في الخارج الكلُّ نيام
في غرفتي يعاود الشَّوق تحريكَ خناجره في ذاكرتي، المخدوشة بالوجوه الصَّاحية أبداً…
شباك الغرفة مفتوحٌ على نسيم البحر
شباك روحي المكسور… مكسورٌ فقط..
بوحشةٍ قاتلة أسند مرفقي على حافة النافذة، يتخلَّل نسيم البحر شَعري بخفة فأترك نفسي له…
الهواء… الهواء… لطالما كانت نسمة تكفي لأشتعل!
أو لأقول:
“مَن قتل ذاك الذئب، وترك دماءَه أحجيةً في الهواء؟!
مَن أصابني بلوثة النَّار البعيدة؟
مَن أغمد أنيابه في صدري، وترككِ تنسفحين من دمائي هكذا؟!”…
آه.. لو أنّ ناراً جميلةً أكلتني على مهلٍ في “تلك” البلاد، على الأقل كنتُ لن أغصّ باسم الإشارة “تلك” اسم الخسارة…
اليوم طلب مني الفيسبوك أن أراجع ذكرياتي ، قالها هكذا: “يا ديمة تعالي لديكِ الكثير من الحسرات هنا” ثم مدّ لي لسانه بلؤمٍ، وذهب.
جرحي مازال طريَّاً، لا أجرؤ حتى على حكّه يا هذا!..
ولست ممّن ينسى، على الأقل قبل أن أموت…
الذكريات أو بالأحرى “حياتي” تلتمع الآن كحرقٍ على رؤوس الأصابع، وحواف القلب، وطرف اللسان…
كيف ألتقط الكلمات بذات الأصابع، أغمسها بذات القلب، وأخبركم بكل تلك الحروق أنّي:
في مثل هذا اليوم أكون مع أصدقائي إلى أقرب طاولةٍ على كتف بردى
نرمي حصاه بدموعنا، ونضحك…
نضحك، ونبكي نيابةً عن كلِّ الحطب النّاشف الذي يستيقظ صباحاً ويمشي في الشوارع، ويذهب للعمل، ويحلم بالأشجار الخضراء…
عن كل الحرائق، والكسور، والضمادات الموجعة…
عن خطوط الجبهات، وخطوط الأفق، وخطوط اليّد التي أكلتها البنادق أو الحظوظ العاثرة…
وفي آخر النّهار تحت أعمدة النّور المقطوعة… نفترق…
هذه المرة سيجتمعون، وسأكون بعيدةً وحيدة، بكتفٍ مخلوعة، لأنّي سحبت يدي من نهر الموت قبلهم…
….
في مثل هذا اليوم، وكلّ يومٍ أصقل قدميَّ بحجارة الطرقات، أتركها تعبر ضلوعي مراراً.. تعبرني حتى أتلاشى…
مرةً كنت ضباباً عند مدخل حي العمارة، بعد الحاجز بقليل، وقبل مكتب المختار بقليلين أيضاً..
عند سبيل الماء أعتقد… المهم أنّه كان يصلني من محلّ الآلات الموسيقية صوت أحدهم يدوزن عوداً، وعلى النّهاوند يغني… وكنت أصير ضباباً أكثر، وأقع في غرام ذاك الحي أكثر..
كنت كلَّ مرَّةٍ أقسمه في قلبي كتفاحةٍ، وآكل السمّ المدسوس فيه كلّه
ثم أقول: هذا الحزن العراقي الطافح في قلب الشام لي…
….
وفي يومٍ ما …
يومٍ من الأيام
يومٍ بشمسٍ، وساعات، وانتظاراتٍ، وخسائر…
غطيت الشام بجلدي، طبعتُ آخر القبل على خدِّها المشقوق بخشب التَّوابيت
ثم رحلتُ أرتعش….
كان الوداع آخر ما أتقنه أو أستطيعه، وكان صدري الذي ترجمه الاختناقات والغصات أضيّق من أن يتَّسع للعناقات المريرة..
ومع ذلك كنت بحاجةٍ للتَّزوّد برائحة أصدقائي، بأصواتهم، أنفاسهم، وذاك الاندلاع في عيونهم…
كنت بحاجةٍ أن أتلمّس حصَّتي الأخيرة في الشام، فيهم، حصتي في الحياة فيها.
في العناق الأول: لم أبكِ
في الثاني: قلت بصوتٍ مرتفع “ما بدي ابكي”
في الثالث: ارتجّت ركبتاي، سيل دموعٍ جارف، انحدر من أعمق انكسارٍ في روحي، أخذ بطريقه الأعصاب، والعظام، وادعاء الصلابة…
“ريشة تسدُّ جموح نهر، وردٌ يُمَدُّ لمقصلة، ريحٌ تُربَط بشريطٍ حريري…” وهكذا كان البكاء…
في يومٍ من الأيام:
مشيت على دموعي، مبتعدةً عن آخر تلويحةٍ لي في تلك البلاد.
وفي كل خطوةٍ كانت الشام تنوس شيئاً فشيئاً في الخارج، وتتَّسع أكثر فأكثر
داخلي…