الكون كله مستيقظ كحالنا. صوت الأذان وأوركسترا الطيور.. خروج الشمس من عباءتها، وثغاء الأغنام.
أصوات بعيدة وضحكات لأطفال تتناهى إلينا كما لو أنها بشائر.
مع بداية الدوام الرسمي صباحاً غادرنا الباحة السادسة في اتجاه الخامسة. أوقفونا بالقرب من البوابة المؤدية إلى الزنازين.
مساعد الذاتية جالس إلى طاولة تنوء بسجلات ضخمة سوداء وسميكة.
طريقة تعامل العساكر معنا أزاحت الهواجس المتعلقة بالنقل إلى باحات أخرى. واضح أنهم سينقلوننا من هذا السجن إلى خارجه.
– انتبهوا لعندي. لا همس ولا وتوتة. كلكم ما شالله مثقفين. كل واحد بيطلع اسمه بيجي لعندي وبيقدِّم اِسم أبوه واِسم أمّه، وتاريخ ومكان الولادة وبيتحرّك باتجاه هديك السيارة.
جئنا إلى تدمر بميكرو باص أنيق ولكن الدورية المرافقة كانت سافلة، ونرحل الآن بالسيارة القفص المخصصة عادة لنقل اللحوم.
– فلان الفلاني.. قرِّب لهون لقدّامي: شو اِسم بَيَّك؟.. اِسم أمَّك؟ مكان وتاريخ الولادة؟
– فلان الفلاني.. يا الله بسرعة..
– اللي بعده.. حرِّك لي حالك شوية..
كنا مثل سُبحة تنزلق حباتُها بين يدي مؤمن خبير أو عاشق متيّم
– بعده.. بَيَّك.. أمَّك.. أمّك يا ؟
رفع المساعد وجهه عن السجلات.
– وَلَكْ شو قصتك.. مَ أسألك عن اِسم أمك.. انت أطرش ولَّا مَ تسمعني؟!
– سامعك سامعك.. لكن..
– لكن شو؟!
– ما عم أقدر أتذكّره.
– بتنسى اسم أمك؟! وَلَك في حدا بينسى اسم أمّه؟!
بداهةُ أن يتذكر المرء اسم أمه لا تعود في سجن تدمر بداهة. هذا السجن يحطِّم كل ما له علاقة بالبداهات والمنطق والقيم والعادات والكفر والإيمان، ويخلخل حتى معاني الأزل والأبد.
همس أحدنا للرفيق:
– كأني أتذكر أن اسمها على وزن.. حزنة أو مزنة.
ضرب الرفيق جبينه بكفه وهو يقول:
– نعم.. خزنة .. خزنة.. تذكَّرت.. اِسم أمي خزنة.
* * *
– انتبهوا إلي جيداً..
انتبهنا إليه جيداً..
رائد من الشرطة العسكرية، حازم النبرة حيادي الملامح.
– ما بدّي أي حركة أو شوشرة أو كلام طالع نازل.. لا مع الحرس ولا فيما بينكم.. بيكفي أننا تركناكم بدون طميشات.
– والكلبشات سيادة الرائد؟
– لا.. هذه من شروط السلامة.
تتطاول الدقائق حتى لكأنها ساعات.
تحرّكت السيارة بعدها بتثاقل شديد في البداية، وهي تترنح يميناً وشمالاً، ولكنها ما إن تجاوزت الحواجز والمناطق السكنية، حتى انطلقت مثل وحش خرافي.
* * *
في مؤخرة السيارة عسكريان يفصلهم عنا باب ذو قضبان حديدية ولكنه مقفَل. كان أحدهما يكرر بين حين وآخر:
– بلا حكي.. بلا صوت
لكنه سرعان ما ملّ وآثر الصمت.
كنا ثمانية عشر، ومعنا ثلاثة أو ربما أربعة لا نعرفهم. في البداية كانوا حذرين أو متحفظين في كلامهم. قدّمنا لهم أنفسنا بوضوح شديد، وحين اطمأن لنا أحدهم أخبرنا أن تهمته لها علاقة بأحد الفصائل الفلسطينية. كان الرجل نحيفاً جداً وشبه أهتم, قال إنهم منذ سنوات كسّروا أسنانه، فهزل كثيراً وتغيرت ملامحه أو هكذا يعتقد حسبما لمح صورته بشكل خاطف أحياناً وهو يمر بقرب جاط الشاي. وحين سأَلَنا منذ متى لم ننظر إلى وجوهنا في المرآة، قال له أحدنا أننا بعد إضراب طويل عن الطعام استطعنا الحصول على هذه المرآة، ثم دفعها في اتجاهه. لم يكد الرجل يرى صورته حتى شهق، ثم زفر آااااااااخ طويلة:
– ما معقول يا شباب.. بربكم هادا أنا.. والله ما كنت هيك.. ما هيك يا شباب!
هدّأنا من روع الرجل وواسيناه كما واسينا أنفسنا حين رأينا أنفسنا لأول مرة في المرآة.
كان يهزّ رأسه غير مصدّق وهو يمسحنا بنظراته ذهاباً وإياباً، وفجأة سأَلَنا عن رفيقنا الذي قتلوه أثناء توزيع الطعام في الباحة الخامسة.
قلنا له أن كل من ذهبوا إلى المنفردات في الباحة الخامسة عادوا، وعددنا الآن كامل.
– القصة عندي ما بتقبل تشكيك. ما بعرف كيف هوّي قال لشي حدا من جهة غرفنا أنه رفيقكم.. أنا متأكد.. غرفتنا في الباحة الخامسة يعني مطلّة على الزنازين، وأنا كنت شوفه يومياً. كانوا يطلبوا منّه يحني رأسه وظهره عند استلام الطعام، وكان هوّي يرفض. أنا شفت كل شيء. شفتهم لمّا قتلوه أثناء توزيع الطعام، وبعدين حملوا جثته ورموها بزنزانته، غابوا شي نص ساعة ورجع اتنين منهم، علّقوا جثته بسقف الزنزانة، وبعدها طلع واحد منهم وهوي عميصيِّح:
– شانق حاله.. شانق حاله.. ولك روح خبّر الإدارة. العرص عامل حبل من أكياس النايلون وشانق حاله.