نشرت في “الغارديان” في ١٤/٣/٢٠٢٤.
هو أحد تقاليد حفلات الأوسكار؛ خطابٌ سياسيٌّ جادّ يَثقب فقاعة البريق والاحتفاء بالذات. تعقبُه ردود فعلٍ مُتباينة. بعضٌ يعتبرون الخطاب مثالاً على دور الفنَّانين الأمثل في تغيير الثقافة؛ بينما يرى فيه آخرون استيلاءً أنانيَّاً على ما يُفترض أنَّها ليلةٌ احتفاليَّة. ثمَّ يبلغ النقاش منتهاه ويمضي الجميع قدماً.
مع ذلك، أظنُّ أنَّ تأثير خطاب جوناثان غليزر المذهل، إبَّان حفل توزيع جوائز الأوسكار ليلة الأحد الفائتة، سيكون أكثر ديمومةً من المعتاد بكثير، وسيجري تحليل معانيه وأهمِّيَّته على امتداد أعوامٍ قادمةٍ عديدة.
كان غليزر بصدد تسلُّم جائزة أفضل فيلمٍ عالميٍّ عن فيلمه “منطقة اهتمام”، المستوحى من القصَّة الحقيقيَّة لرودلف هوس الذي كان آمِر معسكر الاعتقال أوشفيتز. يرصد الفيلم حياة هوس المنزليَّة الهانئة برفقة زوجته وأطفاله، والتي تتكشَّف في منزلٍ وحديقةٍ مهيبين، بجوار معسكر الاعتقال مباشرةً. لم يَصف غليزر شخصيَّاته بالوحوش، بل قال إنَّهم “أهوالٌ جشعون وصوليّون، برجوازيّون، عديمو التفكير”، أشخاصٌ بمقدورهم تحويل أقذر الشرور إلى ضجيجٍ أبيض.
قبل حفل أمسية الأحد، كان الفيلم قد نال بالفعل استحسان العديد من أبرز رموز السينما في العالم. ألفونسو كوارون، المخرج الفائز بجائزة الأوسكار عن فيلمه “روما”، وصف “منطقة اهتمام” بأنَّه “ربَّما الفيلم الأهمُّ في هذا القرن”. وعلى نحوٍ مماثل، صرَّح ستيفن سبيلبرغ بالقول: “إنَّه أفضلُ فيلمٍ شاهدتُه عن المحرقة منذ فيلمي”- في إشارةٍ إلى فيلم “قائمة شندلر” الذي اكتسح جوائز الأوسكار قبل ثلاثة عقود.
لكن في حين جسَّد فوز “قائمة شندلر” لحظةً من الإقرار والتوافق العميقين في صفوف التيَّار الرئيسيِّ للمجتمع اليهوديِّ؛ فإنَّ “منطقة اهتمام” يأتي في خضمِّ منعطفٍ مختلفٍ تماماً. إنَّ النقاشات بصدد كيفيَّة تذكُّر الفظائع النازيَّة لا تزال مُحتدمة: هل نتعاطى مع المحرقة باعتبارها كارثّةً يهوديَّةً على وجه الحصر، أم كحدثٍ أكثر عالميَّة، ومع تطبيق اعترافٍ أشمل بكلِّ الجماعات المُستهدَفة بنيَّة الإبادة؟ وهل تُمثِّل المحرقة قطيعةً فريدةً في التاريخ الأوروبيّ، أم استعادةً لإباداتٍ جماعيَّةٍ استعماريَّة سابقة، ومعها كلٌّ من الأساليب، والمفاهيم، والنظريَّات العرقيَّة الزائفة التي طوَّروها ونشروها؟ وهل يشمل شعار “لن تحدُث مجدَّداً” الجميع، أم أنَّها لن تحدث مجدَّداً لليهود وحسب؛ أي، وعدٌ تتخيَّل إسرائيل أنَّه بمثابة ضمانةٍ مقدَّسةٍ لها؟
في صميم دعوى الإبادة الجماعيَّة التاريخيَّة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدَّ إسرائيل في محكمة العدل الدوليَّة، تَبرزُ هذه الحروب التي تدور حول كلِّ من العالميَّة، والصدمة الاحتكاريَّة، والاستثنائيَّة، والمقارنة؛ الحروب التي تمزِّق أيضاً المجتمعات والجمعيَّات والأسر اليهوديَّة حول العالم. وفي دقيقةٍ واحدةٍ شديدة التكثيف، في مرحلة الرقابة الذاتيَّة الخانقة، لم يهادن غليزر في اتِّخاذ مواقف واضحةٍ بشأن كلِّ هذه التناقضات.
“نحُن نتَّخذ جميع خياراتنا في الحاضر، باعتبارها مرآةً لنا ولنتحمَّل عواقبها في الوقت نفسه- لا أقول: “انظروا إلى ما فعلوه حينها”؛ بل: “انظروا إلى ما نفعله الآن””، قال غليزر، مُسارِعاً بتجاوز فكرةٍ مفادها أنَّ مقارنة أهوال اليوم بالجرائم النازيَّة إنَّما ينطوي على اختزالٍ أو نسبيَّة، كما أنَّه لم يفسح مجالاً للتشكيك بأنَّ نواياه الصريحة ليسَت سوى تسليط الضوء على الاستمراريَّة بين الماضي وحاضرنا الوحشيَّين.
ثمَّ مضى أبعد من ذلك قائلاً: “نقف هنا كرجالٍ يرفضون قرصنة يهوديَّتهم والمحرقة من قبل احتلالٍ يزجَّ الكثير من الأبرياء في صراعاته، سواءٌ أكانوا ضحايا السابع من أكتوبر في إسرائيل، أو الهجوم المستمرّ على غزَّة”. يرى غليزر أنَّه لا استثناء لإسرائيل، وأنَّه ليس من الأخلاق في شيءٍ استغلالُ الصدمة اليهوديَّة العابرة للأجيال، الناجمة عن المحرقة، كمُبرِّرٍ أو غطاءٍ لما ترتكبه الدولة الإسرائيليَّة اليومَ من فظائع.
بطبيعة الحال، سبقَ أن أشار آخرون إلى هذه النقاط، ودفع العديد منهم أثماناً باهظةً جرَّاء ذلك، ولا سيما إذا كانوا فلسطينيّين أو عرباً أو مسلمين. المثير للاهتمام أنَّ غليزر قد ألقى قنابله الخطابيَّة هذه في ظلِّ حمايةٍ من هويَّةٍ تُكافئُ بالقوَّة بدلةً مُدرَّعة؛ إذ وقف أمام حشدٍ متألِّقٍ باعتباره رجلاً يهوديَّاً أبيض ناجحاً- ومحاطاً برجلين يهوديَّين أبيضين ناجحَين- وقد صنع ثلاثتهم معاً فيلماً عن المحرقة. مع ذلك، لم تشفع له مجموعة الامتيازات هذه من طوفان حملات التشهير والتحريف التي تعمَّدت إساءة تفسير كلماته لتزعم زرواً أنَّه تنكَّر ليهوديَّته؛ الأمرُ الذي لم يُفضِ إلَّا إلى تأكيد وجهة نظر غليزر إزاء أولئك الذين يُحوِّلون المظلوميَّة إلى سلاح.
وعلى القدر نفسه من الأهمّيّة أيضاً رؤيتُنا للسياق الأشمل الذي يمكن إدراج هذا الخطاب ضمنه: مع الأخذ بالحسبان كلَّاً ممَّا سبقه وأعقبه مباشرةً. لقد فات أولئك الذين اكتفوا بمشاهدة مقاطع من الخطاب عبر الإنترنت هذا الجزء من التجربة، وهو أمرٌ مؤسِّف حقَّاً. لأنَّه بمجرَّد ما فرغ غليزر من خطابه -مُهدياً الجائرة إلى ألكسندرا بيسترون- كولودزيكجيك، وهي سيِّدة بولنديَّة كانت تُهرِّب الطعام إلى المعتقلين في أوشفيتز، وكذلك حاربت النازيِّين كعضوةٍ في الجيش البولنديّ السرّيّ- تَصدَّر كلٌّ من رايان غوسلينغ وإيميلي بلانت المشهد. وبدون حتَّى فاصلٍ إعلانيٍّ يتيح لنا استرداد حالتنا العاطفيَّة، انتقلنا على الفور إلى مَشهدٍ “باربنهايمريّ” يقول فيه غوسلينغ لبلانت إنَّ فيلمها عن اختراع سلاح دمارٍ شاملٍ قد حقَّق نجاحاً عريضاً في شبَّاك التذاكر بفضل “باربي”، في حين اتَّهمت بلانت غوسلينغ برسم عضلات بطنٍ زائفة.
في بادئ الأمر، خشيتُ أنَّ يُقوِّض هذا التدخُّل المتناقض إلى أقصى الحدود مداخلةَ غليزر: إذ كيف يمكن للحقائق المفجعة التي استحضرَها للتوِّ أن تتواجد جنباً إلى جنب مع تلك الطاقة الأقرب إلى حفل تخرُّجٍ من مدرسةٍ ثانويَّةٍ في كاليفورنيا؟ ثمَّ تبادر إلى ذهني ما يلي: على غرار المدافعين الشرسين عن “حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، ستساهمُ أيضاً تلك الحيلة البرَّاقة التي شوَّشت على الخطاب في توضيح وجهة نظر غليزر.
“لقد أصبحَت الإبادة الجماعيَّة جزءاً معتاداً من حياتهم”: هكذا وصف غليزر المناخ الذي حاول إبرازه في فيلمه؛ إذ تنشغل شخصيَّاته بمشاكلها اليوميَّة -أطفال لا ينامون، وأمّ صعبة الإرضاء، وخيانات زوجيَّة عرضيَّة- وكلُّ هذا يحدثُ في ظلِّ مداخن تلفظُ بقايا بشريَّة. لا يعني هذا أنَّ هؤلاء الأشخاص لا يعلمون بوجودِ آلة قتلٍ هائلة الحجم تدور على مقربةٍ من سور حديقتهم؛ بل هم، ببساطة، تعلَّموا عيش حياةٍ هانئةٍ بينما تَحضُر الإبادة الجماعيَّة في محيطهم بصورةٍ اعتياديَّة.
هذا ما يجعلُ فيلم غليزر المذهل يبدو أكثر معاصرةً وارتباطاً بهذه المرحلة العصيبة. فمع مرور أكثر من خمسة أشهرٍ على المذبحة اليوميَّة في غزَّة، ومع تجاهل إسرائيل الصفيق لقرارات محكمة العدل الدوليَّة، ومع توبيخ الحكومات الغربيَّة الملطَّف لإسرائيل وتزويدها بالمزيد من الأسلحة في الوقت ذاته، فإنَّ الإبادة الجماعيَّة تصبحُ جزءاً معتاداً في المحيط مرَّةً أخرى -على الأقلّ بالنسبة إلى أولئك المحظوظين منَّا بما يكفي للعيش وراء الجوانب الآمنة من الجدران العديدة التي تقسم عالمنا. ونحنُ مُهدَّدون باستمرارها، بأن تصبح الموسيقى التصويريَّة لحياتنا الحديثة، وليس حتَّى الحدث الرئيسيّ فيها.
أكَّد غليزر مراراً وتكراراً على أنَّ موضوع فيلمه ليس المحرقة، بأهوالها المعروفة وخصوصيَّاتها التاريخيَّة، بل شيءٌ آخر أكثر ديمومةً وانتشاراً: ألا وهو قدرة البشر على التعايش مع المحارق والفظائع الأخرى، والتصالح معها، والاستفادة منها.
حين عُرض الفيلم لأوَّل مرَّةٍ في شهر مايو الفائت، أي قبل هجوم حماس في السابع من أكتوبر وهجوم إسرائيل المستمرّ على غزَّة، كان بمثابة تجربةٍ فكريَّةٍ يمكن تأمُّلها مع الاحتفاظ بقدرٍ من المسافة الفكريَّة عنها. وعلى الأرجح أنَّ جمهور مهرجان كان السينمائيّ، الذين منحوا فيلم “منطقة اهتمام” ستَّ دقائق من التصفيق الحارّ، قد شعروا بالأمان أثناء عبثهم بالتحدِّي الذي طرحه غليزر أمامهم. فربَّما نظر بعضهم إلى مياه البحر المتوسِّط اللازورديَّة وفكَّروا كيف أنَّهم يشعرون بالارتياح، أو حتَّى عدم الاكتراث، إزاء أخبار القوارب المكتظَّة ببشرٍ يائسين تُركوا للغرق أمام السواحل مباشرةً. أو ربَّما فكَّروا في الطائرات الخاصَّة التي حملتهم إلى فرنسا، وبحجم تورُّط الانبعاثات الناجمة عن الرحلات الجوّيّة في اختفاء مصادر غذاء الفقراء في أماكن نائية، أو انقراض بعض الأجناس الحيَّة، أو الاندثار المحتمل لأممٍ عن بكرة أبيها.
أراد غليزر أن يستثير فيلمه هذا الطيف من الأفكار المقلقة. لقد سبق له القول إنَّه شاهد “العالم المظلمَ من حولنا، وشعرتُ أنَّه لا بدَّ لي من فعل شيءٍ ما بصدد أوجه التشابه بيننا وبين الجناة، وليس الضحايا”. أراد تذكيرنا أنَّ الفناء ليس ببعيد عنَّا، على عكسِ ما نظنّ.
لكن بحلول الوقت الذي وصل فيه فيلمه إلى دور العرض، في شهر ديسمبر، صار تحدِّي غليزر الخفيّ للجمهور كي يُفكِّروا في نسختهم الخاصَّة الداخليَّة من رودلف هوس أكثر حضوراً وواقعيَّة. يبذل معظم الفنَّانين قصارى جهدهم لملامسة روح العصر، لكنَّ “منطقة اهتمام”، الذي شهِد إطلاقه في دور العرض حضوراً ضعيفاً نظراً لاستقباله الأوَّليّ، قد عانى من ظاهرةٍ نادرةٍ في تاريخ السينما: فائضٍ من الأهمّيّة، وتخمةٍ في الراهنيَّة.
في واحدٍ من أبرز مشاهد الفيلم، تصلُ إلى منزل عائلة هوس حزمةٌ مليئةٌ بالثياب والملابس الداخليَّة المسروقة من سجناء المعسكر. تُقرِّر زوجة الآمِر، هيدفيغ (لعبت دورها ساندرا هولر بإقناعٍ شديد)، أن يختار كلُّ من في المنزل، بما في ذلك الخدم، قطعةً واحدة من الحزمة. هي نفسها تختارُ معطفاً من الفرو، وتُجرِّب أيضاً أحمر شفاهٍ تعثرُ عليه في أحد الجيوب.
هذه التورُّطات الحميميَّة مع القتلى تبثُّ في النفس ذعراً شديداً. وليسَت لديَّ أدنى فكرة كيف يمكن لأيٍّ كان أن يشاهد ذلك المشهد دون أن يتبادر إلى ذهنه الجنود الإسرائيليِّون الذين صوَّروا أنفسهم بينما كانوا يعبثون بملابس نسائيَّةٍ داخليَّة أثناء احتلالهم منازلَ الفلسطينيِّين في غزَّة، أو يتفاخرون بسرقة الأحذية والمجوهرات لخطيباتهنّ أو حبيباتهنّ، أو يلتقطون صوراً شخصيَّةً جماعيَّةً مع أنقاض غزَّة كخلفيَّة. (انتشرَت إحدى هذه الصور على نطاقٍ واسع بعد أن عنونها الكاتب بنجامين كونكل بـ “منطقة Pinterest”).
ينطوي العمل على أصداء كثيرةٍ مُشابِهة، تجعلُ اليوم من تحفة غليزر الفنِّيَّة أقرب إلى فيلمٍ وثائقيّ منها إلى مجاز. وكأنَّه من خلال تصوير الفيلم باستخدام أسلوب برامج تلفزيون الواقع، بكاميراتٍ خفيَّةٍ تنتشر في جميع أنحاء المنزل والحديقة (أطلق غليزر على هذا وصف “الأخ الأكبر في المنزل النازيّ”)، قد تنبَّأ بأوَّل إبادةٍ جماعيَّةٍ تُبثُّ على الهواء مباشرةً، بنسخةٍ من تصوير الجناة أنفسهم.
يَعرض “منطقة اهتمام” صورةً شخصيَّة متطرِّفةً لعائلةٍ تَمضي حياتها الجميلة الهانئة مباشرةً عبر آلةٍ تلتهم حياة البشر بالجوار. وهو ليس بأيِّ حالٍ من الأحوال صورةً شخصيَّةً لأناسٍ يعيشون حالة إنكار: هُم على علمٍ بما يحدث على الجانب الآخر من الجدار، بل حتَّى أنَّ أطفالهم يلعبون بما عثروا عليه من أسنان بشريَّة. إنَّ معسكر الاعتقال ومنزل العائلة ليسا كيانين منفصلين؛ بل ملتصقان. وسور حديقة منزل العائلة -الذي يضمُّ مساحةً مغلقةً للعب الأطفال، وستارةً لحوض السباحة- هو السور ذاته المحيط بالمعسكر، لكن على جانبه الآخر.
لم يخطر ببال كلِّ من أعرفهم ممَّن شاهدوا الفيلم أيّ شيءٍ آخر سوى غزَّة. لا أقول هذا من باب الادّعاء بمعادلة الحدث أو مقارنته بأوشفيتز. ليسَت هناك إبادتان جماعيَّتان متطابقتان: فغزَّة ليسَت مصنعاً مصمَّماً عن عمدٍ للقتل الجماعيّ، كما أنَّنا لسنا قريبين من حصيلة القتلى على أيدي النازِّيين. بيد أنَّ السبب الرئيسيّ وراء إقامة صرح القانون الإنسانيّ الدوليِّ بعد الحرب هو حيازة الأدوات اللازمة لتحديد الأنماط بصورةٍ جماعيَّةٍ قبل أن يُكرِّر التاريخ نفسه على نطاقٍ واسع. ونحنُ نشهد اليوم تكرار بعض هذه الأنماط؛ على غرار الجدار، والمعزل (الغيتّو)، والقتل الجماعيّ، وتكرار التصريح بالنوايا الإباديَّة، والتجويع الجماعيّ، والنهب، والاستمتاع بالتجريد من الإنسانيَّة، والإذلال المتعمَّد.
هكذا، أيضاً، تُصبح أساليب الإبادة الجماعيَّة جزءاً مُعتاداً من حياتنا؛ فيصير بمقدور البعض منَّا، البعيدين قليلاً عن الجدران، أن يحجبوا الصور، ويصمّوا آذانهم عن الصرخات، ويمضوا في حياتهم كأنَّ شيئاً لا يحدث. ولهذه الأسباب، أكَّدت الأكاديميَّة وجاهةَ موقف غليزر من خلال قطعها السريع إلى مشهدٍ باربنهايمريّ- قطع بمثابة تتفيهٍ لمذبحةٍ جماعيَّة- من دون أدنى تردُّدٍ أو ارتباك. هكذا، تصير الفظائع جزءاً من حياتنا مرَّةً أخرى. (في وسع المرء مشاهدة حفل الأوسكار بأكمله كنوعٍ من الامتداد الحيِّ لفيلم “منطقة اهتمام”، نوعٍ من استعراضِ جليديٍّ للإنكار).
ما الذي يتعيَّن علينا فعله لكي نقاطع هذا الزخم من التتفيه والتطبيع؟ هذا هو السؤال الذي يُعاني اليوم كثيرون منَّا بحثاً عن إجابةٍ له. يطرَحُهُ عليَّ طلَّابي؛ وأطرحه بدوري على أصدقائي ورفاقي. يُقدِّم العديد منهم إجاباتٍ من بينهما الاحتجاجات المستمرَّة، والعصيان المدنيّ، والتصويت “غير الملتزم”، وتعطيل الفعاليَّات، وإرسال قوافل المساعدات إلى غزَّة، وجمع التبرُّعات للاجئين، والأعمال الفنّيّة الراديكاليَّة. لكن هذا كلّه لا يكفي.
مع تراجع حضور الإبادة الجماعيَّة إلى خلفيَّة ثقافتنا، يزداد بعض الناس إحباطاً ويأساً إزاء أيِّ من الجهود سالفة الذكر. أثناء مشاهدتي لحفل الأوسكار في أمسيَّة الأحد، حيثُ كان غليزر يقف وحيداً ليتحدَّث عن غزَّة وسط حشدٍ من المتحدِّثين الأثرياء والمتنفِّذين على امتداد المنصَّة، تذكَّرتُ أنَّه قد مضى أسبوعان بالضبط منذ أضرمَ آرون بوشنِل، وهو شابٌّ يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عاماً وجنديٌّ في سلاح الجوّ الأميركيّ، النار في نفسه خارج مقرِّ السفارة الإسرائيليَّة في واشنطن.
لا أريدُ أن يلجأ أيُّ شخصٍ آخر إلى هذا التكتيك المروِّع للاحتجاج؛ فهناك الكثير جدَّاً من الموت بالفعل. لكن لا بدَّ من تخصيص بعض الوقت للتأمُّل في البيان الذي تركَهُ لنا بوشنل، والذي صرتُ أرى كلماتِه بمثابة خاتمةٍ معاصرةٍ ومؤرِّقة لفيلم غليزر:
“يحبُّ كثيرون منَّا أن يسألوا أنفسهم: “ماذا كنتُ سأفعل لو كنتُ حيَّاً في زمن العبوديَّة؟ أو قوانين جيم كرو في الجنوب؟ أو الفصل العنصريّ؟ ماذا كنتُ سأفعل لو كانت بلدي ترتكبُ إبادةً جماعيَّة؟”. الجواب هو ما تَفعلُه الآن بالفعل”.
* نعومي كلاين؛ كاتبة عمود ومساهمة في صحيفة الغارديان، وأستاذة العدالة المناخيَّة ومديرة شريكة في مركز العدالة المناخيَّة في جامعة كولومبيا البريطانيَّة. صدر أحدث كتبها، بعنوان: “الشبيهة: رحلة في عالم المرآة”، في شهر سبتمبر الفائت.