ذات الأجواء التي رافقت فوز الشاب الفلسطيني يعقوب شاهين بلقب “عرب أيدول” أو محبوب العرب، صاحبت أيضاً فوز محمد عساف قبل عدة سنوات؛ الموسيقى المحفزة، صوت المذيع أحمد فهمي وهو يطيل الثواني قبل إعلان اسم الفائز، وصور المدن الأصلية للفنان وجمهورها يترقب، حينها كانت غزة واليوم بيت لحم؛ دقات القلب المتصاعدة.. القلق، من ثم الفرح، والسعادة، والقفز والدبكة، والضحكة الواحدة.
إن فلسطين عطشى للسعادة الجماعية، ولحظة فرح تجمع الجماهير ولا تختلف عليها، أعرف أننا عايشنا لحظات مشابهة؛ وقت اتفاق مكة، ومن ثم اتفاق الشاطئ، خرجنا نحتفل ونرفع الأعلام، لكنها كانت لحظات وهمية، خدعة سياسية، لذلك لم يبقَ ما يعطي هذا الشعب الانتصارات الحقيقية سوى الفن.
لا أحد يلوم الناس التي انجرفت نحو البرنامج، إنها تحتاج إلى الفرح، وإلى الانتصار الحقيقي دون أوهام يبيعها السياسيون ومطبّلوهم، وكانت آخر ضفاف الانتصار بعد تراكم اليأس هي ضفاف الطرب والصوت والصورة والكلمة، وكل ما يعكس حقيقة أنه باق هناك جمال وإبداع وموهبة على هذه الأرض التي حولها الساسة إلى “الأرض اليباب”.
لقد تغلبت دائماً المتعة الرخيصة والسياسة والحروب والمال، على الفن والفلسفة والأدب، وذلك ليس الآن فقط، بل على مر التاريخ البشري، فالإنسان لا ييأس من إثبات أنه كائن مادي في عالم مادي وليس روحاني في عالم مادي.
وربما يحدث اليوم هذا الانتقاء الشعبي البريء للطرب، لينتصر على السياسة التي أثخنتنا بالجراح، وربما ما ليس بريئا أن يحدث ذلك عبر برامج مقلدة، وتجارية هدفها الربح، إلا أن الرهان يبقى أن هؤلاء المتسابقون حقيقيون وهذه الأصوات قوية، وهذه الجماهير صادقة.
ربما يرى كثيرون وأنا معهم، أن برامج تلفزيون الواقع وأحدها “عرب أيدول” تقود الجماهير كالقطيع، لكن ألسنا أبناء هذه اللحظة وهذه الوسائل عالية الذاتية ومختلطة الهوية؟ ولم نعد جيل الكتاب أو الجريدة، بل أبناء كل ما هو مرآوي يعكس ذواتنا وحاجتنا للتسلية بعيداً عن الألم اليومي.
إنه عصر باتت فيه الوسيلة الإعلامية هي الرسالة وليس ما تقدمه، فقد قالها مارشال ماكلوهان “الوسيط هو الرّسالة“، ونحن تأقلمنا مع هذه البرامج والفضائيات دون أن ننوي ذلك، وهو ما تحدثت عنه عالمة الأعصاب سوزان جرينفيلد حين وصفت أن عقولنا تتأقلم بشكل حسي ويعاد ترتيب خلاياها بشكل جديد أو ضمور بعضها، بحسب الوسائط.
لقد كان البرنامج مبهراً بألوانه وتكاليفه وديكوراته، وهذا كافٍ لجذب أعصابنا وحواسنا، وكي أكون صريحة لم أتابع سوى آخر حلقتين، فقد كنت أقاوم الانجراف اللاوعي، ولكن كانتا هاتين الحلقتين كافيتين لتحملان كثيراً من الإشارات السياسية المهمة التي أثقلت برنامجاً فنياً.
لذلك لا يمكن أبداً عزل التسلية عن السياسة، ويجب الدفاع عن التسلية بعد تشويه سمعتها -هي مشاعر وسلوك يصاحب أي عمل يحبه الفرد- إلى جانب تشويه سمعة الفن في عصور متراكمة من الحروب والطائفية والتزمت، والإصرار على ربطه برسالة أو أيديولوجيا.
البرنامج الذي كان يحاول أن يمثل النموذج الليبرالي، وتجاوز كل المؤامرات التي توقعتها الغالبية، وأنا منهم، كأن يفوز المتسابق اليمني لتطهّر السعودية ما تقترفه من جرائم حرب في بلده، لكنه لم يفز، وقبل إعلان النتائج كان قد أجهش بالبكاء عقب اعتذار القناة بكل صفاقة عن بث مباشر من اليمن، كما كان البث من بلدان كل من المتسابقين الآخرين، بل بثته من جدة، وهي الشقيق اللدود لليمن الآن، وأضاف المذيع “نظراً لظروف اليمن”.
وفي كلمة أخيرة كان لابد منها، وإلا سيبقى الفنان الذي يعزل نفسه عن آلام بلده، قال اليمني عمار محمد “يكفينا حرب.. تبهدلنا كثير.. تغربنا كثير.. شوفولنا حل يا سياسين.”
بالفعل أثبت البرنامج أن نتيجته لم تؤثر عليها السياسة، وأنه رحب وواسع ولا ينظر إلى طائفة أو دين أو دولة تكرر فوزها، لكنه ليس برنامجا متحرراً لدرجة أن يبث من عدن أو تعز، فكيف لمحتل أن يبث من الأراضي التي يدكها، إنه يتعامل مع نفسه على أنه عدو هذه الأرض، لذلك كان الأهون عليه أن يبث من أراضي يحتلها الإسرائيلي.
إنها سلطة المال والإعلام في السعودية التي تمتلك مجموعة قنوات “إم بي سي”، والتي وجدت أن لا تناقض على الإطلاق من ختام حلقتها بأغنية جماعية ردد فيها المتسابقون لازمة غنائية “ملعون أبو الحروب”، إنه السعي الشكلاني نحو الموضوعية والحرفية وهو الكذبة الأكبر الآن في الإعلام العربي.
ربما ستبقى شجاعة هذا الفنان اليمني عالقة في الذهن، كذلك الإشارة الذكية من الفنان يعقوب شاهين حين أصر على تضامنه مع آلام صديقه عمار، وهذا لا يجعلني سوى متفائلة من ولادة جيل من الفنانين العرب يعلن انحيازه لقضايا شعبه على حساب السلطان، والأهم أنه يتمتع بالثقافة، مودعاً الحيادية والجهل.
مادحو الكراهية، وكارهو الفن، وهم كثر لا يمانعون أن تبقى فلسطين متصدرة أخبار الحرب، والموت، ويستكثرون عليها أن تتصدر أخبار الفن والطرب، بل يسألون بسخرية “وهل بهذا الفوز حررنا فلسطين؟”، كأن التحرير مانع للحياة حتى انعتاق الأرض، أو كأن كل ما هو خارج عن سلاح وبندقية محض عار، كيف لا يرون أن المقاومة والفن نبعهم واحد إنه الحب والحنين إلى الحرية؟، والسؤال الأهم لماذا لا يطلقون ذات السخرية وقت الفوز بمسابقات شعرية أو أدبية أو رياضية؟
إنها ببساطة النظرة العنصرية المتوارثة للفن باعتباره درجة ثانية عن المقاومة والأدب، وليس شرطاً على الإطلاق أن تكون من مؤيدي أحزاب “الإسلام السياسي” لتحارب الفن، فيكفي أن تضع شروطاً لتقبله، فإذا كان لا بد منه يجب إلصاقه غصباً بالقضية، على الرغم من أننا قادرون على أن نكون فنانين ورسامين ومطربين وشعراء وأدباء مؤثرين دون هذه اللازمة كي تغفر لنا “انحرافنا” نحو هذا الشيء المسمى فناً.
إني مؤمنة أن الفن يجب أن يكون مستقلاً كي يكون قوياً، وكي يحمل فكرة ما، وليس مطلوباً منه على الإطلاق تحرير فلسطين، فهذه المتطلبات تبقيه محلياً ومباشراً وغير مؤثر كما يحدث الآن مع أغلب أدبياتنا وكتبنا ومسرحياتنا وأغانينا.
ربما في وقت ما كان هناك استعداء شعبي للفن والغناء والطرب من منظور طبقي اجتماعي، وهو ما قال عنه ميلان كونديرا يوما “عدو الفن الشعبي الذي يشعر بالإهانة لمجرد وجود شيء يتجاوزه، وعدو الفن المثقف الذي يطالب الفن بخدمة أهداف سميولوجية وسوسيولوجية” إلا أنني أرى أن هذا العداء الشعبي لم يعد موجوداً مع انتشار هذه الوسائل لتصبح في كل بيت، وتشكل بيئة مختلفة تماماً عن الماضي، وهو ما عكسته الاحتفالات التي عمت رفح وغزة والضفة وبيت لحم ومجد الكروم احتفالاً بفوز يعقوب.
ولكن هذا الكف عن الاستعداء لا يعني على الإطلاق أنه من حق السياسيين المشاركة في هكذا فعاليات، إنهم متطفلون، كان من الواجب منعهم عن اللهاث خلف شباب موهوب يحقق نجاحات صغيرة.
إن تواجد الرئيس وحاشيته وابنه بمثابة تخريب حقيقي للمشهد، فهم لم يكتفوا بالفشل السياسي والوطني، بل يركضون ليكونوا تحت أضواء نجاحات غيرهم من أبناء هذا الوطن، نجاحات لم يدعموها يوماً، فالثقافة والصناعة الفنية في فلسطين تنفق عليها السلطة الفلسطينية أقل من واحد في المائة مقابل ما يزيد عن 30% لصالح الأجهزة الأمنية.
إن ثلة هؤلاء الساسة من مدعي ملكية الشعب ومواهبه ليس مكانهم مع الشباب المبدع على الإطلاق، كما لم يكن مكانهم يوماً خنادق مقاومة العدو، فليس لهم أي فضل بصوت مبدع كصوت أمير دندن، أو صوت مميز كصوت يعقوب شاهين.
صوت طورته الموسيقا الكنسيّة والتراتيل، وإرثه الثقافي والعرقي من الموسيقا الكنسية السريانية والبيزنطية وهو أمر يدعو للفخر، ليس فقط لقدم هذه الحضارة ولغتها بل أيضاً لمحاولته الدائمة أن يضع صوته أمام اختبارات كثيرة في الغناء، ما رآه كثيرون ضعفاً وتنشيزاً، ولكني أراه جرأة منه للخروج عن نمطية صوته الحساس والمتجه للترنيم أو “الإنشاد”.
إن الفن يتغير مع العصر، وكذلك حاجة الناس لنموذج بطولة جديد، نموذجاً ليس مقترناً بالبزة العسكرية أو بالمنصب السياسي، وليس منقذاً للفقراء كـ”روبن هود”، بطل يشبههم والأهم لا يكذب عليهم، يكسر النمطي، أو كما قال يوماً أستاذنا إسماعيل أبو شميس في واحدة من محاضراته الفذة “بطل يقوم بعمل مطلق في النسبي”.