يعود تاريخ هذه الرسالة عن الشرق الأوسط إلى اليوم الحادي والثلاثين من شهر كانون الثاني لسنة 1970، وقد تُليَت في اليوم الثالث من شهر شباط -أي عقب وفاة برتراند راسل بيومٍ واحد- وذلك خلال اجتماعٍ للمؤتمر البرلمانيّ الدوليّ في القاهرة.
إنَّ أحدثَ مرحلة في الحرب غير المعلنة في الشرق الأوسط مبنيَّةٌ على خطأ شديدٍ في التقدير؛ إذ ليس بمقدور الغارات الجوّيَّة في عمق الأراضي المصريَّة إقناع السكَّان المدنيّين بالاستسلام، بل ستشدُّ من تصميمهم على المقاومة. هذا هو الدرس المستفاد من القصف الجوّيّ أينما كان. فلم يستجب الفيتناميِّون بالاستسلام، بعد أن عانوا لسنواتٍ من القصف الأميركيّ العنيف، بل بإسقاط المزيد من الطائرات المعادية. وفي سنة 1940، قاوم أبناءُ بلدي غارات هتلر الجوّيّة بوحدةٍ وعزيمة غير مسبوقتين. ومن هذا المنطلق، ستفشلُ الهجمات الإسرائيليَّة الحاليَّة في تحقيق غرضها الرئيسيّ، ولكن في الوقت نفسه يجب إدانتها بشَّدةٍ في جميع أنحاء العالم.
إنَّ تطوّر الأزمة في الشرق الأوسط لهو أمرٌ خطير وذو فائدة في آن. على مدى أكثر من 20 عاماً، توسَّعت إسرائيل من خلال القوَّة العسكريَّة. وعقب كلِّ مرحلةٍ من هذا التوسُّع، كانت تلجأ إلى مناشدة “صوت العقل” واقتراح “المفاوضات”. هذا هو الدور التقليديّ للقوَّة الإمبرياليَّة الناجم عن رغبتها بترسيخ ما سلبَته بالفعل، عن طريق العنف، بأقلّ الصعوبات. وهكذا يتحوَّل كلُّ احتلالٍ جديد إلى ركيزةٍ أساسيَّة لتفاوضٍ مُقترَح من موقع القوَّة، مع تجاهل الظلم الناجم عن العدوان الذي سبقَه.
لا بدَّ من إدانة العدوان الإسرائيليّ؛ ليس فقط لأنَّه لا يحقُّ لأيِّ دولةٍ ضمّ أراضٍ أجنبيَّة، بل أيضاً لأنَّ كلَّ توسُّعٍ هو بمثابة تجربةٍ لاكتشاف مدى العدوان الذي سيتسامح العالم معه. قبل فترة قصيرة، وصفَ الصحفيّ الأميركيّ آي إف ستون اللاجئين الذي ينتشر مئات الآلاف منهم حول فلسطين بـ “العبء الأخلاقيّ الثقيل على كاهل العالم اليهوديّ”. اليوم، يشارف العديد من اللاجئين على دخول العقد الثالث من وجودهم الهشّ في أماكن إقامةٍ مؤقَّتة.
تتمثَّل مأساة شعب فلسطين في أنَّ قوَّةً أجنبيَّةً “أعطَت” بلادهُم إلى شعبٍ آخر كي ينشئ دولةً جديدة. وكانت النتيجة أنَّ مئات الآلاف من الأبرياء قد أصبحوا بلا مأوى بصفةٍ دائمة، مع العلم أنَّ أعدادهم تتزايد مع كلِّ صراعٍ جديد. إلى متى سيظلُّ العالم قادراً على تحمُّل هذا المشهد من القسوة الوحشيَّة؟ من الواضح تماماً أنَّ للاجئين كلّ الحقِّ في العودة إلى الوطن الذي طُردوا منه، وإنَّ إنكار هذا الحقِّ هو جوهر الصراع المستمرّ. لا شعبَ في هذا العالمِ يَقبلُ أن يُطرَد جماعيَّاً من وطنه، فكيف لأحدٍ أن يطالبَ شعب فلسطين بقبول عقوبةٍ لا يطيق تحمُّلها أحد؟ إنَّ التوطين العادل الدائم للاجئين في وطنهم هو العنصر الأساسيّ لأيِّ تسويةٍ حقيقيَّةٍ في الشرق الأوسط.
كثيراً ما يُقال لنا إنَّه يجب أن نتعاطفَ مع إسرائيل بسبب ما عاناه اليهود في أوروبا على أيدي النازيّين. لكنَّني لا أرى فيما سبق ذريعةً لاستمرار أيِّ معاناة. لا يمكن التغاضي عمَّا تفعله إسرائيل اليوم، كما أنَّ في استحضار فظائع الماضي لتبرير فظائع الحاضر نفاقٌ صارخ. لا تكتفي إسرائيل بالحكم على عددٍ عظيمٍ من اللاجئين بالبؤس فحسب، ولا بإخضاع العديد من العرب تحت الاحتلال إلى الحكم العسكريّ؛ لكن إسرائيل تحكم أيضاً على الدول العربيَّة المنعتقة حديثاً من نير الاستعمار بحالة من الإفقار المستمرِّ إذ تحظى المطالب العسكريَّة بالأسبقيَّة على حساب التنمية الوطنيَّة.
يتعيَّن على كلِّ من يودّ رؤية نهايةٍ لسفك الدماء في الشرق الأوسط أن يتأكَّد من خلوَّ أيِّ تسويةٍ من بذورٍ صراعٍ مستقبليّ. وإنَّ العدالة تقتضي أن تكون الخطوة الأولى نحو التسوية انسحابَ إسرائيل من كافَّة الأراضي المحتلَّة في شهر حزيران من سنة 1967. هناك حاجةٌ أيضاً إلى حملةٍ عالميَّةٍ للمساعدة في تحقيق العدالة لشعوب الشرق الأوسط التي طال أمدُ معاناتها.
أدعوكم جميعاً لقراءة رسالتي هذه بتمعُّن وتأنّ.