حين التقيت بالمخرج الإيراني أصغر فرهادي للمرة الأولى، كان ذلك في طهران عام 2009. كانت شهرته بدأت بالتوسع كثيراً داخلياً مع مهرجان فجر السينمائي في طهران، وقليلاً خارجياً مع مهرجانات أوروبية. كان لبعض هذه المهرجانات، وأولها مهرجان نانت للقارات الثلاث، دور في اكتشاف المواهب لا سيما منها القادمة من بلدان الأطراف، بعيداً عن أوربا وأمريكا الشمالية. عَرَضَ له هذا المهرجان فيلمه الثالث “جهار شنبه سوري” (2006) (احتفالات الأربعاء) في المسابقة الرسمية. حينها، صادفتُ أحد مؤسسي المهرجان ومديره الفني آلان جالادو، فسألني متحمساً إن كنتُ شاهدت فيلم هذا المخرج الإيراني الذي اكتشف أعماله. لينطلق بعدها ممتدحاً بحماسٍ شديد ذلك السيناريو المبهر، وتلك الطريقة المدهشة في صنع الحبكة. لقد بهر سيناريو الفيلم أيضاً لجنة التحكيم، فمنحته الجائزة وربما للمرة الأولى في مهرجان أوربي.
توضحت عبقرية فرهادي في كتابة السيناريو عبر هذا الفيلم الذي بدا كشهادة على تفرده. فيه، ألقى نظرة فاحصة على الطبقة الوسطى، كما سيكون حال معظم أفلامه القادمة، وأماط اللثام عن هشاشة العلاقة الزوجية فيها. أبرز الفيلم كذلك قدرته على العمل في قصص جديدة بعد تناوله لحياة طبقات شعبية في “رقص في الغبار”( 2003) فيلمه الأول، و”المدينة الجميلة” (2004) فيلمه الثاني الرائع. في هذا الأخير اختار مفاهيم الحبّ والعدالة والمسامحة في بيئة اجتماعية فقيرة. فكيف يمكن لشاب يبلغ من العمر 18 عاماً، النفاذ من العقاب بعد أن قتل خطيبته؟ لقد تصوّر أن فعلته ستكون انتحاراً مزدوجاً، لكنه خرج سالماً وبات يواجه عقوبة الإعدام ومصيره في يدّ والد الفتاة، ووحده القادر على إنقاذه بسحب شكواه، فهل يفعل؟ في هذا الفيلم تجلّت مواهب فرهادي في طرح محنة أخلاقية أمام أبطاله ليمتحن شكوكهم وتساؤلاتهم وسلوكهم.
ضيف مهرجان عمان السينمائي – أول فيلم، سيكون أصغر فرهادي، المخرج الإيراني العالمي. يسلط قسم “الأول والأحدث” الضوء على صانعي الأفلام المحنكين، مستعرضاً تطور لغتهم السينمائية على مر السنين. سيأخذنا فرهادي في رحلة تبدأ بأول أفلامه، مما يتيح لنا فرصة الاطلاع على التجارب التي شكلت وعيه المرئي والقصصي، وصولاً إلى أحدث إنتاجاته. يشارك المخرج فلسفته وخبراته والدروس التي اكتسبها خلال مسيرته السينمائية، ويستعرض التحديات التي واجهها وساهمت في نضوج أعماله كمخرج.
فرهادي الذي تحوّل للاهتمام بالطبقة الوسطى منذ عمله الثالث، تابع ذلك في “عن إيلي” (2009) الذي يعتبره بعضٌ أفضل أفلامه. تبدو القصة بسيطة في مستهلها، ثلاث عائلات من طهران تذهب سوية لقضاء الإجازة على شاطئ بحر قزوين في شمال إيران، ملجأ البرجوازية في العطل. لكن تطور الأحداث يأخذ مساراً مفاجئاً تظهر الشخصيات من خلاله بوجوه مغايرة، فيما يمكن اعتباره كشفاً للمجتمع الإيراني المعاصر، الموضوع الأثير لدى فرهادي. فإن اتخذت حكاياه مظهراً بسيطاً لأناس عاديين، فسرعان ما سيضعهم أمام معضلة تجبرهم على كشف دواخلهم. لذلك يبرع في رسم الحدث ليرصد المواقف منه، ويركّز على شخصيات الواقع ليسلّط الضوء على محيطه ليس “كإنسان مثالي أو كعالم اجتماع بل كما يراه هو نفسه كصانع أفلام” كما قيل عنه. يختار تلك الشخصيات بدقّةٍ لتعبّر عن تعقيد العلاقات الإنسانية، ويشتغل عبرها على خفايا النفس البشرية، فيكشف مشاعرها المضمرة وردود أفعالها المباغتة، أكاذيبها الصغيرة والكبيرة. تمسكها بوجهة نظرها، بما تراه هي الحقيقة.
في “انفصال نادر وسيمين” (2011) فيلمه الخامس، الأشهر لأنه عرّف به عالمياً بعد نيله جوائز عدة لعل أشهرها أوسكار (2012) وسيزار الفرنسي عن فئة أفضل فيلم أجنبي، تقدّم كل شخصية وجهة نظرها على أنها الحقيقة والحقّ. بعد هذه الشهرة واستقبال الغرب له بحفاوة مثيرة، قرر فرهادي تحدي نفسه في أفلام غير إيرانية تماماً، فصوّر “الماضي” (2013) في فرنسا، ثمّ “الجميع يعرفون” (2018) في اسبانيا. لكن، إن تعرّف الجميع في هذين الفيلمين على أسلوب فرهادي في العمل، بحبكته والخط الدرامي المتصاعد، فقد افتقدتْ شخصياته هذه الحرارة وهذا الغموض ومعه التعقيد الجاذبين في سينماه المعبَرة بعمق عن البيئة الإيرانية التي يعرفها جيداً. وفي حين كانت تبدو مقنعة تماماً في أفلامه الإيرانية كما دلالات حواراته التهكمية التي لا تجد ضيراً في تصديقها، فإنها في هذين الفيلمين كانت أقلّ أثراً وتأثيراً.
يتميز فرهادي بمهارة متميزة في فن القصّ، وتتشابك الخيوط في حبكة يميزها تصاعد مستمر للوصول إلى الذروة. وهو يبتعد عن الحكم أخلاقياً على أبطاله ويميل نحو طرح الأسئلة. في الكتابة يلجأ إلى تسجيل ملاحظاته حيثما تواجدَ، ثمّ يفردها أمامه كلعبة بازل، لتتشكل من خلالها الفكرة النهائية أو الشرارة التي سيبني عليها النصّ السينمائي. يرسم الأماكن التي يريد العمل ضمنها ويبحث عن موقع للتصوير يشّكله في مخيلته ويرسم له الخرائط*. وحين التصوير لا يفوته تفصيل ولا يحيد عما حدده، فيحرص على أن تكون كل لفتة وحركة وكلمة في مكانها. يحكّم سيطرته على فيلمه تماماً، لا يدع شيئاً يفلت منه. يتّبع أسلوباً كلاسيكيّاً في الإخراج فثمة قصة تسرد حدثاً وخط درامي متصاعد يعتبره أساسياً في أفلامه (بشكل عام واحد لا يتفرع إلى عدة قصص). إنه أكثر كلاسيكية من عباس كيارستمي وأقلّ تجريباً. يصوّر كثيراً في أمكنة محددة مغلقة ويعود هذا إلى عمله في المسرح حوالي تسع سنوات قبل قدومه للسينما، ما كان يجبره على التحرك في مكان محدود، ومع هذا فإن أسلوبه الإخراجي ينضح بالحياة والحركة.
لهذا، يفضّل فرهادي التعامل مع ممثلين محترفين، على خلاف كيارستمي أيضاً. وحتى هؤلاء لا يتركهم على هواهم. يديرهم ببراعة ويوقف العمل إن لم ينل ما يريد، يحضّر معهم بروفات عديدة قبل التصوير ويميل للتعامل مع ممثلين معروفين ليقدمهم في أدوار مفاجئة كما فعل في “انفصال نادر وسيمين” فمنح الممثل الوسيم شهاب حسيني الوسيم دور رجل شعبي عنيف، وليلى حاتمي ذات الوجه الملائكي دور زوجة مُغامرة تريد التخلي عن حياة عائلية مستقرة وتقليدية لتنظر نحو مستقبل مغاير. معه قدّم بعض أبطاله أفضل أدوارهم كما حصل مع الممثلة الشهيرة (في إيران) هدية طهراني في “احتفالات الأربعاء” ومع الممثلة الشهيرة ( داخلياً وخارجياً) تهرانه عليدوستي التي استعان بها أيضا في نفس الفيلم. وكانت بدأت معه في “المدينة الجميلة” ثمّ من جديد في “عن إيلي” و”البائع” (2016) فيما بعد. كما قدّم غلشفته فراهاني في أفضل أدوارها في “عن إيلي”. وعن استعانته بالممثلين المحترفين يقول في حوار “تقنياً، ليس بمقدوري تكوين علاقات مع غير المحترفين، قد أتمكن من استخدامهم في الأدوار البسيطة لكن ليس في المركبة. ثمة مستويات عدة للدور لا أستطيع شرحها لغير المحترفين”**.
دارت حول فيلم أصغر فرهادي الأخير “البطل” (2021) محاكمات وقضايا لاتهامه بسرقة الفكرة من طالبة لديه في معهد للسينما أنجزت فليماً وثائقيا حول نفس القصة. فهل انشغاله بالقضية واستئناف الحكم الصادر ضده كانا السبب في تأخره في إنجاز فيلم جديد هو الذي حقق خلال مسيرته المهنية منذ 2003 إلى 2021 تاريخ آخر أفلامه، تسعة أفلام؟
تهتم سينما أصغر فرهادي بالجمهور العام بيد أنها في الوقت ذاته تحترم ذكاء الجمهور الخاص الأكثر نخبوية. ويمكن تأكيد ما يقال من أن شيئاً ما كان سينقص السينما الإيرانية اليوم لولا فرهادي.
* الفيلم الوثائقي “مشاهد من انفصال” للإيراني وحيد صداقت ( ديسمبر 2019)،
** كتاب “السينما الإيرانية الراهنة” ندى الأزهري/ دار المدى 2012