رغم الفوارق الكبيرة بين سجنَي تدمر وصيدنايا، حيث الكثير من الجمر والصهد واليأس في الأول، وبعض الظلال والواحات والأمل في الثاني، إلا أن لكل منهما غرائبه وعجائبه وأسراره ومهاويه.
وضعُ شيوعيين في جناح غالبيته من الإسلاميين، كان في الأصل نوعاً من عقاب للشيوعيين بالإسلاميين، وهو بطبيعة الحال في وجهه الآخر، عقاب للإسلاميين بالشيوعيين.
فعلى سبيل المثال، بعض الشيوعيين معتادون على ارتداء “الشورت” أثناء الرياضة، في حين أن بعض الإسلاميين ضد الشورت لأنه لا يغطي العورة التي يعتقدون أنها من السُّرّة حتى الركبتين، ولهذا كان بعضهم لا يخرج من المهاجع إلى الكوريدور إلا بعد انتهاء الرياضة.
وهناك بين الإسلاميين من يعتبرون الموسيقا حراماً، وبالتالي لا يجوز لهم أن يدخلوا إلى مهجع الشيوعيين، لأن دروس الموسيقا نظرياً وتطبيقياً شغّالة عندهم.
ورود ذكر الله أو الرسول أو الصحابة أو الكعبة مثلاً، لا يقتضي عند الشيوعيين أي نوع من عبارات التقديس والأدعية، في حين أن “الله” عند الإسلاميين يقتضي “جلَّ جلالُه” أو “سبحانه وتعالى”، والرسول يقتضي “صلى الله عليه وسلَّم”، والصحابيّ يقتضي “رضي الله عنه”.
اللغو اليومي لدى هؤلاء مختلف كثيراً عما هو لدى أولئك، غير أن اللغة أبعد مرمى من اللغو، وكينونة الإنسان أنأى وأعقد وأعمق وأكثر أصالة.
* * *
مع الزمن وجد التعارف أسبابه ومساربه بين من هم من نفس المدينة أو الحي، وبين من تتقارب اهتماماتهم وذكرياتهم، وبين من وجدوا كلمة سر فتحت لهم أمداء واسعة من الثقة والمودة والصداقة.
في تلك الفترة أخذ رفاقنا يوصون أهاليهم أن يزوروا أهالي الإسلاميين، وأن يحضروا لهم بعض الألبسة والنقود والصور، وأن ينقلوا رسائل بين السجناء وأهاليهم، الأمر الذي أذاب الكثير من جليد العلاقات في الجناح، وفتح إمكانية التواصل والحوار في مسائل ثقافية واجتماعية وأدبية، ولا سيما في ميدان الشعر واللغة.
كان الإسلاميون محرومين من الزيارات، وإن كان هناك استثناءات لقلة من الأهالي القادرين على دفع مبالغ خيالية كرشاوى وهدايا للمسؤولين مقابل كل زيارة. كان معنا من يؤكد أن أهله دفعوا لأحد المسؤولين الكبار “كيلو ذهب” مقابل تأمين زيارة بعد سنوات طويلة من الاعتقال وانقطاع الأخبار، هذا غير “الإكراميات” النقدية والعينية لسلسلة من المسؤولين الأصغر فالأصغر فالأصغر، التي تنتهي بمدير السجن ومساعديه وحتى الحراس الذين يراقبون الزيارة.
* * *
في بداية نقلنا من الباب الأسود إلى هذا الجناح، استقبلَنا الرفاق وبعض الإسلاميين، وجلسنا في الكوريدور أمام باب مهجع رفاقنا.
لفت انتباهي وجود بعض الشباب الصغار. لاحظ الرفيق علي الرحمون “أبو زياد” استغرابي، فسألني عن شاب يجلس بجانبه:
– ما تقديرك لعمر هذا الشاب يا أبو سومر؟
كان واضحاً لي أن وراء السؤال مفاجأة تتعلق بعمره. ملامح الشاب توحي أنه في السادسة عشر، ولأن ذلك غير معقول، فقد رفعت سقف تخميني:
– تقديري أنه 19 عاماً على الأقل.
– لم تخطئ يا رفيق سوى بسبع سنوات. حين اعتقلوه كان عمره 16 عاماً، ولكنه الآن يطوي السادسة والعشرين، وستلتقي خلال الأيام القادمة بكثيرين من زملائه، الذين اعتقلوا بسبب أعمال شغب قاموا بها بداية الثمانينيات في سياق الصراع الذي كان دائراً بين نظام الأسد والإخوان المسلمين، ومع الزمن ولتمييزهم عن معتقلي الإخوان صار اسمهم حزب الشغَب.
كنت أنوي الحديث عن الغرائب، ولكنَّ اعتقال شباب دون السن القانوني، مع تغييبهم لسنوات طويلة، قد يدخل في باب الجرائم وليس الغرائب فقط.
* * *
أحد أولئك الشباب حظي بزيارة بعد مرور أحد عشر عاماً على اعتقاله.
حين نزل إلى غرفة الزيارات، وراح يتفحّص وجوه الزوّار، لم يتعرّف على أهله، غير أن الرقيب، الذي يتمشى في المسافة الفاصلة بين الأهالي وبين السجناء، أشار إلى رجل وامرأة يقفان في زاوية شبه ميتة:
– هذولاك أهلك.
مشى المسكين حتى صار مقابلهما، وبعد ثوان أدرك أن العجوز الذي أمامه هو أبوه، فراح يسأله عن صحته وأحواله، وبين حين وآخر يخطف نظرة نحو أمه:
– هلا يُمَّه.. مشتاقلك يُمّه.. أنا بخير يُمّه.. عليش تبكين يُمّة؟
كان نحيب المرأة يزداد كلما سمعته يقول لها “يُمّة”، ولكنها في النهاية استطاعت أن تتمالك نفسها لتقول:
– أنا أختك يا عيون أختك.. أمك من زمان اَلله أخذ الوداعة.
* * *
شاب آخر كان مقطوعاً من شجرة كما يقال، فهو يتيم الأبوين، وما من أقارب يمكن التعويل عليهم. كان المسكين قبل الاعتقال يعمل جابي باص، وربما هو قدَّم خدمة أو معروفاً لأحدهم، إذ نقل له حقيبة من دمشق إلى حلب، ولكن أحد الحواجز الأمنية على الطريق فتش الباص، وحين سألوا عن صاحب الحقيبة، لم يتردد المسكين في القول إنها له، فاعتقلوه وعذبوه، ولسبب غير معروف نجا من الإعدام.
يوماً ما جاء أحد الرقباء ليقول أن هناك زيارة لفلان الفلاني، وكان المقصود جابي الباص. لا أحد في الجناح صدَّق الأمر، ولكن لا بأس أن يأخذوه إلى غرفة الزيارات، ثم يعيدوه بعد أن يكتشفوا أنه ليس هو المقصود.
تأخر الرجل في غرفة الزيارات، وحين عاد كان يحمل أكياساً فيها ملابس وفواكه وحلويات.
انهمرت الأسئلة رشاً ودراكاً، ولكن الرجل اختصر القصة بقوله:
– ما خاب ظني. سائق الباص اللي كان يشغّلني معه جابي، طلع فعلاً ابن حلال. من سنين وهوي يترجّى فلان وعلتانن لحتى اَلله هيأ له واسطة وقِدِر اليوم يزورني.