هذا النصّ نسخةٌ منقَّحة من جزء من حوارٍ مباشر بُثَّ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مع نعوم تشومسكي، ضمن اللقاءات العامَّة التي نظَّمتها حملة التضامن الإسكتلنديَّة مع فلسطين، إلى جانب مجموعاتٍ ومنظَّماتٍ أخرى، في شتَّى أنحاء إسكتلندا وشمال إنكلترا، في يوم الجمعة الموافق 11 تشرين الأوَّل/ أكتوبر من سنة 2002.
يبدو لي أنَّه من المفيد الإشارة إلى مبدأ أخلاقيٍّ على درجةٍ من البداهة بحيث يشعر المرء بالحرج لمجرَّد ذكره؛ لكن ما يُدفعني إلى ذلك هو أنَّه مُتجاهَل تقريباً على المستوى العالميّ. إنَّه من السهل (بل حتَّى من غير المُرضي) على المرء أن ينتقد جرائم الآخرين ويدينها، لكن المسألة تزداد صعوبةً عندما تتعلَّق بأن ننظر في المرآة ونسأل أنفسنا عن أفعالنا التي لن تروق لنا في الغالب، وفي حال كنَّا صادقين مع أنفسنا في الحدِّ الأدنى، فسينبغي أن نحاول فعل شيءٍ ما بخصوص تلك الأفعال. تختلفُ سيرورة الإصلاح هذه بحسب موقع المرء في العالم إذ من الممكن في بعض البلدان أن يعني ذلك السجن، أو التعذيب الوحشيّ، أو التعرُّض للقتل. في البلدان المشابهة لبلادنا، تأتي النتيجة على صورة إدانة، أو فقدان فرص العمل، أو عواقب طفيفةٍ أخرى وفقاً للمعايير الدوليَّة. وهكذا فإنَّ عمليَّة الإصلاح هذه أصعب بكثيرٍ من مجرَّد الحديث عن مدى سوء الآخر. وعلى سبيل المثال، هناك نوعٌ أدبيٌّ أميركيّ يشهدُ تطوُّراً من خلال نشر العديد من الكتب والمقالات والنقاشات الحماسيَّة، مِحورُه واحدٌ من مكامن الخلل في شخصيَّتنا: “نحنُ لا نتَّخذ ردود الفعل المناسبة إزاء الجرائم التي يرتكبها الآخرون”، و”ما الخطب الذي يحول بيننا وبين فعل ذلك؟”. من الواضح بالطبع أنَّ هناك مشكلاتٍ أكبر بكثير؛ على غرار “لماذا نواصلُ المشاركة في ارتكاب الفظائع الجماعيَّة، والقمع، والإرهاب، من دون أن نفعل أيَّ شيءٍ حيال ذلك؟”. لكن ليس هناك نوعٌ أدبيٌّ خاصّ بهذا الشأن.
ربَّما كان كلُّ ما سبق معلوماً لدى الجميع، لكنَّني قلته على أيُّ حال. أنطلقُ من معاداة الساميَّة: في فترة صباي، مثَّلت معاداة الساميَّة مشكلةً خطيرةً في الولايات المتَّحدة. إبَّان حقبة الكساد العظيم في ثلاثينيَّات القرن المنصرم، وعندما استطاع والدي أخيراً جمع ما يكفي من المال لشراء سيَّارةٍ مستعملةٍ واصطحاب أفراد أسرته في رحلةٍ إلى الجبال، كان لزاماً علينا التحقُّق إذا ما أردنا المبيت في فندقٍ من عدم وجود لافتةٍ تحمل عبارة “منطقةٍ محظورة”؛ وكنَّا نحنُ، اليهود، المقصودين بهذا “الحظر”، وكذلك السود بالطبع. وحتَّى عندما التحقتُ بجامعة هارفرد قبل خمسين عاماً، كانت معاداة الساميَّة ظاهرةً طاغية. لم تضمَّ هيئة التدريس أيَّ عضوٍ يهوديٍّ آنذاك، وأظنُّ أنَّ الأمر استمرَّ على هذا المنوال حتَّى تعيين أوَّل بروفسور رياضيَّات يهوديٍّ، في فترة تواجدي هناك في أوائل خمسينيَّات القرن الفائت. ومن بين الأسباب التي جعلَت من معهد ماسَّاتشوستس للتكنولوجيا (حيثُ أعمل الآن) جامعةً عظيمةً هو أنَّ العديد من الأشخاص أصبحوا في مراحل لاحقة نجوماً في العالم الأكاديميِّ لم يتمكَّنوا من الحصول على وظائف في هارفرد، لذا اتَّجهوا إلى كليَّة الهندسة في الشارع المجاور. قبل ثلاثين سنةً فحسب (في ستينيَّات القرن)، عندما صار لديَّ أنا وزوجتي أطفال صغار، قرَّرنا الانتقال إلى إحدى ضواحي بوسطن (إذ لم يعد بمقدورنا تحمُّل تكاليف الإيجار بالقرب من كامبريدج). استفسرنا من وكيلَ عقاراتٍ عن إحدى المدن التي أثارَت اهتمامنا، فأجاب: “حسناً، لكنَّكم لن تكونوا سُعداء هناك”. كان المقصدُ من كلامه أنَّه مكانٍ غير مرحَّب باليهود. وليس هذا كمثل إرسال الناس إلى معسكرات الاعتقال والإبادة، لكنَّه لا يزال ضرباً من ضروب معاداة الساميَّة، وهكذا كانت الحال في معظم أنحاء البلاد تقريباً.
أمَّا اليوم، فيمكن القول إنَّ اليهود هم الشريحة السكّانيَّة الأكثر حظوةً وتأثيراً. ستجدُ حوادثَ عرضيَّةً من معاداة الساميَّة، لكنَّها هامشيَّة. وهناك الكثير من العنصريّة، بيد أنَّها موجَّهةٌ ضدَّ السود واللاتينيِّين والعرب الذين يشكِّلون جميعاً أهدافاً لعنصريَّة هائلة؛ تلك هي المشكلات الحقيقيَّة. لحسن الحظّ، لم تعدُ معاداة الساميَّة مشكلة، مع ذلك لا تزال قضيةً مثارةً لرغبة النافذين في التأكُّد بأنَّ لديهم السيطرة المطلقة، لا نسبة 98% منها فحسب. وهذا ما جعل من معاداة الساميَّة قضيَّة ذات أهميَّة؛ أي ليس نتيجةً لخطر معاداة الساميَّة، بل لأنَّ أولئك يريدون التأكُّد من غياب أيِّ نظرةٍ نقديَّةٍ بصدد السياسات التي تدعمها الولايات المتَّحدة (وهُم أنفسهم) في الشرق الأوسط. وأمَّا فيما يتعلَّق بمعاداة الساميَّة، فقد أشار السياسيُّ الإسرائيليّ البارز أبا إيبان إلى أن المهمَّة الرئيسيَّة للبروباغندا الإسرائيليَّة (سيُسمُّونها استصراخاً، لكنَّها ستكون “بروباغندا” حينما يفعلها الآخرون) هي التوضِّيح للعالم أنَّه لا فرق ما بين معاداة الصهيونيَّة ومعاداة الساميَّة. وبمعاداة الصهيونيَّة، كان يقصد انتقادَ السياسات الإسرائيليَّة الحاليَّة. إذاً لا فرق ما بين انتقاد السياسات الحاليَّة لدولة إسرائيل ومعاداة الساميَّة، وإذا ما استطاع ترسيخ هذه الفكرة، فسيتمكَّن عندئذٍ من تقويض كافَّة الانتقادات عبر استحضار النازيِّين، وهذا من شأنه إسكات الناس. وسيكون علينا وضع ذلك نصب أعيننا كلَّما دار نقاشٌ في الولايات المتَّحدة عن معاداة الساميَّة.
إنَّ توجيه الأنظار إلى ما يُسمَّى بالمشكلات الإسرائيليَّة أو الفلسطينيَّة إنَّما ينمُّ عن خطأ في التسمية إذ ينبغي أن تُسمَّى بالمشكلات الأميركيَّة الإسرائيليَّة ضدَّ فلسطين. بريطانيا منخرطةٌ أيضاً بطريقتها المعتادة، وقد سبق أنَّ صرَّح مسؤول في الخارجيَّة البريطانيَّة إبَّان الحرب العالميَّة الثانية بأنَّ “من الآن فصاعداً، لم تعد بريطانيا فاعلاً مستقَّلاً في الشؤون الدوليَّة، بل شريكاً أصغر للولايات المتَّحدة”. هذا صحيحٌ في جوهره. (تستخدم الصحافة البريطانيَّة اليوم مصطلحاتٍ أقلّ لطفاً للدلالة على هذه المسألة، لكنَّها لا تزال تعبِّر عن الصورة نفسها تقريباً). لا تلعبُ بريطانيا دوراً مبادِراً ونشطاً في الصراخ، بل دورها سلبيٌّ ويتلخَّص بصورةٍ أساسيَّة في دعم الولايات المتَّحدة، في حين أنَّ دور الأخيرة حاسمٌ وطاغ. بمقدور أوروبا أن تلعب دوراً مستقلَّاً؛ لكن طالما أنَّها تختار عدم التحرُّك واستخدام نفوذها، فيظلُّ دورها مقتصراً أيضاً على دعم ما تفعله الولايات المتَّحدة على نحوٍ رئيسيّ. ولن أحاول هُنا استعراض تاريخ الصراع، لذا دعونا نتحدَّث عن الانتفاضة الحاليَّة [الانتفاضة الثانية] والجوانب العسكريَّة التي من شأنها أن تكشف الكثير.
قبل أسابيع قليلة، نشرَت الصحافة العبريَّة تقريراً لمراسل عسكريٍّ بارزٍ ومحترم كان حاضِراً في اجتماعٍ لكبار المسؤولين العسكريِّين الإسرائيليِّين بصدد مناقشة التكتيكات العسكريَّة في الانتفاضة. خلال الاجتماع، استعلمَ أحد المسؤولين عن الذخيرة: كم بلغ عدد الرصاصات التي جرى إطلاقها؟ جاءت الإجابة من قِبل جيش الدفاع الإسرائيليِّ بأنَّه “خلال الأيَّام القليلة الأولى من الانتفاضة (في اليوم الثلاثين من شهر سبتمبر لسنة 2000 والأيَّام القليلة التي تلته)، أطلقَ جنود جيش الدفاع الإسرائيليّ مليون رصاصة”. كانت المعلومة مفاجئةً إذ بدا الرقم مرتفعاً، وقال أحد المسؤولين بمرارةٍ إلى حدٍّ ما (ولا ينمُّ هذا بالضرورة عن أنَّ الجنود يُحبّون الأوامر التي يتلقّونها): “هذا يعني رصاصةً واحدةً لكلِّ طفلٍ فلسطينيٍّ تقريباً”. لنتذكَّر ما كان يجري آنذاك؛ بعض المراهقين كانوا يلقون الحجارة. أشار التقرير نفسه أيضاً إلى مصدرٍ عسكريٍّ آخر قدَّمَ توضيحاً بيانيَّاً لآليَّة سير الأمور، فذكرَ أنَّ مسؤولاً في السلطة الفلسطينيَّة قد استقبلَ زائراً أوروبيَّاً خلال الأسابيع الأولى من الانتفاضة، وعندما أراد الأخير استيضاح مجريات الأحداث، أمرَ المسؤول حارسَه الشخصيّ بإطلاق رصاصةٍ واحدة. لم تمضِ أكثر من ساعتين عقب ذلك حتَّى شهِدت المنطقة وابلاً كثيفاً من النيران الإسرائيليّة التي لم يكن لها أيُّ هدفٍ محدّدٍ سوى الردِّ على رصاصةٍ واحدة! وخلال أوَّل شهر من الانتفاضة، وبحسب المصادر الإسرائيليَّة، بلغت نسبة القتلى قرابة 20 إلى 1 (75 فلسطينيَّاً مقابل أربعة جنودٍ إسرائيليِّين في الأراضي المحتلَّة). أشيرُ أيضاً إلى مثالٍ آخر: في الأيَّام الأولى للانتفاضة، باشرَت إسرائيل على الفور باستخدام ما يُطلَق عليه في الصحافة اسم “المروحيَّات الإسرائيليَّة”؛ لم تكن مروحيَّاتٍ إسرائيليَّة، بل أميركيَّة يقودها طيَّارون إسرائيليّون، وقد جرى استخدامها في قصف المجمَّعات السكنيَّة، ممَّا أسفر عن مقتل وجرح العشرات من الأشخاص. تحدَّثت الصحافة عن هذا الأمر إلى حدٍّ ما ولم يبقَ طيَّ الكتمان. هكذا جاء الردُّ على رشق الحجارة، في الغالب. وبالفعل، علَّقت الولايات المتَّحدة بصورةٍ رسميَّة على ذلك. ففي الثالث من شهر أكتوبر لسنة 2000، أبرمَت إدارة كلينتون أضخم صفقةٍ خلال عقدٍ من الزمن بصدد إرسال مروحيَّات عسكريَّة جديدة إلى إسرائيل، إلى جانب المزيد من قطع الغيار الخاصَّة بمروحيَّات الأباتشي الهجوميَّة. الأكثر تطوُّراً من ضمن الترسانة التي أُرسلَت في شهر سبتمبر. ولا يعني هذا أنَّهم لم يعرفوا الغرض الذي ستُستخدم من أجله، إذ كان يكفي لذلك أن يقرأ المرء الصحف. لقد كانوا يستخدمونها في الاعتداء على المدنيِّين وقتلهم. لكنَّهم كانوا بحاجةٍ إلى المزيد، لأنَّ الرصاصات المليون التي أُطلِقَت في الأيَّام الأولى لم تكن كافية، لذا كنَّا بحاجةٍ إلى أن نرسل إليهم الصواريخ والمروحيَّات الهجوميَّة.
عندما يسمع المرء عن الفظائع المرتكبة في غزَّة (في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو، أودى هجومٌ صاروخيٌّ جويٌّ بحياة 14 مدنيَّاً)، فإنَّ ذلك بفضل الولايات المتَّحدة وحلفائها الذين لم يُحرِّكوا ساكناً. وماذا عن تغطية الصحافة الأميركيَّة للحدث؟ لقد ظهرَت في الصحف بالفعل أخبار الاعتداءات التي شنَّتها المروحيَّات ضدَّ المدنيِّين، لكن بالنسبة إلى الصفقة التي أبرمتها إدارة كلينتون (الأضخم خلال عقدٍ من الزمن فيما يتعلَّق بالمروحيَّات العسكريَّة) فلم يُشر إليها أيُّ تقريرٍ على الإطلاق، إذا ما استثنينا، لأكون دقيقاً، مقالة رأي في إحدى الصحف الصغرى في ولاية فيرجينيا. هذا كلُّ ما بدا عليه الأمر في نظر الصحافة “الحرَّة”. ولا يعني هذا أنَّهم لم يكونوا على علمٍ بها إذ تحدَّثت كلُّ الصحف الإسرائيليَّة عن الخبر، وكذلك رفع صحافيّون أوروبيُّون استفساراتهم إلى البنتاغون بصدد شروط بيع هذه المروحيَّات. وأمَّا الإجابة، فكانت أنَّ الصفقة لم تكن مشروطة، وأنَّهم واثقون بخيارات القادة الإسرائيليِّين في استخدامها كما يشاؤون. وكانوا على علمٍ بالغرض التي ستُستخدم من أجله. بعد أسبوعين، أصدرَت منظَّمة العفو الدوليَّة (أمنستي) تقريراً يدين هذه الخطوات، لكنَّ الصحافة لم تأت على ذكره أيضاً إلى اليوم. العلَّة في ذلك أنَّ ما يحدث إنَّما يعتبر الشيء السليم بالنسبة إلى الغرب. لنتذكَّر أنَّ إسرائيل هي في واقع الأمر قاعدةٌ عسكريَّةٌ أميركيَّة، فرعٌ منبثقٌ عن النظام العسكريِّ الأميركي. في تقرير المراسل آنف الذكر، ورد اقتباسٌ عن أحد الجنرالات جاء فيه: “لم تعُد إسرائيل دولةً لها جيش، إنَّها الآن جيشٌ له دولة”. إذا تحدَّث المرء عن الحكومة الإسرائيليَّة فهو بذلك يتحدَّث عن الجيش، فأبرزُ الشخصيَّات السياسيَّة هم في الغالب الأعمّ جنرالات ورؤساء أركان سابقون وما إلى ذلك. وليس الحديث هُنا عن جيشٍ صغير، فوفقاً لتقارير جيش الدفاع الإسرائيليّ والمحلِّلين، تعتبرُ قوَّات هذا الجيش الجوِّيَّة والبحريَّة والمدرَّعة أكبر وأكثر تطوُّراً من تلك الموجودة لدى أيِّ قوَّةٍ تابعة لحلف شمال الأطلسي عدا الولايات المتَّحدة، وباعتبارها فرعاً فهي الأكبر بكلِّ تأكيد.
إذاً لدينا جيش له دولة، وهذا الجيش في الأصل فرعٌ من البنتاغون. هذا هو النظام الذي يَعتبر أنَّ من الصواب استخدام هذه الأساليب؛ أي مليون رصاصة في غضون بضعة أيَّام، ومروحيَّات أميركيَّة لقتل المدنيِّين. لذلك نرسل إليهم المزيد من المروحيَّات وما إلى ذلك، لأنَّها الطريقة الطبيعيَّة لسير الأمور، طريقةٌ يعود تاريخها إلى زمنٍ بعيد. وفي وسع المطَّلعين على تاريخ الإمبراطوريَّة البريطانيَّة أن يجدوا العديد من الأمثلة على ذلك. أذكُر منها أنَّه في سنة 1932، كتب السياسيُّ البريطانيُّ المعروف لويد جورج في مذكَّراته ما يلي: “يجبُ أن نحتفظ بالحقِّ في قصف الزنوج”، في إشارةٍ منه إلى حقيقة أنَّ بريطانيا كانت قد نجحت حينها في تقويض مؤتمرٍ دوليٍّ لنزع السلاح كان يهدف إلى فرض القيود على استخدام القوَّة الجوِّيَّة في مهاجمة المدنيِّين. لقد أدركَت بريطانيا في وقتٍ مبكِّرٍ أنَّ استخدام القوَّة الجوِّيَّة في مهاجمة المدنيِّين أكثرُ نجاعةً بكثير على مستويي التكلفة والفتك إذا ما قورنَت بالقوَّة البرِّيَّة. لذا، في البقاع لم تعد لدى الإمبراطوريَّة القدرة على السيطرة عليها بالقوَّات البريَّة، تحوَّلت إلى استخدام القوَّة الجوِّيَّة، في العالم العربيّ ضدَّ الكرد والأفغان والعراقيِّين وغيرهم، وكلُّها أخبارٌ لم تتصدَّر أيَّاً من صفحات الصحف الأولى. اتَّضح أنَّ القوَّة الجويَّة وسيلة ناجعة للغاية للسيطرة على المدنيِّين وقمعهم، لذا أرادت بريطانيا، بصورةٍ بديهيَّة، تقويض اتِّفاقيات نزع الأسلحة التي كان من شأنها عرقلة هذا الاستخدام. (وهي سابقةٌ ما زال خلفاء الإمبراطوريَّة من الحكَّام العالميِّين يتبعونها). يقول لويد جورج مُعلِّقاً على النجاح البريطانيِّ في هذه المسألة، مشيداً بجهود حكومته في تقويض المعاهدة: “يجبُ أن نحتفظ بالحقِّ في قصف الزنوج”. هذا أحد المبادئ الجوهريَّة للحضارة الأوروبيَّة، وهو من نوع المبادئ الأساسيَّة التي تحظى بحياةٍ مديدة. عادةً لا يقول أحد ذلك علناً، بيد أنَّ لويد جورج كان يُعبِّر بصورةٍ دقيقة عن أفكارهم الداخليَّة والسبب الذي يمكن وراءها، وما ذكرتُه للتوِّ بصدد الأيَّام القليلة الأولى من الانتفاضة خيرٌ مثالٍ على ذلك.
بمقدورنا الاستمرار في سرد وقائع مشابهة منذ تلك المرحلة وصولاً إلى اليوم، وأن نتتبَّع خطَّ سيرها إلى الأيَّام الأولى لِما كان منذ البداية احتلالاً باطشاً ووحشيَّاً، حيثُ كانت إسرائيل، في معظم الأحيان، محصَّنةً ضدَّ أيِّ ردٍّ انتقاميٍّ من داخل الأراضي المحتلَّة. لقد تبنَّت إسرائيل سياسياتٍ قمعيَّةً ووحشيَّة، وفتَّاكةً في الغالب؛ أي الأساليب الإمبرياليَّة المعتادة بصورةٍ رئيسيَّة، على غرار الإذلال، والحطَّ من الكرامة، وضمان عدم قدرة أولئك الذين تُطلَق عليهم تسمية “عربوش” (وهي الاصطلاح العاميّ العبريّ لمفردة “زنوج”) على رفع رؤوسهم، وسحقهم إذا ما استطاعوا فعل ذلك؛ وفي الوقت نفسه، الاستيلاء على الأراضي والموارد بمساعدة الجيش الأميركيّ. إنَّها عمليَّةٌ أميركيَّة إسرائيليَّة مستمرَّةٌ إلى يومنا هذا، ولا أحد يرى بأنَّ هناك مشكلةً في هذا الصدد، لكن بمجرَّد أن يرفع “العربوش” رؤوسهم ويبدأ “الزنوج” بقصفنا، فإنَّ الحدث يستحيلُ فظائع مروِّعة. إنَّه حدثٌ فظيع، لكنَّه ليس الأوَّل ولا الأكبر، وهي مسألة بمقدورنا إدراكها بسهولةٍ في حال تمكنَّا من الارتقاء إلى مستوى النظر في المرآة، وتأمُّل ذواتنا وأفعالنا.
أودُّ أن أنتقل إلى الجانب السياسيّ: بُمجرَّد أن يُسحَق “العربوش” ولا يعودوا قادرين على رفع رؤوسهم، يصبح من الممكن عندئذٍ الحديث والانتقال إلى المرحلة المسمَّاة بـ “الدبلوماسيَّة”.
أشيرُ إلى مقالةٍ أخرى نُشِرت مؤخَّراً في الصحافة العبريَّة، هذه المرَّة في صحيفتنا الرئيسيَّة نيويورك تايمز. تُرجِمت المقالة (التي كتبها مسؤولٌ سابق رفيع المستوى في وزارة الخارجيَّة ونائب رئيس جامعة تل أبيب) إلى الإنكليزيَّة. يدحضَ كاتب المقالة الفكرة التي مفادُها بأنَّه ليست لدى الجنرال ورئيس الوزراء شارون أيُّ إستراتيجيَّة، قائلاً إنَّ لدى شارون إستراتيجيَّة تعود إلى زمنٍ بعيد. في سبعينيَّات القرن الفائت وثمانينيَّاته، عمد كبار المسؤولين في المؤسَّسة العسكريَّة إلى مراقبة ما كان يحدث في جنوب أفريقيا عن كثب، معتبرين ذلك نموذجاً ينبغي على إسرائيل أن تحتذيه. كانت جنوب أفريقيا تشهد آنذاك محاولة إنشاء ما يُعرَف بالـ “بانتوستانات”، وهي مناطق مستقلَّة يدير السود شؤونها. في صميم نظام الفصل العنصريّ، كانت حكومة جنوب أفريقيا تسعى إلى نيل دعمٍ دوليٍّ لفكرة أنَّ لدى هذه الدول التي يديرها السود المقوِّمات الكافية لتصبح دولاً مستقلَّة: فزعماؤها من السود، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قوَّات شرطتها وغالبيَّة سكَّانها. ولكسب هذا الدعم، قدَّمت جنوب أفريقيا معوناتٍ ماليَّةً لهذه المناطق، كما حاولت بالفعل تطوير الصناعة فيها؛ لعلَّ ذلك يضمن استمرارها وحيويَّتها بطريقةٍ أو أخرى.
حسناً، لم يوافق العالم على ذلك في نهاية المطاف، بيد أنَّ إسرائيل، وكذلك الولايات المتَّحدة بالتأكيد، كانتا تراقبان تلك التجربة عن كثب. (كانت جنوب أفريقيا حليفةً لكلٍّ من الولايات المتَّحدة وبريطانيا طوال تلك الحقبة. وفي أواخر سنة 1988، صنَّفت الحكومة الأميركيَّة كلَّاً من نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ باعتباره “من ضمن أكثر المنظَّمات الإرهابيَّة شهرةً في العالم”. صحيح أنَّ الكونغرس الأميركيّ سعى إلى فرض عقوباتٍ على جنوب أفريقيا، والتي أقرَّتها إدارة ريغان أخيراً بعد محاولاتها لنقضها، بيد أنَّ هذه الإدارة أيضاً قد عثرت على طرقٍ للالتفاف على العقوبات بحيث زادت التجارة الأميركيَّة مع جنوب أفريقيا بالفعل في أواخر الثمانينيَّات. مارسَت بريطانيا ألعاباً مماثلة مع جمهوريَّة روديسا في جنوب أفريقيا). في سنة 1993، سعَت كلٌّ من الولايات المتَّحدة وإسرائيل إلى فرض حلٍّ على الطريقة الجنوب-أفريقيَّة، أطلِق عليه تسمية عمليَّة سلام أوسلو، والتي وصفَها شلومو بن عامي، وهو واحدٌ من أبرز الحمائم الإسرائيليِّين (وزير الخارجيَّة في عهد إيهود باراك وكبير المفاوضين في كامب ديفيد)، بدقَّةٍ بالغة حين قال: “إنَّ الهدف من عمليَّة سلام أوسلو هو إقامة تَبعيَّة نيوكولونياليَّة دائمة للفلسطينيِّين”؛ وبعبارةٍ أخرى، إنشاء بانتوستان في الأراضي المحتلَّة. (لنتذكَّر أنَّ بن عامي كان من الطرف الحمائميّ من الطيف السياسيّ، وهو طيفٌ ضيِّقٌ للغاية مثلما هي الحال في معظم البلدان).
طوال عمليَّة سلام أوسلو، تحرَّكت كلٌّ من إسرائيل والولايات المتَّحدة بصورةٍ مشتركة (لا يمكن فعل شيءٍ مماثل من غير إذن الجانب الأميركيّ ودعمه) سعياً لإنشاء تبعيَّة نيوكولونياليَّة دائمة على غرار نموذج البانتوستانات بصفةٍ أساسيَّة. لذا استؤنِفت برامج الاستيطان المموَّلة أميركيَّاً مباشرة مع بدء المباحثات، حتَّى بلغت ذروتها في السنوات الأخيرة من ولاية كلينتون/ باراك. استمرَّ وضع المزيد من خطط الاستيطان بعد ذلك، وقد زاد شارون من حدَّتها؛ يمكن القول إنَّ هناك طيفاً لهذه العمليَّات، لكنَّها تتَّبع جميعاً المنهج نفسه إذ تُبنى المستوطنات وفقاً لنظرةٍ مستقبليَّة- من الممكن ملاحظة ذلك من خلال إلقاء نظرة على الخريطة. لنأخذ الخريطة التي جرى تقديمها في كامب ديفيد. لقد وصفَت الولايات المتَّحدة، والعديد من الدول الغربيَّة، كامب ديفيد بأنَّها حملَت عرضاً مذهلاً كريماً سخيّاً قدَّمه كلٌّ من كلينتون وباراك لكنَّه قوبل بالرفض من قِبل الفلسطينيِّين الأشرار الذين بالتالي يَتحمَّلون المسؤوليَّة عن مصيرهم. لم تُنشر في صحف الولايات المتَّحدة أيٌّ من هذه الخرائط. وهذا أمرٌ بالغ الأهميَّة إذ من شأنه أن يكشف بالضبط عن مدى سخاء العرض المقدَّم وكرمه! (ومن الأفضل للرأي العامِّ ألَّا يطَّلع على مسائل من هذا القبيل، وخاصَّةً حين تترافق تلك المعرفة مع الإشادة بعظمة زعمائنا وشهامتهم).
في المقابل، عرضَت الصحف الإسرائيليَّة الخرائط، وبمقدور من ينظر إليها أن يدرك مدى سخاء العروض المقَّدمة في كامب ديفيد، وما كان يقصدُه بن عامي حينما تحدَّث عن “تبعيَّةٍ نيوكولونياليَّة دائمة”، فهي ليسَت سوى انعكاسٍ للسياسات الاستيطانيَّة لحكومتَي كلٍّ من بيريز ورابين إذ بموجبها تقبضُ إسرائيل على القدس، وهي منطقةٌ واسعة النطاق وغير شبيهةٍ بالقدس ما قبل 1967 المستولى عليها بالفعل في انتهاكٍ لقرارات مجلس الأمن. تقع إلى شرقيِّ المنطقة المسمَّاة بالقدس مستوطنةٌ إسرائيليَّة (تضمُّ مدينة تدعى معاليه أدوميم) تمتدُّ عمليَّاً حتَّى أريحا، والغاية الوحيدة من إنشائها هي تقسيم الضفَّة الغربيَّة إلى شطرين. (تنطوي إقامة بلدة ومستوطنة على إنشاء بنيةٍ تحتيَّة، وطرق، وأعمال تطوير على جانبي كلٍّ من تلك الطرق، وما إلى ذلك). هناك أعمال تطوير أخرى في الشمال أيضاً، تمتدُّ وصولاً إلى مستوطنة أرييل وما بعدها، بحيث تقسم المنطقة الشماليَّة إلى نصفين. تعرضُ الخريطة أيضاً ثلاثة كانتونات أساسيَّة: في المنطقة الشماليَّة محيطاً بنابلس، وفي الوسطى محيطاً برام الله، وفي الجنوبيَّة مُقتطعاً أجزاء من بيت لحم. هذه الكانتونات الثلاثة مفصولة عن جزءٍ صغيرٍ من القدس الشرقيَّة، سيكون بدوره تابعاً للإدارة الفلسطينيَّة. (في الواقع، تعتبرُ القدس تقليديَّاً مركز الحياة الفلسطينيَّة الثقافيَّة والتجاريَّة وغير ذلك بالنسبة إلى المنطقة بأكملها). تعرضُ الخريطة الضفَّة الغربيَّة أيضاً: وتتضمَّن أربعة كانتونات معزولة عن غزَّة، التي تُشكِّل خامسها ولا يزال مصيرها غير واضح.
هذه هي التسوية السخيَّة، والسبب الذي بإمكانكم معرفته وراء عدم نشر أيٍّ من الخرائط. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنَّ كلينتون/ باراك قد أدخلا بعض التحسينات إبَّان كامب ديفيد، إذ كان الفلسطينيّون قبل ذلك مُقسَّمين ضمن ما يزيد عن 200 منطقةٍ معزولة. (لا تتجاوز مساحة بعضها بضعة كيلومترات، وتطوِّقها معوِّقات وحواجز طرقيَّة غرضها الأساسيّ هو الإذلال والتحقير، من دون أن تكون لها أيّ وظيفة عسكريَّة تُذكر). ما حدث أنَّهم خفَّضوا عدد تلك المناطق من أكثر من 227 إلى 4 فقط، وتلك خطوةٌ إلى الأمام؛ خطوةٌ باتِّجاه الحلِّ الجنوب-أفريقيّ، واهتمام بالوضع على الأرض، لأنَّ البانتوستانات الجنوب-أفريقيَّة (أيَّاً كان رأينا فيها) كانت قابلةً للحياة إلى حدٍّ معقولٍ مقارنةً بما كان يُعرَض على الفلسطينيِّين من خيارات. ضمنَت برامج الاستيطان أيضاً أنَّ الموارد الرئيسيَّة (أفضل الأراضي في الضفَّة الغربيَّة، وكذلك الضواحي الراقية في كلٍّ من تل أبيب والقدس) كانت، وستظلّ، بالنتيجة تحت السيطرة الإسرائيليَّة المباشرة فعليّاً، في حين سيحصل الفلسطينيّون على تبعيَّة نيوكولونياليَّة.
وبموجب معاهدة أوسلو، ستمارس السلطة الفلسطينيَّة الدور نفسه الذي منحَته جنوب أفريقيا للزعماء في مقاطعات السود. كان دورهم الأساسيّ في جنوب أفريقيا هو ضمان أمن السكَّان البيض وسلامتهم، ومنع تنظيمات نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ الإرهابيَّة من إيذاء السكَّان ذوي الأهميَّة. في الوقت نفسه، يحتفظ السكَّان ذوو الأهميَّة بـ “الحقّ في قصف الزنوج” والذي يُعدُّ من الثوابت المستمرَّة، في حين أنَّه ليس مسموحاً للعرب بالردّ، لأنَّهم إذا فعلوا ذلك يصبحون إرهابيّين معروفين، وينطبق الأمر نفسه على البانتوستان الفلسطينيّ؛ فكان الهدف من السلطة الفلسطينيَّة أن تكون وحشيَّة وقمعيَّة وفاسدة. هذا بالضبط ما أرادته كلٌّ من إسرائيل والولايات المتَّحدة، ولهذا السبب أعجبهم ياسر عرفات. وما ينتقدونه عليه صحيح، فمن المفترض أن يكون وحشيّاً وفاسداً وقمعيّاً ومسيطراً على السكَّان، من أجل استدامة التبعيَّة النيوكولونياليَّة. كان رئيس الوزراء رابين صريحاً جدَّاً بهذا الصدد حين صرَّح للصحافة العبريَّة بعد أوسلو مباشرةً بالقول: “اسمعوا، إذا منحنا السيطرة الأمنيَّة للسلطة الفلسطينيَّة، فسيكون بمقدورها السيطرة على السكَّان دون أيِّ مخاوف بشأن المحكمة العليا، أو منظَّمات حقوق الإنسان، أو الأمَّهات والآباء الذين قد لا تعجبهم أفعال أبنائهم”، وما إلى ذلك. ولا بأس في حال سرق عرفات الأموال الأوروبيَّة، أو أقام رجالاته في فيلَّات في غزَّة بينما يتضوَّر الشعب جوعاً، طالما أنَّهم يؤدّون وظيفتهم؛ وهي السيطرة على السكَّان، وضمان إنشاء التبعيَّة النيوكولونياليَّة، والتأكُّد من عدم تعرُّض السكَّان ذوي الأهميَّة للأذى، والذين سيكون بمقدورهم “قصف الزنوج” لكنَّهم أنفسهم لن يكونوا عرضةً لأيِّ ضررٍ في المقابل. هكذا كانت سياسة كلينتون، والتي ظلَّت مستمرَّةً حتَّى رفع الفلسطينيُّون رؤوسهم. حينها كان الردّ مليون رصاصة، ومروحيَّات هجوميَّة، وساعتين من إطلاق النار ردَّاً على إطلاق رصاصة واحدة من مسدَّس، ورعب الغرب من حقيقة أنَّ الأشخاص الخطأ هُم ضحايا أفعال فظيعة. وهي بلا شكّ فظيعة، لكنَّ إطلاق النار هو السبيل الخاطئ. هذا جوهرُ الأمر، بمقدورنا أن نختار تجاهُلَه لكنَّ الحقائق واضحةٌ وضوح الشمس بطبيعة الحال.
الصحافة الناطقة بالعبريَّة أكثر انفتاحاً من نظيراتها الناطقة بالإنكليزيَّة، وهناك سبب واضح جدّاً وراء هذه المسألة: العبريَّة لغةٌ سرِّيَّة، فأنت لا تقرؤها إلَّا إذا كنت داخل العشيرة. هي ثقافةٌ عشائريَّة، على غرار معظم الثقافات. ولا أريدُ المبالغة هُنا، لكنَّ الترجمات الإنكليزيَّة على الإنترنت مفيدةٌ ومثيرةٌ للاهتمام إلى حدٍّ كبير.
وماذا عن تأثير إسرائيل على النخبة الأميركيَّة؟
في رأيي، ليس هُناك تأثير جوهريّ. يمكن القول إنَّهم متقاربون جدَّاً. أشخاصٌ مثل ريتشارد بيرل، وغيره داخل مجموعة القوَّة المركزيَّة في الولايات المتَّحدة، يقفون على مقربةٍ من اليمين المتطرِّف في إسرائيل. في الواقع، كان بيرل يكتب أوراق موقفٍ لصالح بنيامين نتنياهو (الذي ينتمي للجناح المتشِّدد لشارون) حتَّى بضع سنواتٍ فقط. إذاً هناك تفاعل كبيرٌ بين الجانبين، لكن لا يمكن لإسرائيل التأثير على الولايات المتَّحدة. حين لا تريد الأخيرة من الإسرائيليِّين فعل شيءٍ ما، فإنَّما تخبرهم بذلك وهم ينصاعون للأوامر بدورهم. لقد رأينا ذلك مع الانسحاب من رام الله قبل بضعة أيَّام، وتسري الحالة نفسها على نفوذ اللوبي اليهوديّ وداعميه. وعمليَّاً ليس هذا الأخير لوبي يهوديَّاً، بل لوبي مؤيِّدٌ لإسرائيل.
يُصادف أيضاً أنَّ الأصوليِّين المسيحيِّين يشكِّلون مكوِّناً أساسيَّاً من مكوِّنات هذا اللوبي، وأولئك قوَّة شديدة الأهميَّة في الولايات المتَّحدة. تعدُّ الولايات المتَّحدة واحدةً من أكثر الثقافات أصوليَّةً في العالم؛ سيذهلك عدد الأميركيِّين المؤمنين بأنَّ العالَم خُلِق قبل ستَّة آلاف عام، وبوجود المعجزات، وما شابه. إنَّه مجتمع أصوليّ، غير مؤسَّسيّ. لذا فهو ليس مثل إيران التي يمكن وصفها بالأصوليَّة المؤسَّسيَّة. ثقافتنا أصوليَّة إلى حدٍّ بالغ. الكتلة المسيحيَّة الأصوليَّة اليمينيَّة قويّةٌ للغاية ومتنوِّعة؛ ينشَط جزء منها في حركة التضامن، لكن الغالبيَّة العظمى تتَّسم بطابعٍ جينغويّ وداعمٍ لإسرائيل، كما تنتشرُ معاداة الساميَّة في أوساطها بصورةٍ كبيرة. ما من تناقضٍ في هذا، وستعرفُ كنه المسألة إذا قرأت سفر الرؤيا (الذي ينظرون إليه بجدِّيَّة).
لذا بمقدورك أن تكون أصوليَّاً مسيحيَّاً معادياً للساميَّة وفي الوقت نفسه داعماً قويَّاً لما ترتكبه إسرائيل من قمع وجرائم وحشيَّة. ليس هذا تناقضاً، بل قوَّةٌ سياسيّةٌ واقعيّة. إذاً هناك لوبي إسرائيليّ لديه تأثير طالما أنَّه متحالف مع القوَّة الأميركيَّة الفعليَّة؛ وبالتالي ينحلُّ هذا التحالف في حال نشب نزاعٌ بين طرفيه. (هناك عاملٌ آخر يتعلَّق بنفوذهم الهائل في وسائل الإعلام إذ صادف أنَّهم أقوياء داخل المجتمع الفكريّ). لذا أقول إنَّهم نافذون، أجل، لكنّني لن أبالغ في تقدير حجم نفوذهم هذا.