منذ فيلمها الأول “جزائرهم” تحاول المخرجة الفلسطينية الجزائرية لينا سوالم استعادة الأماكن وسيرتها ضمن سيرة أهلها، معتمدة بذلك على الأرشيف المحكي والقصص الشخصية والأرشيف، في فيلمها الأخير “باي باي طبريا” التي تروي فيه سيرة أمها وجدتها وعودتها الشخصية لفلسطين، نرى الاستعادة التي تتجاوز المستحيل، من خلال تجاوز الزمن والحدود، ورؤية المكان واكتشافه من خلال سيرة نسائه وقوتهن وخروجهن وعودتهن المستمرة لمدن وبلدات وأماكن شكلت ذاكرتهن، هذه الاستعادة هي ولادة جيل بينما كانت لحظة دخول لتاريخ جديد بالنسبة لجيل آخر، حول الأماكن والزمن والتاريخ الشفوي والذاكرة، كانت هذه المقابلة مع المخرجة لينا سويلم حول فيلم “باي باي طبريا” الذي عرض لأول مرة الأسبوع الماضي في مهرجان فينيسيا في إيطاليا.
بداية لينا، أنت ولدتِ بعيداً عن فلسطين، واستعدتِ ذاكرة مكان عائلتك من الحكايات والصور، لأي أحد يشتبك فيلم “باي باي طبريا” بين ما هو شخصي في تجربتك، وعام في تجربة الفلسطينيين كشعب؟
كما في الفيلم الأول “جزائرهم” الذي يتحدث عن ذاكرة الجزائريين في فرنسا، يحدث الشبه في فيلم “باي باي طبريا”، وهو تكملة لما بدأته في أول فيلم، لأن الاثنين يعكسان قصة شخصية ولكن مع تطور الأحداث نرى كيف يعكس ما هو شخصي الذاكرة الجماعية، لذلك استخدمت في “جزائرهم” وفيلم “باي باي طبريا” الأرشيف العائلي، ولكن الإضافة في فيلم “باي باي طبريا” هو الأرشيف التاريخي. الذاكرة الجماعية هي مجموعة ذكريات شخصية، ولا أستطيع أن أفكر بذاكرة شخص بدون القصة الجماعية العامة، وتحديداً عندما نتحدث عن النساء الفلسطينيات، لأن التاريخ أثر على قصصهن، لم أفكر بالعمل على فيلم حول قصة فلسطين أو حول التاريخ الفلسطيني، أنا شخصياً ما أحب أن أصوره وأرويه وهو قصص الشخصيات وإحساسها وتجاربها الشخصية، لذلك كان من المهم بالنسبة لي أن أركز على حكايات الشخصيات، وبالتأكيد حياتها وتجاربها كانت متأثرة بشكل مباشر بالسياق الجماعي، لذلك أفكر أنه لا يوجد إمكانية اخرى بدون جمع هذه الوجوه.
بفيلم “باي باي طبريا” كان من المهم أن أعمل على الأرشيف على التاريخي، لأن قصة فلسطين ليست رسمية وغير معترف بها، في الفيلم الأول “جزائرهم” كنت أروي حكاية جدي وجدتي المهاجرين إلى فرنسا، وقصة الاستعمار الفرنسي للجزائر هو موضوع نتحدث عنه باستمرار، ونتعلم في فرنسا عن الاستعمار الفرنسي للجزائر، ويوجد أفلام تاريخية ويوجد أرشيف منتشر، وأظن أن أغلب الناس مدركة لهذا الاستعمار وحقيقته، ولكن بالقصة الفلسطينية هناك نقص كبير جداً، ولا نتحدث كثيراً عن النكبة، لذلك كان مهماً بالنسبة لي أن أعيد الشخصيات التي كنت أتحدث عنها في الفيلم، إلى الأماكن التي ولدوا فيها، ولا يملكون اليوم إمكانية العيش ضمنها مرة أخرى، أو يجدوا أمكانهم، وأيضاً في هذه الأماكن تم محو قصتهم، لذلك كان من المهم لي أن أروي قصتهم ضمن هذه الصور والمشاهد ليستعيدوا ذاكرتهم ضمن أماكنهم.
نكتشف في الفيلم أن الموت الحقيقي له شكل أقرب للصمت، لأي حد اعتبرتِ رواية القصص والكلام وسيلة لاستعادة الماضي وفهم الحاضر؟
احتجت للكثير من الوقت لأفكر بالطريقة الأفضل لرواية هذه القصص، لأن هناك الصمت وفي ذات الوقت هناك حكايات كثيرة وراء هذا الصمت، منذ طفولتي وأنا أنصت لهذه القصص وما يعادلها من الصمت، أخت جدتي عاشت في مخيم اليرموك في سوريا مثلاً، ولكن لا أذكر أبداً أن أحداً ما شرح لي لي ما الذي حدث لكي تصل إلى مخيم اليرموك، وكيف وصلت، أو حتى تحدثوا عنها كسيدة، فقط كانوا يتحدثوا بشكل عام عن الظروف، قصة جدتي كنت أعلم أنها متعلمة، ولكن لم أكن أعلم أنها أول إمرأة تعلمت في عائلتها، كنت لا أملك هذه التفاصيل، ومثلاً أعلم أن عائلتي من مدينة طبريا، ولكن لم أكن أعلم كيف خرجوا من طبريا، ما الذي يتذكرونه من المدينة، لذلك هذه القصص تطلب جمعها الكثير من الوقت. كنت أبحث دائماً عن هذه القصص، واجمع الصور، والمهم كان إعادة كتابة هذه القصص بطريقة شاعرية ليست فقط تراجيدية وليست فقط عن صعوبة الظروف، ليكون لهم حضورهم في الفيلم بكل تعقيدات حياتهم، لم أفكر أن يكون حضورهم عبارة عن نساء كضحايا فقط، لا هم لهم دورهم وأثروا بالمجتمع المحيط بهم، وأخذوا قرارات غيرت قدرهم.
كثيراً ما تشعر في الأفلام ضمن الوطن أن العربي أن المرأة غالباً ما تكون محافظة جداً أو تكون على النقيض مباشرة تحاول تحطيم جميع التقاليد، ولكن قليلة هي الشخصيات التي تحاول جمع كل هذا التفاصيل، نعم جدتي تعلمت وعلمت ولكن في ذات الوقت أنجبت عشرة أطفال، وكانت تقليدية، لديها هذا التناقضات بداخلها، فأحببت أن أتحدث عن هذه التفاصيل.
في البداية كتبت مع نادين نعوس المخرجة اللبنانية الفلسطينية ثم مع المونتيرة Gladys Joujou التي منتجت لي أول فيلم، في النهاية عملت مع صديقي كريم قطان، كتبنا معاً قصص النساء بما فيها من ملحمية، لأن قصصهم عبارة عن ملحمة كاملة ولا نتحدث كثيراً عن هذا الجانب. غالباً عندما نتحدث عن قصص فلسطينية من الخارج، نسمع عن الضحايا والمأساة، ولكن قليلاً ما نتحدث عن هذه التفاصيل لأفراد عاشوا شجاعتهم الشخصية وأحلامهم. لذلك كان من المهم بالنسبة لي استعادة أماكننا التي يجب أن نكون فيها، التي نحلم أن نكون فيها في الذاكرة، أن أشعر أن قصتي جزء من قصة عائلتي، وقصة عائلتي جزء من قصة فلسطين، وأن قصة فلسطين جزء من قصة العالم وليست على الهامش.
في صورة لأربعة نساء فلسطينيات من عائلتك، يمثلن أربعة أجيال، أنت الوحيدة التي ولدت خارج فلسطين. كيف تقرأين هذه الولادة في سياق سيرة عائلتك اليوم؟
الذي كان غريباً بالنسبة لي أن حياتي كانت مختلفة جداً، طفولتي كانت مختلفة عن طفولة والدتي، وغريب عندما يشعر أي إنسان أنه جزء من عائلة تمتلك حيوات مختلفة، ولكن في ذات الوقت كنت أشعر دائماً أنه أكيد أنا أملك امتياز الولادة في فرنسا ضمن عائلة صغيرة ولا نملك أزمات سياسية، ولكن كنت أشعر دائماً أني لست في المكان الذي يجب أن أكون فيه، لأن ذاكرة عائلتي ليست موجودة في البلد الذي أسكن فيه، وأيضاً لأن والدي جزائري. ولدت مع هذه الهويات الثلاث، ولا أستطيع أن أعيشها معاً في ذات الوقت، ولا أعرف كيف يمكنني أن أسمي نفسي، ووالدتي عندما ولدت لم تكن تتحدث الفرنسية، واليوم أنا أتحدث العربية ولكن لا أجيد كتابتها، ولكن الأفلام هي التي ساعدتني لأعيد التعقيدات إلى شكلها الأصيل، في بعض الأيام أكون أكثر فلسطينية وأحياناً أكثر فرنسية وفي اليوم الثالث أكون أكثر جزائرية، أحياناً أتحدث باللغة الفرنسية وأحلم بالعربية.
نعم أنا لم أولد هناك، ولكن أنصت بهدوء للقصص التي كنت أبحث عنها دائماً، لأنه دائماً كان لدي هذا الإحساس لأنه لدي قصة في مكان آخر يجب أن أنصت لها، ويجب أن أجد مكاني ودوري فيها، وأعيد جمع كل هذه القصص مع ماضينا المشترك. بالنسبة لجيلي هناك الكثير ممن ولدوا في أوروبا، فمن الصعب أن نمضي في حياتنا دون أن ندرك من أين أتينا، وما هي كل التضحيات التي قامت بها الأجيال السابقة لنكون نحن موجودين في أماكننا الحالية، لذلك مهم أن نستعيد ذاكرتنا الشخصية لنكون جزءاً من الذاكرة الجماعية.
الفيلم مبني على دوائر معقدة في العلاقة بين الزمن والخروج والعودة. قلت في الفيلم أنك لا تتخيلين جدتك “أم علي” وهي صغيرة بل ولدت في لحظة النكبة، وأن الخروج من طبريا يعني الدخول للتاريخ. ثم دائرة والدتك في خروجها من فلسطين وسفرها إلى أوروبا. بينما ولادتك الشخصية كانت في العودة إلى فلسطين. ما هو المشترك برأيك بين جميع هذه الحلقات الشخصية؟
أنا أشعر أننا بالفعل كتبنا الفيلم بهذه الطريقة، كل شيء به عبارة عن حلقات تدور باستمرار، تذهب وتعود باستمرار، وهذا بالنسبة لي يتحدث عن الغربة، ليس فقط عن قصة فلسطين، بل غربتها أيضاً، كل شخص غادر مكانه، أحياناً قررنا الخروج، وأحياناً كان يجب أن نخرج من أماكننا، ولا نملك الخيار، وفي العودة أيضاً نخوض ذات التجربة، عندما نغادر ونحاول العودة لا نجد ما تركناه، لذلك ضمن هذه الدوائر كل عودة تحمل مشاعرها المختلفة، لنحاول من جديد أن نجد أماكننا بطريقة جديدة، وأن تجد الرابط بين قصتك والمكان بطريقة جديدة.
إدوارد سعيد كتب كثيراً عن هذا الموضوع، كيف يبدأ الإنسان العيش في الغربة بين عوالم مختلفة، ويجب أن يجد طريقة للتنقل بين هذه العوالم، بدلاً من محاولة إيجاد المكان الذي تركه، وهذه التفاصيل صعبة جداً، لأنك سوف تعود لذات المشاعر، وسوف يرى بالتحديد الأماكن والأشخاص الذين تركهم، وأنا أملك ذات الإحساس لأنني أمتلك أرشيفي الشخصي عندما كنت صغيرة هناك، وعندما عدت إلى فلسطين كنت أبحث عن الشعور الذي كنت أشعر به عندما كنت طفلة، ولكن هذا مستحيل، لذلك الذي فهمته وساعدني مع الفيلم كيف تتوقف المرأة عن البحث عن العودة إلى ما هو شخصي بدون البحث عن مكانها في العالم، أو بين هذه العوالم.
هذا الذي أدركت والدتي كيف يجب أن تفعله في حياتها، في كل حياتها كانت تخوض تجربة أن تجد مكانها في العالم، بدلاً من محاولة إيجاد محلها في المكان الذي تركته، وأنا في الفيلم في البداية كأنني أريد أن أعود لأعرف المكان الذي تركته والدتي هناك، ولكن مع الوقت أدركت أنه يجب أن نجد المكان الذي نحن جميعنا جزء منه، رغم الاختلافات التي بيننا، ورغم صعوبة المكان. الجواب الكبير بالنسبة بي كان أن أهم شيء ضمن هذه الحلقات أنو نكون جزءاً من ذاكرة المدينة.
هناك سياق من التوارث العميق للمعاناة والحزن في سيرة النساء التي رويتها. وكأن المدن مرآة نسائها وسيرتهم. إلى أي حد شكل التهجير من طبريا استمراراً لسياق الألم بالنسبة للأجيال المتعاقبة بعد النكبة؟
كل مكان وكل مدينة مرتبطة بقصة جيل، ولكن المكان الجماعي لنا كلنا هو طبريا، لذلك كان اسم الفيلم “باي باي طبريا” وأسلوب الوداع في كلمة “باي باي” لا يعني أبداً أننا لن نعود، أو أننا مكسورون، بل تعني أننا في وداع مؤقت طالما نحن ضمن ذاكرة المكان، لذلك كنا طوال الفيلم نذهب ونعود إلى طبريا كثيراً، لهذا يجب أن نعود لفكرة الدوائر، نرى طبريا اليوم طبريا في الماضي وطبريا في الأرشيف، كأننا في عودة مستمرة تحطم الفراغات بين الزمن. في الفيلم حاولت أن أخلق مناطقنا من ذاكرتنا نحن، كيف نمر من مساحة زمنية إلى أخرى، من مدينة إلى أخرى، لأن المناطق التي نعيش فيها تغطيها الحواجز والحدود، ولا نمتلك الحرية في مناطقنا الجغرافية.
نهاية لينا. عرض الفيلم لأول مرة كان قبل أيام في مهرجان فينيسيا، ما هو شعورك بعد العرض الأول؟ وكيف رأيت تفاعل الجمهور؟
كان جميلاً جداً، كنت متوترة قليلاً وخائفة، لقد عملت على الفيلم سبعة سنوات، في هذه السبع سنوات كنت دائماً في خوف، ولكن لحظة العرض كنت سعيدة جداً لأن كل طاقم الفيلم كان موجوداً، كنا مجموعة نساء معاً وعائلتي كانت معي، وكنت فخور بأنني أشارك هذه التفاصيل معهم جميعاً، كانت لحظة عاطفية جداً.
كتب لي أحد المشاهدين للعرض، وهو فلسطيني يعيش في فينيسيا وجزء من عائلته من الجزائر أيضاً، شعرت بهذه اللحظة كيف أن هناك أيضاً شخص فلسطيني جزائري أيضاً خارج فلسطين وأتى ليرى الفيلم، بالإضافة للكثير من القصص لأشخاص يراسلونني ويتحدثون عن مدى صعوبة أن يجدوا مكانهم في العالم. ولكن ما يزال هذا الأول ضمن مكان واحد حتى الآن، ومن المهم بالنسبة لي مشاركة الفيلم في مدن أخرى، لكي أشارك الجميع هذه التجربة، لذلك سعيدة جداً أن الفيلم عرض قبل أيام كذلك في مهرجان تورونتو، وقريباً في لندن، وفي العالم العربي أيضاً.