المقالة لجودي دين، نشرها موقع منشورات فرسو في 10 نوفمبر 2023. وهي جزءٌ من سلسلة مستمرَّة تحت عنوان “من النهر إلى البحر”.
في سنة 2018، سافرتُ إلى الضفَّة الغربيَّة للمشاركة في فعاليَّة نظَّمتها مؤسَّسة روزا لوكسمبورغ بعنوان “قراءة ماركس في رام الله”. كانت الفعاليَّة بحدِّ ذاتها رائعة ومحفِّزة، وغنيَّة على المستويين النظريِّ واللغويّ. لكن لم يسبِق لي أن كتبتُ عن زيارتي هذه، عن الجدار الذي يَمتدُّ لأميال مُشوِّهاً المشهد، عن نقاط التفتيش العدائيَّة، عن الجنود الذين اقتادوا سيِّدةً خارج حافلتنا بينما كنَّا نغادر الخليل.
لم أرغب في الكتابة عن تجربتي، ولا في تبنّي أتبنَّى منظورٍ ذاتيٍّ قد يفضي في نهاية المطاف إلى جعل المسألة كلِّها تتحور حولي وحول صدمتي، فيتشتَّت النظر مرَّة أخرى عن واقع الحال في فلسطين؛ لذا لم أجد الكلمات المناسبة لحمل مسؤوليَّة هذه الشهادة. أَّن أتحدَّث عن رام الله التي يحاصرها جيش الدفاع الإسرائيليّ فقط لأنَّ بضعة أطفال كانوا يلقون الحجارة؛ وكيف سلك سائقنا في طريقه إلى الجامعة طرقاً بديلةً محاولاً تجنُّب إطلاق النار؛ وعن العائلة التي سُوِّي منزلها بالأرض انتقاماً من ابنها المقاوِم. إنَّ مجرَّد ذِكر أنّ هناك “سبباً” ضمن هذا السياق لهو أمرٌ يُضفي نوعاً من العقلانيَّة أو التفسير للعنف المستمرّ، ممَّا يجعل المرء مُتواطئاً في مَنطَقة ما ليسَ منطقيَّاً.
ترتبطُ عبارةُ “مخيَّم للاجئين” في ذهني بالخيام، وليس بمجمَّعاتٍ سكنيَّةٍ مكتظَّة ومتهالكة، مضى على بنائها عشرات السنوات، وتضمُّ أعمالاً تجاريَّةً صغيرة ومدارس. إنَّ الأحياء التي يأتي إليها المستوطنون، فيستولون على منازل، أو يهدمونها، أو يسوّرون قطعة أرض ويجعلون الشوارع غير سالكةٍ بالنسبة إلى كثير ممن عاشوا هناك لسنوات؛ كلُّ هذا يتجسَّدُ عنفاً مُستمرَّاً أساسُه السلب والطرد ويستحيل تحمُّل العيش معه، ومع ذلك يتحمَّله العديد من السكَّان. كيف لأيِّ تبريرٍ منطقيٍّ أن يُفسِّر ظاهرة عزل الطرقات السريعة والعادية باعتبارها حكراً على لوحات سيَّاراتٍ محدَّدةٍ دون غيرها؟ “انظر إلى تلك الحافلة، إنَّها تخصُّ مستوطنين”.
لا كلمات بمقدورها التعبير تماماً عن سبعين عاماً من النكبة الفلسطينيَّة، لا كلمات سوى: “من النهر إلى البحر، ستتحرَّر فلسطين”. يستمدُّ هذا الشعار قوَّته من رفضه كلّاً من الاحتلال والفصل العنصريّ. وفي رفضِه مَنطقةَ الاستعمار القائم على الطرد ونزع الملكيَّة، فإنَّه يتبنَّى تحرُّراً مُستقبليَّاً، عالماً لا تعتمدُ فيه حرِّيَّة البعضِ على عزل الآخرين وسجنهم. يُعلِنُ هذا الشعار إنهاء جريمة الاستيطان، بدلاً من إطالة التفكير فيها.
ما من غرابةٍ إزاء ردِّ الفعل العنيف ضدَّ شعار “من النهر إلى البحر”؛ إنَّه ردُّ فعلٍ ضدَّ تنامي الإصرار على فكرة أنَّنا لا نستطيع، بل ولن نقبل، بالقمع والفصل العنصريّ والتطهير العرقيّ والإبادة الجماعيَّة. لقد بنَت كلُّ من إسرائيل والولايات المتَّحدة وكندا والمملكة المتَّحدة وفرنسا، وغيرها، قواها بواسطة تضخيم الانقسام. هُم يصنعون الكراهية، ويعنصرونها، ويحشدون لها الدعم والتأييد. ومع استمرار انهماكهم بالأمن دون هوادة، فإنِّهم يغرسون انعدام أمنهم ويحصدونه. لقد فهم القدماء هذه المسألة؛ بالطاغية النسبة إليهم هو الأكثر استعباداً والأقلُّ حرِّية، والأشدُّ ابتلاءً بالخوف. وأمَّا أولئك الذين يريدون سلب الكلمات من أفواهنا، الذين يريدون وصم عبارة “من النهر إلى البحر” كعبارةٍ معادية للساميَّة بدلاً من صرخةٍ من أجل التحرُّر، فإنَّ فسادَهم يُمثِّلُ القبضة العقيمة للطاغية بينما يفقدُ السيطرة.
قبل عقدٍ من الزمن، لم يكن بمقدور سوى قلَّةٍ تَصوُّر أنَّ مئات الآلاف سيملؤون شوارع العالم هاتفين: “من النهر إلى البحر، ستتحرَّر فلسطين”. انظروا أين نحنُ الآن، وكيف أصبحَ المستحيلُ أمراً لا مفرَّ منه! من ذا الذي لا يعرفُ أنَّ المظلوم سينتفضُ في وجه جلَّاده؟ لقد انتهَى زمن لعبة تجاهل الفصل العنصريّ، أو التظاهر بأنَّه مُبرَّر. انتهَى، في كلِّ مكان.