عن تفسير العالم وتغييره

installation by Ottmar Hörl in Porta Nigra

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

09/09/2016

تصوير: اسماء الغول

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

سلامة كيلة

ولد في مدينة بيرزيت في فلسطين سنة 1955. كتب ويكتب في العديد من الصحف والمجلات وأصدر العديد من الكتب التي تتناول بشكل أساسي الماركسيّة. عمل في المقاومة الفلسطينية ثم في اليسار العربي ، ولازال ينشط من أجل العمل الماركسي العربي. مطلوب للسلطات الإسرائيلية بتهمة العمل المقاوم. اعتقلته السلطات السورية بعهد حافظ الأسد من سنة 1992 إلى 2000، واعتقلته السلطات السورية بعهد بشار الأسد لمشاركته في الثورة صيف 2012 وتعرض للتعذيب في المخابرات الجوية، ثم تم ترحيله من سوريا إلى الأردن.

يجري تداول الفقرة الحادية عشرة من “موضوعات حول فورباخ”  التي كتبها كارل ماركس أواسط العقد الخامس من القرن التاسع عشر، والتي تقول: «لقد حاول الفلاسفة تفسير العالم بينما المطلوب هو تغييره»، بشكل متكرر، لكن تبدو المسألة ملتبسة، لأن النص يُظهر أن علينا أن نختار بين التفسير أو التغيير. بين أن نظل “نخباً ثقافية” أو “مناضلين عمليين” من أجل تغيير العالم. أي بين “ترفُّع” الفكر وعفوية الممارسة.

يقول سلافوي جيجك في مقال له (مجلة الفلسفة، عدد يونيو/ حزيران، 2016) جواباً عن السؤال اللينيني: ما العمل؟ «لا أدري. ما يمكنني القيام به هو تحليل الوقائع». ويكمل: علينا «قلب أطروحة ماركس» القائلة بتغيير العالم بدلاً من فهمه، لأن المهمة الآن هي فهمه وتأويله. بالتالي يعود جيجك من فكرة تغيير العالم التي كان يعتنقها إلى فكرة تفسير العالم التي يرى أنها ضرورية الآن، خصوصاً أنه يعتقد أن الأعمال ذات الأهداف النظرية هي التي تساهم في تحويل الوعي وتغيير العالم، كما تشهد التجارب التاريخية.

لا شك أن في ما يقوله إشكالية، وسوء فهم لفكرة ماركس تلك. فماركس الذي كتب هذا النص، ورماه في أدراج مكتبه، اشتغل في مستويين، الأول هو تفسير العالم، والآخر هو تغييره. بالتالي يمكن القول أنه قصد أنه لا يكفي تفسير العالم كما يفعل الفلاسفة بل يجب تغييره كذلك. لهذا كان معنياً بتفكيك المنظومة الفلسفية السائدة، والبحث عن “البذرة” التي تقبع تحت الغلاف الصوفي في فلسفة هيغل، كما في الانتقال من الهوام الفلسفي إلى تحليل الواقع، حيث أن الواقع هو منتج الأفكار، وأن الاقتصاد والبنى المجتمعية التي تنهض عليه هما أساس وجود الدولة والأيديولوجية. وهو عبر ذلك كان يؤسس، متكئاً على هيغل، منهجية جديدة، أساسها فهم الواقع، الواقع العياني، المتغيّر في كل لحظة، والذي يجب أن يُدرس في كل لحظاته.

وإذا كان قد سخّر قدرته النظرية (مع إنجلز) لوضع تصور نظري سياسي لمطالب البروليتاريا (أقصد “البيان الشيوعي”) فقد انخرط في عملية بحث مضنية في الاقتصاد القائم، لكي يفهم ويحلل واقع الرأسمالية التي كانت تتشكل حينها. لقد ظل لأكثر من عقدين وهو يبحث في وضع البلدان التي أصبحت رأسمالية لكي يفهم الرأسمالية، وهذه هي أهمية كتابه “رأس المال”. رغم أنه ظل يبحث في واقع الرأسمالية وتحولاتها، وبحث في التاريخ لكي يدرس كيفية نشوء الرأسمالية، وليتوصل الى تصور عن كيف تطورت أنماط الإنتاج من المشاعة. إذن، كان ماركس يجهد من أجل فهم العالم، بالضبط لكي يفهم آليات تغييره.

ولأنه يريد تغيير العالم لم يقف عند البحث والتحليل، و”فهم العالم”، بل انخرط في الصراع الطبقي في كل البلدان التي عاش فيها، وأسهم في تأسيس عصبة الشيوعيين سنة 1847 (وحيث كتب “البيان الشيوعي” كبرنامج لها)، وانخرط في تأسيس حزب شيوعي في ألمانيا، ثم في تأسيس الأممية الأولى. لقد انخرط في الدفاع عن العمال، وفي السعي لكي يتنظموا في حزب لكي يكون مقدوراً لهم الاستيلاء على السلطة وإزاحة البرجوازية لتحقيق الاشتراكية.

بهذا يظهر واضحاً أن ما قصده ماركس في الانتقال من تفسير العالم إلى تغييره هو “خارج المنطق الصوري” الذي يؤسس لثنائيات، ويفرض الانحياز لطرف فيها، وأنه يعني نقد منظور الفلاسفة المتعالي، الذي ينظّر حول كل مسائل العالم لكنه لا يتقدم لتغييره. النقد هنا لهذا التعالي، الانعزال، “التنظير” دون المشاركة في الفاعلية المجتمعية، أي في صراع الطبقات بشكل مباشر، لكي يستحق أن يكون مثقفاً عضوياً حسب ما حدده غرامشي فيما بعد. فقد انخرط ماركس في ورشة فهم وتحليل وتفكيك لواقع الرأسمالية، كما انخرط في ورشة فعل من أجل تغييرها، اقتحم الصراع الطبقي لكي يقدّم للبروليتاريا رؤية تساعدها على الانتصار.

وهنا يظهر واضحاً أن العالم كان بحاجة إلى تفسير أولاً، وهو جهد لم يُنجز، لأن التيارات الماركسية كانت تنطلق من أنها تمتلك رؤية واضحة لوضع العالم، وأن ما عليها سوى تغييره.

ماركس لم يستطع أن يغير العالم، لكنه استطاع أن يفسره. لقد “فك لغز” الرأسمالية، وفتح باباً واسعاً لفهم التاريخ العالمي، لكن كذلك لفهم تحولات العالم، ومساراته، وأزماته. حيث أحدث نقلة نوعية في الفلسفة فرضت “نهاية الفلسفة الكلاسيكية”، لكنها أنتجت منهجية تجاوزت المنطق الصوري الذي بلوره أرسطو قبل أكثر من ألفي عام، لقد أنتج منهجية الجدل المادي، كما أشرت متكئاً على هيغل، الذي بلور الجدل من خلال دراسته لصيرورة تطور الفلسفة. أنتج “طريق فهم” البروليتاريا لواقعها وللعالم لكي تستطيع تغييره.

بالتأكيد ساد فهم سيء لما قاله ماركس، حيث جرى تفسيره بأنه بات للبروليتاريا رؤيتها وما عليها سوى تغيير العالم. هنا جرى تبني منظور يقوم على أن الماركسية حللت كل شيء، وأعطت أجوبة على كل المسائل، وبات لدينا ذخيرة نظرية هائلة، بالتالي ما علينا سوى الانخراط في الصراع من أجل التغيير. لقد جرى تلخيص بعض ما كتب ماركس وإنجلز أو لينين، وصيغ كـ “نظرية” للطبقة العاملة، بات عليها أن تقوم بثورتها من أجل أن تنتصر. وبالتالي باتت الماركسية مصاغة في منظومة “جاهزة” هي “الماركسية اللينينية”، يجب أن يتبناها الحزب الشيوعي، أو المناضل الشيوعي وهو يخوض الصراع الطبقي. لهذا لم يعُدْ البحث النظري مهماً، أو ضرورة، وبات على أعضاء الحزب تكرار ما كتبه هؤلاء، أو كما صاغته “الماركسية” الآتية من الاتحاد السوفيتي، التي باتت تعتبر كحتميات مطلقة.

هذا هو وضع الماركسية في الأربعينات والخمسينات والستينات والسبعينات وحتى الثمانينات من القرن العشرين، حيث بدت كـ “نظرية مكتملة”، وما علينا سوى “تطبيقها”. مع وجود محاولات مختلفة خلال طيلة هذه العقود، لم تستطع أن تنافس الفيض “النظري” الذي عممته “الماركسية السوفيتية”، أو الناسجين على منوالها.

في كل ذلك خطأ، بل خطيئة. حيث أنه يجافي منهجية الماركسية، المنهجية التي تنطلق من أن التغيّر (الحركة) هو (هي) المطلق الوحيد، بالتالي أن كل شيء متغيّر. وأن الواقع لا يبقى على حاله بل يتغير في صيرورة مستمرة. لهذا حين يعاد إلى فكرة ماركس سالفة الذكر، كما فعل جيجك، ينفرض علينا توضيح إشكاليتين حكمتا تطبيقها وفق الفهم الذي انطلق منه جيجك، أي الفصل بين التفسير والتغيير. وإذا كنت أشرت إلى ما قصده ماركس، يمكن هنا أن أشير إلى مسألتين، الأولى: أن الماركسية لم تحلل الواقع القائم خلال كل تلك العقود، حيث لا يمكن اعتبار تحليل ماركس وإنجلز أو حتى لينين في أزمانهم تحليلاً مطلقاً، لأن الواقع ذاته تغيّر، وجرت تحولات كبيرة في الاقتصاد العالمي، كما في التحالفات والصراعات العالمية. وبالتالي ليس من الممكن الركون الى فكرة أن الماركسية تمتلك “نظرية” جاهزة، على العكس فهي تنطلق أصلاً، كما أشرت، من أن الواقع متغيّر بالضرورة، ضرورة الجدل المادي ذاته الذي ينطلق من مفهوم الصيرورة (الحركة، التغير المستمر)، وقوانينه توضح ذلك بشكل جلي (الفريضة، النفي، نفي النفي). لم تعد الرأسمالية هي ذاتها التي كان يحللها ماركس، رغم وجود “قوانين عامة” صحيحة، فقد تطورت و”اكتملت” في شكلها الإمبريالي. وبات العالم حينها ينقسم إلى “معسكرين”: الرأسمالي والاشتراكي، وتغيّر وضع الأطراف. إذن، لم تكن الماركسية تمتلك تفسيراً للواقع، وما كان يُطرح كتفسير للواقع لم يكن سوى تكرار لتحليلات أقدم أُعطيت سمة الإطلاق، وباتت تشكل “نظرية”. وهذا يوضح غياب الجهد النظري لدى الماركسيين (سوى ربما ماركسيين قلائل كانوا مهمشين)، وغياب فهم الواقع، وهذا ما توضحه المسألة الأخرى التي أشير إليها.

المسألة الثانية: أن الوضع في أوروبا الرأسمالية خلال العقود منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، بعكس الأطراف إلى منتصف القرن العشرين، لم يكن “زمن تغيير”، حيث كانت الرأسمالية قد أعادت صياغة البنية الطبقية بما يمنع الثورة، ويلغي “فكرة التغيير” لمصلحة استقرار الرأسمالية، ولمصلحة إمكانية تحقيق مطالب العمال في إطار الرأسمالية ذاتها. ولهذا كان الكلام عن التغيير وهماً، هو على العموم من اختراع فئات من “اليسار الجديد” بعد أن كانت الأحزاب الشيوعية قد تكيفت مع بقاء الرأسمالية، الرأسمالية التي ستبقى تتطور إلى أن تتعفن وتنهار.

إذا كانت الأحزاب الشيوعية قد ركنت الى “ماركسية” استوردتها من الاتحاد السوفيتي، وهي “ماركسية” لا تطرح عليها مسألة التغيير، فإن “الانتقال إلى الحركة” نتج عن تحولات الصين بفعل الثورة الثقافية، وانتصارات فيتنام على الإمبريالية الأميركية، حيث نشأ الوهم بـ “ضرورة التغيير” لأن “الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير العالم بينما المطلوب هو تغييره”. هذا الميل الإرادوي نشأ لدى فئات وسطى في أوروبا، أو في البلدان الرأسمالية عموماً، والذي أنتج مجموعات مارست العنف، لكنها سرعان ما انهارت. فالوضع لم يكن يحمل ممكنات التغيير، رغم أن الرأسمالية كانت قد بدأت تدخل في أزمة فرضت انتصار الليبرالية المتوحشة، والمسار الذي أنهى دولة الرفاه.

نلمس بالتالي أن “سوء فهم” العالم فرض سياسة إرادوية تعلقت بفكرة ماركس حول أن الهدف هو التغيير. وهنا يظهر واضحاً أن العالم كان بحاجة إلى تفسير أولاً، وهو جهد لم يُنجز، لأن التيارات الماركسية كانت تنطلق من أنها تمتلك رؤية واضحة لوضع العالم، وأن ما عليها سوى تغييره. وربما يوضح هذا الأمر الفكرة التي توصل جيجك إليها، حيث جرى الاكتشاف المتأخر لضرورة فهم العالم، لكن النتيجة الأخرى التي طرحها توضح أنه لم يرَ الواقع بعد، حيث أنه توصل إليها في وقت باتت الأزمة تشق الرأسمالية، وحيث بدأت الثورات تتوالى، وأن احتمالات تفاقم الصراع الطبقي العالمي باتت كبيرة، وبالتالي نحن في وضعية تفرض التغيير. وهذا أمر يطرح الشك في منظور جيجك، وبعدم تلمسه لواقع العالم الذي يسير نحو الثورة.

الآن، نحتاج إلى تفسير الواقع، هذا أمر مؤكد وحاسم، حيث أن الفهم هنا هو أساس الانتصار، لأنه المدخل لوضع إستراتيجيات صحيحة. لكن الواقع بات متحركاً، حيث يسير نحو الانفجار، بالتالي لا بد من تغيير العالم. المطلوب إذن هو تفسير العالم وتغييره. الأمران يجب أن يسيرا معاً. هذه هي مهمة المثقف العضوي.

الكاتب: سلامة كيلة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع