَّ الوضع في فرنسا اليوم خاضعٌ لهيمنة هجومٍ رجعيٍّ غير مسبوق ضدَّ كلٍّ من العمَّال ذوي الأصول الأجنبيَّة، والمراهقين في المجمَّعات السكنيَّة، وتعليم الأطفال، والرعاية الصحِّيَّة للشرائح الأضعف والأفقر، والنساء ذوات العادات المختلفة، والمساكن العمَّاليَّة، وذوي الأمراض العقليَّة… ونجدُ أنفسنا مضطرِّين بصورةٍ يوميَّةٍ على تحمُّل قراءة تلفيقاتٍ عمَّا يجري اتِّخاذه من تدابير تشريعيَّة جنائيَّة تماماً. “ساركوزي” هو اسمٌ لعمليَّةٍ هائجةٍ يجري من خلالها، خطوةً بخطوة وباستخدام العنف، إنزال قطَّاعات كاملةٍ من السكَّان إلى مكانةٍ مجرَّدةٍ من الحقوق، وتقديمهم للشرطة بوصفهم أعداء داخليِّين. في هذا السياق، من المهمِّ طرح السؤال التالي: ما هي رغبة الفصيل الضئيل الذي نصَّب نفسَهُ مالِكاً لمفردة “يهوديّ” واستعمالاتها؟ وما الذي يصبو إليه، مُستعيناً بثلاثيَّة الشوآه ودولة إسرائيل والتقليد التلموديّ، عندما يصِم ويُعرِّض للازدراء العامّ أيَّ شخصٍ يناضل بصرامةٍ في سبيل إمكانيَّة تأييد معنى عالميٍّ ومساواتيّ لهذه المفردة؟ إذاً، سأسلِّم بأنَّ هذا الفصيل المتطرِّف يضمر النيَّة السياسيَّة نفسها التي تهيمن على البرلمانيَّة الفرنسيَّة اليوم؛ النيَّة الموجَّهة نحو كلٍّ من تحديد، وعزل وملاحقة، الأشخاص الذين تُشكِّلهم الدولة نفسها باعتبارهم أعداء داخليِّين للإجماع. يُشكِّل الفصيل الضئيل الذي نتحدَّث عنه الجناح الفكريَّ اليمينيَّ المتطرِّف لهذا التوجُّه القاتل الذي يكون كقاعدة، من حيث شكله الذاتيّ، أكثر سلبيَّةً من كونِه إيجابيَّاً (حيثُ العنصر المعادي لكلٍّ من الفلسطينيِّين والعرب هو الأساس)؛ وهو ظلاميٌّ تماماً من جهة آلياته الفكريَّة (تفوُّق السمات الخاصَّة، والقوميَّة المحدودة، والعنصريَّة، والتديُّن من دون إله)؛ كما ينتمي على صعيد ممارساته الجدليَّة إلى أنماطٍ راسخةٍ متنوِّعةٍ من القمع العبثيّ. لقد لفتت ناتاشا ميشيل انتباهي إلى حقيقة أنَّ الإجراءات التي يتبنَّاها هذا الفصيل الضئيل إنَّما تُراكِم كلَّ الأنواع التاريخيَّة المعروفة للإدانة العلنيَّة. فمن خلال الانخراط في الإدانة الدوليَّة والتشريعيَّة، يطالبُ هذا الفصيل بوضع حدٍّ لـ “إفلاتنا من العقاب”؛ ومن خلال الانخراط في إدانةٍ ماكارثيَّة الطابع، يزعمون أنَّنا بلاشفة استبداديُّون؛ ومن خلال الانخراط في إدانةٍ على نمط الاتِّحاد السوفيِّتي في مراحله الأخيرة، يُقدِّمون تشخيصاتٍ لمظاهر الذهان المتنوِّعة في كتاباتنا. على ذلك، تُعلِّق ناتاشا ميشيل، بروحٍ دعابةٍ حزين، بالقول: “أجدُ نفسي وقد انتقلتُ إلى الضفَّة الأخرى على جميع الأصعدة”. هذا التراكم مذهل؛ فهو يدفع المرء إلى التساؤل عمَّا يحميه هذا الفصيل، وما الذي يخشى بشدَّةٍ خسارته كلَّما قُوِّض احتكارُه لكلٍّ من توظيف مفردة “يهوديّ” ومعياريَّتها والارتباطات الملازمة لها.
سأضعُ هُنا فرضيَّةً مفادُها أنَّ الترويج العدوانيَّ لثلاثيَّة الشوآه وإسرائيل والتقليد التلموديّ باعتبارها الماهيَّة المقبولة الوحيدة لمفردة “يهوديّ”، وأنَّ العنف الطائش العنيد، والشخصيّ، الموجَّه ضدَّ كلِّ من يقترح مقاربةً مغايرةً بصدد دلالة المفردة السابقة وتداولها، إنَّما لهما علاقة بحماية السلطة: السلطة -التي تعود بفوائد جمَّةٍ على مُحتكريها- الخاصَّة بإدارة آليات إخضاع هذه المفردة وتطويعها إلى قراراتٍ معادية كلِّيَّاً للطبقة العاملة على الصعيدين السياسيِّ والدوليّ؛ أي إلى نظام رقابةٍ قضائيٍّ وشرطيٍّ يُخضِعُ على نحوٍ تدريجيٍّ كلَّ ما يَظهَر بأنَّه غير متجانسٍ مع الإجماع القائم، سواءٌ أكان جوهر هذا التغاير متمظهراً في المنظَّمات والأفعال، أو لا يزال في مرحلة تداول الأفكار فحسب. علاوةً على ذلك، أقول أيضاً إنَّ الاستخدام المستمرَّ لمفردةٍ يجري اختزالها إلى شكلٍ من أشكال قوى الترهيب يتلخَّص في حشد أكبر عددٍ ممكنٍ من المثقَّفين في العالم داخل المعسكر الذي يقوده الأميركيُّون. وفي المحصِّلة، يتعلَّق الأمر بتحويل مفردة “يهوديّ”- مع افتراض أنَّها مُحصَّنةٌ بسبب عنصر الشوآه؛ ودوليَّةٌ وداعمةٌ لأميركا بسبب عنصر “إسرائيل”؛ وذاتُ روحانيَّةٍ ملتبسةٍ بسبب عنصر “التقليد التلموديّ”- إلى درعٍ أيديولوجيٍّ ومرجعيَّةٍ معرفيَّةٍ لمرحلةٍ جديدةٍ في حلبة الثورة المضادَّة التي يقودها جيلُ الفلاسفة الجدد في فرنسا منذ نهاية سبعينيَّات القرن الفائت؛ مرحلة معارضة بحقٍّ لكنَّها مدعومة بخدمات الدولة في الوقت نفسه. وهم يأملون، من خلال الدفاع عن احتكارهم لمفردة “يهوديّ”، بالقضاء نهائيَّاً على أيِّ إمكانيَّةٍ لكلٍّ من رؤيةٍ سياسيَّةٍ عالميَّة، ومساواةٍ بين جميع المُسندات الهويَّاتيَّة الخاصَّة، وممارسةٍ سياسيَّةٍ يشارك فيها كلُّ من يعيش هُنا بغضِّ النظر عن منبته. وبمجرَّد أن يُهدِّد المرء القبضة الخانقة التي تُحكِمها الثلاثيَّة السابقة على قدر مفردة “يهوديّ” على صعيد كلٍّ من اللغة والفكر والحياة التاريخيَّة؛ وما إن يعيد المرء إحياء هذه المفردة في ضفَّة التفرُّد العالميِّ والانعتاق السياسيّ، فإنَّه يشنُّ بهذا هجوماً مهلِكاً على قدرة ذلك الفصيل على إحداث أيِّ ضرر. وبمجرَّد أن يحيط المرء بهذه المحاولة إحاطةً حصيفة، فسيميل إلى تجاهُل المنشورات الساخرة لذوي القدرات البخسة من ذاك الفصيل. لطالما عمد اليمين المتطرِّف إلى توظيف مخبرِين بمستوى متدنٍّ في منظَّماته، ومغامرين في الكتابة يضطرُّون إلى النفاق واللعب على الحبلين.
كما ذكرت في موضعٍ سابق، لقد كتبتُ كتاب “ظروف 3، Circonstances 3” على مسؤوليَّتي الخاصَّة، مثلما ينبغي على المرء في هذه الأيَّام، لأنَّني أشعر بالقلق والانزعاج إزاء ارتباط مفردة “يهوديّ” بمثقَّفين يثيرُ ضعفهم السخطَ ويُضلِّل الدعم الذي تُقدِّمه شريحة كبيرة من الرأي العامّ إلى سياساتٍ بغيضة. وإنَّني أعرف على نحوٍ أفضل، بألف مرَّةٍ عن الفصيل المتطرِّف، عن العلاقة ما بين مفردة “يهوديّ” والتاريخ الهائل للحقائق العالميَّة. وفي إبطال تفاسيرها العرقيَّة والجوهرانيَّة كافَّة؛ وفي تحريرها من أيِّ ارتباطٍ ضروريٍّ بالعادات الدينيَّة؛ وفي منحها الاستقلال الحيويَّ المعاصر عن أيِّ سرديَّاتٍ أسطوريَّة؛ وفي فكِّ ارتباطها عمَّا يُغرقها في وحلٍ من الخصائص الإمبرياليَّة؛ باختصار، في تحرير مفردة “يهوديّ” من ثلاثيَّة الشوآه وإسرائيل والتقليد التلموديّ التي يسعى ذاك الفصيل إلى اختزالها إليها، فإنَّني أعرب عن تأييدي الودّيّ لأعمال العديد من المؤلِّفين الآخرين، سواءٌ أكانوا يعتقدون بإمكانيَّة انبعاث قوَّةٍ جديدة لمسند مفردة “يهودي” الهويَّاتيّ أم لا. ما أراه اليوم هو أنَّ قوَّة هذا المسند تزداد تصلُّباً وجموداً وبؤساً تحت تأثير قوى الرجعيَّة. لكن يحدوني أمل عميق، مثلما عبَّرت عنه بثباتٍ في الكتاب، ولا سيما فيما يتعلَّق بفيلم Local Angel للمخرج أودي ألوني، بأنَّ هذه المفردة ستشهدُ انتعاشاً وإعادة اكتشافٍ وإحياء ضمن صيرورة استجلاء الحقيقة. وفي الدرجة الأولى، من دون أدنى شكّ، أن يحدث ذلك في إسرائيل، حيثُ سيكون من شأن إنجاز دولة أو بلد يتشاركها جميع الناس الذين يعيشون فيها، بغضِّ النظر عن مسنداتهم العرفيَّة، أن يُشكِّل العلامة الفارقة لهذه الصحوة.