في هامش صغير جداً من مقال “في الطبائع القومية On National Charachters”، يقول أستاذ التنوير الغربي، وأحد أشهر وأذكى الفلاسفة في التاريخ، ديفيد هيوم، إن السود غير متساوين مع البيض:
“أنا أميل إلى أن الزنوج أدنى بشكل طبيعي من البيض. لا تكاد تجد أية حضارة عندهم، ولا حتى فرداً بارزاً في الأفعال أو في الفكر. لا يوجد صناعيون عباقرة، لا فنون، لا علوم… في جامايكا، في الحقيقة، هناك كلامٌ عن زنجي مهذّب ومتعلّم؛ ولكن على الأغلب يقدّرونه بسبب إنجازات تافهة، كالببغاء، الذي يستطيع ترديد بعض الكلمات بفصاحة.” وقد اعتاد الدارسون التبرير لهيوم بالقول إنها ملاحظة متسرعة، وغير دقيقة، وغير هامة: هامشٌ صغير معزول، بين أعمال كثيرة متعددة، منفتحة، ليبرالية، إنسانوية، وتدعو إلى التسامح والمحبة.
في القرن العشرين، ومع أخذ مثل هذه الملاحظات بالجدية اللازمة، تبيّن أنها ليست هامشية على الإطلاق: وصلت رسائل إلى هيوم من مؤيدي العبودية، ومن تجار البشر، حول هذا الهامش، وأثنى التنويري الرائد عليهم. انتقده دعاة المساواة – من السود والبيض- في لندن، وتحدّوه في مناقشات علنية، بل أرسل له بعض السود، ومنهم من كان يدرّس في الجامعات البريطانية، ويتكلم عدة لغات (أكثر من اللغات التي يعرفها هيوم) أكثر من رسالة، وطلبوا منه أن يشرح موقفه: تجاهلهم بصلف، ورفض الحوار معهم بشكل كامل.
كان معظم فلاسفة الأنوار عنصريين وذكوريين، بشكلٍ أو بآخر. هذا كلام صحيح، وممل. السؤال الحقيقي هو: هل هناك صلة بين نظرياتهم الفلسفية وبين عنصريتهم أو ذكوريتهم؟
إدوارد سعيد، في كتاب “الاستشراق”، يجزم بوجود رابطة ضرورية بين عنصرية الفلاسفة ونظرياتهم الفلسفية:
“نرى الفلاسفة يجرون مناقشاتهم للفيلسوف لوك، ابن القرن السابع عشر، أو ديفيد هيوم، ابن القرن الثامن عشر، وللمذهب الإمبريقي أي التجريبي دون أن يأخذوا في اعتبارهم على الإطلاق وجود رابطة سافرة في كتابات هؤلاء الكتّاب الكلاسيكيين بين مذاهبهم “الفلسفية” والنظرية العنصرية، وتبريرات ممارسة الرق، أو حجج الدفاع عن الاستغلال الاستعماري”. (لاحظ أن سعيد يضع كلمة “الفلسفية” بين مزدوجين، كأنها ليست فلسفية حقاً، بل ناتجة عن العنصرية!)
تأتي هذه المقولة في مقدمة الكتاب النظرية، وفيها يتحدث سعيد عن الربط العام بين العلوم الإنسانية وبين السياسة، وعنوان المقطع بأكمله: التمييز بين المعرفة البحتة (المجردة) والمعرفة السياسية. هذا التمييز يرفضه سعيد تماماً: يؤمن سعيد بوجود رابطة عضوية ومباشرة بين المعرفة المجردة وبين التوجهات السياسية، ويعطي مثال هيوم أعلاه عن تلك العلاقة العضوية.
ولكن يبدو لي أن سعيد مخطئ في هذا المثال. ريتشارد بوبكن، الذي درس أعمال هيوم لعقود، وكان أول من أشار إلى مراسلات هيوم مع المدافعين عن الرق، يرفض وجود صلة، حتى لو كانت واهية، بين نظريات هيوم الفلسفية وبين عنصريته: على العكس تماماً، تبدو عنصرية هيوم متناقضة مع نظرياته المنفتحة والتقدمية، ومع تسامحه الأصيل العميق النابع من فلسفته، مع لا-أدريته الهادئة، ومع مطالبته بإعمال العقل وبالمساواة بين الناس: عنصريته تصطدم مع مبادئه التنويرية والتجريبية والعلمية، ولا تترابط معها.
يبدو سعيد متسرّعاً جداً، في هذه النقطة، لأنه يريد أن يخبر القارئ بوجود صلة بين المعرفة والسلطة. ويبدو لي أنه يكرر افتراضه الخاطئ في نقاشه الممتع عن ماركس وفلوبير. ولكن، في هاتين الحالتين، لا نعرف بالضبط هل يريد فقط الكشف عن عنصرية مُضمرة في أعمالهما، أم يريد القول بوجود رابطة أعمق بين مجمل توجهاتهما وكتاباتهما وبين عنصريتهما. وهذا أمران مختلفان، ولا يجوز الخلط بينهما: الكشف عن عنصرية مُضمرة تتجلى في أكثر من مكان، ووجود رابطة عضوية بين كل فكر الكاتب وبين عنصريته. وهذا الخلط، في أعمال سعيد وغيره، يجعل نقاش حالة هيوم شديد الأهمية.
يجب الفصل بين الأمرين، بشكل واضح وقاطع، لسببين.
أولاً، لم يكن هيوم الفيلسوف الوحيد الذي يحمل آراء عنصرية. يستطيع المرء أن يلتقط مثل هذه الملاحظات المتناثرة وغير الدقيقة وغير المُحكمة، في أعمال ماركس، وهيغل، وفولتير، وكنط، وتوماس هكسلي، وداروين، وتقريباً معظم فلاسفة الغرب قبل منتصف القرن العشرين.
لو أخذنا مقولة سعيد حرفياً، لكانت كل نظريات هؤلاء مرتبطة بعنصريتهم، ولرفضنا كل أعمالهم. لاحظ أن هذه الأعمال تتناقض: ماركس يساري، وتوماس هكسلي رأسمالي: أي يجب أن نرفض اليسار واليمين معاً. ماركس وهيغل يتناقضان في أولوية المادة على الفكر أو العكس. فولتير رفض فكرة التطور التي قال بها داروين. وهلم جراً. لا يمكن أن تكون للأفكار المتناقضة نفس المنبع أو النتيجة: أي العنصرية.
على العكس، المنطقي أن تكون العنصرية منفصلة عن هذه النظريات، وليست مرتبطة بها.
تميل ما بعد الكولونيالية، وسعيد في مقدمة هذه الحركة، ومعها ما بعد الحداثة، إلى القول بوجود نظام فكري متكامل في عصر من العصور، وإلى ربط الأفكار المتناثرة عند الفيلسوف في نسق أو نظام متعاضد، لتترابط أفكاره في هذا النسق وتتواشج بشكل واضح ومُحكَم. بدرجات مختلفة وبطرق مختلفة، هيغل وماركس وفوكو يتبنون هذه الرؤية، وربما توماس كون. على العكس، تميل الفلسفة التحليلية، وبطريقة مقنعة برأيي، إلى رفض هذا الربط: أحياناً، تتناثر الأفكار في عصر من العصور بدون روابط واضحة، بل ويعيش بعضها بجانب بعض من عصور مضت، وتتناقض الأفكار المقبولة والمنتشرة في كل عصر؛ بل وعند الفيلسوف الواحد، نجد تناقضات متعددة، في أكثر من قضية. بحسب التحليليين، الفريق الأول محق في ربط بعض الأفكار في نسقٍ متكامل أحياناً، ولكنه مخطئ في المبالغة في هذا الربط، وفي جعله ضرورة منطقية، تنطبق على كل الأفكار السائدة في عصرٍ ما أو عند فيلسوف ما.
سأعطي أمثلة عن الربط المحق بين الفلسفة والآراء السياسية: فريدريك نيتشه انتقد عقلانية التنوير، وأكثر ما انتقده المساواة بين الناس؛ هاجم الليبراليين واليساريين بدون هوادة: نقده لهم ينبع من عبادة القوة والسوبر مان/الإنسان البربري الذي يقدسه. في هذه الحالة، الآراء الفلسفية وكراهية الديمقراطية من صُلب وأسس نظرياته الفلسفية. ماركس في دفاعه عن العمال ودعوته إلى المساواة في توزيع الثروة يربط بين نظريته في القيمة ونظرية التاريخ وبين رؤيته للعدالة والواقع السياسي وضرورة تغييره. فولتير في دفاعه عن التسامح يربط بين جهلنا البشري الضروري وبين التسامح. هيردر، داعية النسبوية الغريب، رأى في النسبوية تساوياً بين الثقافات، وبالتالي قبولاً بالآخرين. وبالطبع، ديكارت، في افتتاحية الكتاب الذي أسس الفلسفة الغربية الحديثة، أكّد أن: “العقل أكثر الأشياء مساواةً بين الناس”. هذا التأكيد ينعكس في كل فكره الفلسفي والأخلاقي.
ولكن حالة هيوم مختلفة: لا يوجد رابط بين عنصريته وبين نظرياته الفلسفية في الأخلاق والأبستمولوجيا والدين.
السبب الثاني عملي، وهو شديد الأهمية لنا: الربط الدائم بين النظريات الفلسفية والعنصرية سيؤدي إلى رفض الغرب كلياً، وإلى التقوقع الذاتي والانعزال. أي أننا سنرفض قراءة وفهم داروين، وماركس، وهيوم، وعشرات غيرهم. وسنكتفي بلوم الغرب ليل نهار، بدون أن ننخرط في فهم النظريات الفلسفية وما تحمله، وما تقدمه، وما لا تستطيع تقديمه.
يبدو لي عمل تلميذ سعيد، جوزيف مسعد، بالضبط عالقاً في هذه النقطة: ورفضه، بل وتخوينه، لطه حسين ونجيب محفوظ، لأنهما تأثرا بالغرب، ينبع من رغبته الحارقة في لوم الغربيين على كل شيء، وفي رفض كل من يتأثر بالغرب، ليجعل الانغلاق والتقوقع المخرج الوحيد: رفض الغرب كلياً هو النتيجة المنطقية لربط كل نظرياتهم الفلسفية بالسياسة والسلطة والعنصرية.
لكن سعيد نفسه لم يرفض الغرب، بل دعا إلى الحوار وتمسّكَ بالعقلانية والديمقراطية. وحقق قفزة هائلة في فهم الغرب لنفسه. فقد كشف عن ادعاء عميق في فكر الغرب، وهو الادعاء بوجود جوهر ثابت للشرق، متخلّف، ومختلف. يتجلى هذا الادعاء في أكثر من مكان: في السينما، وفي الأدب، وفي الفن التشكيلي. نجح سعيد في كشف اللثام عن هذا الافتراض العميق، وألهمَ آلاف البحّاثة للكشف عن الافتراضات العميقة الخفية فيما يُنشر ويُكتب في الغرب وفي بلدانهم: من اليابان إلى إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية. وبفضل جهده الخارق، أصبحت فلسطين على خريطة الأكاديميا الأمريكية، بشكل مدهش وعميق.
أما ديفيد هيوم، فيلسوفي المفضّل، فمن المُحزن أن نرفضه أو أن نتجاهله: قال هيوم إن قدرات الإنسان محدودة، ونحن لا نعرف أصول معارفنا العلمية ولا نستطيع تبرير نجاحاتها الهائلة؛ ولكننا يجب أن نتمسّك بهذا العلم وبإنجازاته وبالعقلانية الهشة التي تسنده. وفي الدين، كان أقرب إلى مواقف لا-أدرية. آمن بالتسامح، وبعاطفة محبة أصيلة بين كل البشر، فطرية ومباشرة وبسيطة. وفي كل ذلك، أجده الفيلسوف الأكثر إقناعاً والأقل ادّعاءً في الفلسفة الحديثة.
ولكن أفضل ما قاله -وهذا ينطبق تماماً على هيوم، كما ينطبق على سعيد- إن ما يحركنا غالباً عاطفة عميقة، ونحاول عقلنتها لاحقاً: لم يلتفت هيوم إلى محاولة جعل العقل محركا وباعثاً لأفعالنا، بل يخبرنا العقلُ بالدرب والطريقة للوصول فقط، ولكنه لا يقدّم لنا الهدف. كراهية هيوم للسود عاطفية، وغير عقلانية: تعبير تافه ومنحط عن السائد في عصره. رغبة إدوارد سعيد في تحدي العنصرية الغربية، والتزامه الكامل والدائم بالقضية الفلسطينية، ألهماه على مدى حياته الأكاديمية المثيرة والمثمرة: عاطفة صادقة حارّة، تحوّلت إلى نجاح هائل، بعقلانية منفتحة أصيلة.