القتال في صفوف الحرية
لخص حمدي أبو جليل وجها مهما من أوجه العوار في الثقافة المصرية، ولم يكتف بذلك، بل وحاول أن يعالجه. يقول الروائي المصري الذي رحل قبل أيام عن عمر يناهز 56 عاما: “عندما كتب طه حسين في النصف الأول من القرن الماضي كتابه “في الشعر الجاهلي”، وبعدما قوبل بهجوم حاد وردود أفعال متشنجة بسبب ما سيترتب على الكتاب من دحض وتفنيد للسردية العربية وما يقف وراءها من أبعاد تاريخية ودينية، نكص الرجل وأعاد طباعة الكتاب منقحا من الفصول الخلافية وبتعديلات واضحة وأسماه “في الأدب الجاهلي”. وبعدها بعشرات السنوات نكص نجيب محفوظ أيضا بعد التضييق الذي وقع على رواية “أولاد حارتنا”، للدرجة التي انسحب فيها محفوظ من سوق النشر المصري كاملا وذهب بروايته الإشكالية إلى بيروت، تحديدا دار الآداب، كممر خلفي، أكثر رحابة، يستطيع أن يهضم رواية مثل “أولاد حارتنا”، ولم يعد نشرها في مصر إلا 2006 عن طريق دار الشروق، وبعد تلك الواقعة بعشرات السنوات جاء الدور على حمدي أبو جليل نفسه، الذي كان مسؤولا عن سلسلة “آفاق عربية” كرجل ثان يساعد إبراهيم أصلان رئيس السلسلة، وفي تلك السنوات وافق أصلان وأبو جليل على نشر رواية “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر في السلسلة، ومجددا قوبل الأمر بردة فعل متشنجة، حتى إن أبو جليل قال إنه استيقظ ذات يوم من النوم واشترى الجرائد كالعادة ليجد اسمه متصدرا المانشيت الرئيسي في جريدة الشعب – الصوت الإعلامي للإسلاميين في تلك السنوات -: “من يبايعني على الدم؟” ومرفق معها صورته بصفته الرجل الذي سمح بنشر رواية تهاجم الدين الإسلامي وتزدريه بحسب المنتمين للتيارات الإسلامية والإخوانية والسلفية. وبعدها بأيام وقف أبو جليل في قاعة المحكمة ليدافع عن نفسه، وخوفا من العقوبات، قال في دفوعاته إن رواية “وليمة لأعشاب البحر” تحض على الفضيلة! كان يذكر تلك الواقعة ويضحك ويقول إن آفة الثقافة المصرية أنها كلما نهضت، وحفرت، وراجعت الثوابت لتنفيها أو تفككها أو تقارعها فكريا أو حتى أدبيا، تعود فتنكص وتنتكس أمام أول هجمة من قبل الإسلاميين.
إلا أن أبو جليل، وعلى عكس نجيب محفوظ وطه حسين، لم يستسلم، ولم يرمِ السلاح، فعاد للاشتباك مجددا، واستغل موقعه كمشرف على صفحة “المكتبة” في جريدة “المقال” ليواصل مقارعة الظلام، ثم جعل من حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك منبرا لمحاربة ما رآه أزمة ثقافية وحضارية تعطل انطلاق البلاد نحو الأمام، ثم أصدر روايته “نحن ضحايا عك” التي تشتبك بشكل مباشر بالأمر، وفي هذه الكرّة، لم ينكص أبو جليل، ولم يرم السلاح، ولم يراجع أقواله كطه حسين، ولم يذهب بعيدا عن نطاق الاشتباك كما فعل نجيب محفوظ، هذا على الرغم من أنه هو نفسه، ينتمي إلى دوائر مصرية شديدة الراديكالية، فهو بدوي، من بدو شمال الصعيد، وهم فئة من ضمن 3 فئات بدوية في مصر وهي: بدو سيناء والقناة، وبدو مطروح والغرب. ثم بدو شمال الصعيد.
ولبداوة أبو جليل دور كبير في رسم مساره ككاتب، فالرجل الذي بدأ مشواره الأدبي بمجموعة قصصية، تتماس بشكل مباشر مع عالم البداوة، عاد وكتب روايتيه “الفاعل” و “لصوص متقاعدون” اللتين عكستا مرحلة انتقال البدوي من باديته إلى المدينة، وتلك العلاقة المرتابة والمتشككة التي تنشأ بينهما.
لقد أمدت البداوة أبو جليل برافد مهم من روافد نهره السردي، غير أنها، بالمثل، أبطأت مسيرته بشكل أو بآخر، وأذكر جلسات القراءة التي كان يتلو علي فيها بعضا من فصول روايته التي بقيت حبيسة الأدراج “الشخص المعزوز في شوارع تولوز”، والتي كتبها عن فترة تواجده في الريف الفرنسي، أثناء تعاقده على ترجمة روايته الفائزة بجائزة نجيب محفوظ “الفاعل” إلى اللغة الفرنسية، إذ وفرت له جهات النشر حينها مسكنا في بيت بمدينة تولوز يقع وسط بساتين من الأزهار والورود الملونة والفراشات الزاهية، هل تتخيل القفزة؟ من الصحراء إلى قلب أوروبا، لقد كانت فترة زلزالية في حياة أبو جليل الذي بدل جلده هناك، وانطلق إلى آفاق لم تطأها قدماه من قبل، فتخفف من كثير مما نسميه في بلداننا بـ”الثوابت” واشتبك مع الحياة بنهم ولهفة بدوي قادم من الجفاف والظمأ إلى الخضرة والوفرة. ثم صاغ ذلك الاشتباك من خلال تلك الرواية التي تعرى فيها تماما، إلا أنه أحجم عن نشرها طيلة سنوات ممتدة خشية ردة فعل “القبيلة”.
هكذا عاش أبو جليل مشتبكاً، بالمعنى الحرفي، ومقاتلاً في صفوف “الحرية” ضد “النكوص والردة”، ينتصر حينا وينهزم حينا لكنه لا يرمي السلاح أبدا، مستفيدا من دروس الماضي، ومن نظريته حول “نهضة الثقافة المصرية ثم نكوصها”.
التعمّق في الإنسانية… التخفف من اللغة
كنت محظوظا بمصاحبة هذا الكاتب طيلة سنوات، بالذات في فترة البدايات، بداياتي أنا ككاتب يتلمس خطواته الأولى، وفي تلك الأيام كانت دار ميريت، أكبر مركز ثقل في الحركة الأدبية المصرية، ومستودع للمواهب، وهناك قابلته.
لطالما تغنى أبو جليل بجملة افتتاحية كتبها الكاتب السوداني “أبّكر آدم إسماعيل” في روايته “الطريق إلى المدن المستحيلة، حين قال: “هب أنك الحاج عثمان سنين، وأنت في الطريق إلى…”. افتتاحية ممتازة، لكن حمدي أبو جليل رأى أنه يستطيع أن ينحتها بلغة أخف، لغة لا تتعامل مع الأمور بقدسية الفصاحة وجلالتها، وإنما بخفة شعبية كفيلة بنقل المعنى نفسه ولكن بشحنة كهربية أقل، فكتب في افتتاح روايته لصوص متقاعدون “إفرض مثلا أنك..” هكذا تخلى أبو جليل عن ذلك الغلاف اللامع الذي يغلف العملية السردية الفصيحة، واختار من الألفاظ العملي والشائع” لا “النادر والثمين”.
كان ذلك رهانا خطيرا على مستوى اللغة، إلا أنه نجح. ومَدًّا للخط على استقامته، فقد اختار أبو جليل أن يخفف عناصر الحكاية نفسها من تلك المهابة والأسطرة، ولطالما قارن أبو جليل الفضاء المكاني في أعماله “الصحراء مثلا” بالفضاء المكاني عند الكاتب الليبي الكبير إبراهيم الكوني، فالكوني بجل الصحراء وقدسها وقدس عناصرها كالإبل مثلا الذي وصل في إحدى رواياته إلى أن يتكلم ويدخن، بينما نزع أبو جليل تلك المهابة عن الفضاء المكاني، ورده إلى أبسط عناصره، وأكثرها واقعية ووطأة: الصحراء تعني قلة الموارد والعطش وعمليات تطور بطيئة على المستوى الفكري والثقافي.
ثم اختار بعد ذلك أن يغوص في التفاصيل الإنسانية، التي تكاد تكون الموضوع الرئيس لبعض نصوصه، مثل رواية “الفاعل” ذات الحس الكولاجي، والتي تكاد لا تترابط أحداثها إلا من خلال خيط بسيط باهت متمثل في تلك الالتقاطات الإنسانية والومضات العميقة التي تكتنف حياة بطل الرواية الذي يمتهن مهنة الفاعل في المعمار.
أما في “قيام وانهيار الصاد شين”، مزج أبو جليل التاريخ المتمثل في محاولة الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي استمالة بدو “الصحراء الشرقية” بمصر وشراء ولائهم. يتخذ أبو جليل من تلك النقطة منطلقا لحكايته، إلا أنه سرعان ما يتجاوزها إلى آفاق أرحب، ذات بعد إنساني، من خلال عمليات الهجرة غير الشرعية من ليبيا إلى إيطاليا، حيث تنفتح الآفاق هناك على بشر من جنسيات مختلفة يقطعون البحر ثم يصلون الأراضي الإيطالية وينطلقون إلى حياة جديدة قد تنجح أو تخفق.
الأيادي البيضاء
عندما قرأت خبر رحيل أبو جليل، شعرت بأن المصاب شخصي، وأن الأمر يخصني وحدي، بسبب تاريخ طويل من الصداقة والمودة بيننا، ولأن للرجل أيادٍ بيضاء علي، غير أنني تابعت حالة الحزن التي سادت الأوساط الثقافية المصرية والعربية، خصوصا في لبنان، البلد الذي لطالما أحبه أبو جليل ونشر في بعض أعماله.
في تلك اللحظات التي أعقبت الصدمة، قام كل أحباء حمدي بعمل جردة سريعة لعلاقاتهم به، ليكتشف الجميع، أنه مدين، بشكل أو بآخر، لذلك البدوي النبيل، والكاتب الكبير، الذي سيخلد اسمه بيننا، لا بسبب أعماله الرائعة فقط، وإنما بسبب أياديه البيضاء على الثقافة والمثقفين.