تعرفُ كيف تفاجئنا، كيف تضحكنا وتوجعنا، متى تأخذنا عالياً ومتى تهبط بنا، كيف تبهرنا في رحلاتها السينمائية وترجعنا مأخوذين بخيالها الخصب، سخريتها، ولوحاتها الزاهية القاتمة معاً.
حين اكتشفتُ “أمور شخصية” (2017)، فيلمها الرائع الأول، فاجأتني مها حاج مرة أولى. ما كلّ هذه المشاعر الفياضة التي تكتسح دواخلنا، التي تُتعب، هذا التعب اللذيذ، وما كلُّ هذه الدموع والابتسامات، هذا الوجع وهذه الطرافة الساخرة، هذه المتعة وهذا الحنان؟
أثناء كلّ مشهد كان ثمة احساس باستغراق تخشى معه انسياب الزمن وانتهاء الصور و إضاءة القاعة انذاراً بضرورة المغادرة. فيلم يُسعد في كل لحظة من لحظاته، وبعدها أيضاً بساعات وأيام، يعاودنا كما يحصل أحيانا حين تهفّ، على غير توقع، مشاهد من فيلم ما. هذا شيء نادر ولا يحصل، إلا مع بضعة أفلام… مشاعر لحظية من بهجة أمام هذه النظرة الثاقبة الحساسة، المفعمة بإنسانية وطرافة والتي تلتقط أدق التفاصيل في كل شخصية وفي هذه الحياة التي تمضي حاملة معها الأحلام والآمال، الخيبات والخلافات. قلتُ حينذاك،
بتُّ أترقب أفلام هذه المخرجة الفلسطينية، في اختلافها وما تثيره في النفس من مشاعر رقيقة ودفينة. جاء الثاني “حمّى البحر المتوسط” (2022) مشاركاً في مسابقة “نظرة ما” في مهرجان كان لنفس العام، فحاز على جائزة السيناريو. ذلك كان حال فيلمها الأول”أمور شخصية” الذي شارك في نفس القسم في مهرجان كان 2017 ، سوى أنه لم يفزْ بجائزة.
فلسطينيةٌ لكنها لا تصيح هنا صوت فلسطين. لكن، كم تلك حاضرة في فيلميها، كم هي خلف كلّ شخصية وكلّ كلمة، لا تفرضها، لكننا لا نكفّ عن التفكير بها مع كل مشهد، لا تحصر مها حاج شخصياتها في هويتهم إنّما هي (الشخصيات) ممتلئة بها، يمكن لأبطالها أن يكونوا من أيّ مكان، أن يجد فيها كلٌّ أينما كان شيئاً منه، لكنهم يحملون ما يجعلهم من هناك، ارتباط عميق ومؤثر بأرضٍ ليست ككل أرض. يعبر اسم مدينة، مكان، في أكثر المشاهد تكثيفاً وأكثر العبارات اختزالاً ولكنها الأكثر إيلاماً، فيتجاوز المشهد في أثره أيّ خطاب سياسي، ويحرّك في الذاكرة عقوداً من ظلم وعنف احتلال.
في فيلمها القصير الأخير “ما بعد…” (2024) المعروض أخيراً في لوكارنو، المهرجان السويسري العريق في دورته الـ 77 والفائز بجائزتين كأفضل فيلم قصير، تتابع مها حاج منوالها. لا تذكر فلسطين ولا الاحتلال، كان يكفي ذكر اسم “غزة” سريعاً وما قبل النهاية بدقائق، ليفرض هذا الوجود سيطرته، بكل ما يعنيه ذكره اليوم بالذات. وفي ظلّ أجواء قاتمة تسود الفيلم، حتّى والشمس مضيئة، حتّى في ضوء النهار، في الخارج والداخل، هناك انذارٌ بعتمة فاحمة في سوادها. في المكان، رغم حقل الزيتون المترامي ببهائه، رغم المنزل المرتب والجميل بديكوراته وألوانه، رغم ابتسامات بطليه بين حين وحين… رغم كل ذلك يسود جوّ منذر مقلق متوتر، تشارك فيه موسيقى (منذر عودة) تثير حزناً وتبعث انقباضاً. ولكن لمَ؟ وكل شيء يبدو على ما يرام في يوميات الدكتور المتقاعد سليمان وزوجته لبنى؟
أبو خالد (محمد بكري) وأم خالد (عرين عمري)، في مزرعتهما المعزولة في مكان ما في المستقبل، كما يشير الفيلم، يمضيان أيامهما على وتيرة واحدة، متكررة في عاداتها، هو في الحقل يحفر ويزرع ويجني، وهي في المنزل ترتب وتطهي. هذا نهارهما، لا يتبادلان ولو كلمة إن تصادفا في الحقل حين تتوجه لبنى مثلاً لقنّ الدجاج تلمّ البيض. يجتمعان عند الفطور والعشاء، صباحاً ومساءً، إضاءة مختلفة ولكن ما تثيره من مشاعر الانقباض واحد. رغم أن كلّ مشهد، سواء أكان في الحقل أم البيت مشغول بصرياً بجماليات محسوبة بدقة في زواياها وظلالها. في لقاءاتهما يفسحان مكاناً لأحاديث وابتسامات، يتبادلان أخبار أبنائهما الخمسة في أسلوب يتكرر، من استهلّ الحديث صباحاً، يترك الاستهلال للآخر مساء، وتتوالى تعليقات مشابهة لما يحدث مع زوجين عجوزين. فهناك انتقاد من طرف الأبّ ودفاع من طرف الأم عن ابن ما، أو العكس، تتنوع الأسماء وليس الطريقة. يُخبر أحدهما الآخر مثلاً أنّ خالد اتصل أو طارق بعث رسالة الكترونية، أو أن حمزة تكرّم باعطاء أخباره أخيراً، أو أن أميّة تسأل عن طريقة عمل الجبنة أو أن باسل قد يأتي… يتبادلان الآراء مع مشاكسة للأمّ بتفضيلها أحد الأبناء الذكور ودفاعها عنه كونه لم يجد طريقه بعد، أو للأبّ لتدليله ابنته الوحيدة التي لا يلبق لها، برأيه، أن تعيش حياة عادية بل أن تلفّ العالم. أولاد كبروا وجاء أحفاد، وكل منهم وجد مكانه أم ما زال يبحث عنه، لكنهم يهتمون بالأبوين ويزورنهما بين حين وآخر أو يتصلون بهما.
سليمان ولبنى في ملابس سوداء طوال الوقت وفي جميع الأحوال، تشعّ ابتسامتهما الحزينة حين يرددان الحكايات ذاتها مع تنويعات تتعلق بكل ولد. يتعاملان مع بعضهما بحنوٍّ طاغٍ. يقنعنا محمد بكري بتعابيره وانتقاداته لأبنائه وتقدم عرين عمري أفضل أدوراها في توازن مدهش بين عاطفة جياشة يحركها ألم دفين وبين محاولاتها نكران هذا الألم. مها حاج كاتبة السيناريو تبرع في كتابتها، وترسم شخصيتين خياليتين واقعيتين في نفس الآن، تتعاطف كما عادتها مع شخصياتها وترسمها بعمق وإحساس، ويقود التحكم الدقيق بأداء الممثلين إلى إصباغ مصداقية على دورين فيهما من الخيال الكثير. تعتمد التلميح لا سيما مع قدوم خليل، صحفي شاب (عامر حليحل في أداء لافت كالعادة) للكتابة عنهما والحديث عن ماضيهما وعن عائلات في غزة عن ما بعد الاحتياجات الإسرائيلية، في تطور للحكاية ذكي ومؤثر. يرفضان استقباله أولاً، ثمّ يتعاطفان معه فهو صديق ابنهما خالد وقد وجدهما بعد عناء فلا هاتف لديهما ولا انترنت، ومشى طويلاً للوصول إليهما، يحنون عليه ويدعونه للعشاء وأمامه يتابعان سيرتهما اليومية وأخبار الأبناء ولاسيما خالد وابنه،
أثناء هذا العشاء، الذي تصور بعض مشاهده من الخارج من خلال نافذة تبدو الصورة وكأنها حلم، هنا سيتفاجئ المشاهد، وستكون ابتسامة خليل المرتبكة الحائرة وتعابيره المتألمة القلقة وهو يسمع حديث سليمان ولبنى، ابتسامته وأوجاعه وقهره هو أيضاً.