إن غزة تبدو هوة سحيقة، كل الحقائق غائبة فيها، تبتلعها الأيام وصمت الجماهير، تذكروا معي معظم الأحداث الكبرى، بقيت غامضة البدايات والأسباب، وعلى الدوام هناك آلة إعلامية مسيسة تقوم بالمهمة البديلة عبر التغطية وحرف الأنظار عن الحدث الرئيسي.
كنا نكبر ونحن نسمع أن محمد حسني مبارك الرئيس المصري المخلوع، كان يعمل على تنفيس الجماهير بمعارك الكرة بين الأهلي والزمالك، وأفلام عادل الإمام.
كانت هذه الأحاديث تشعرني وقتها أن هذا الرئيس خارق، لم أعرف أنه كان مقلداً باهتاً لمن قبله من الحكومات القمعية، وأن حكومة الواقع بقيادة حماس تقوم بالدور ذاته في المساحة الأصغر، غزة.
لكن لا أحد سيتذكر هذه التفاصيل الصغيرة بعد مرور أعوام، لا أنتم ولا أنا، من دون أن يقوم بعضنا بكتابة مذكراته اليومية. وحتى مع تسجيل هذه اليوميات فسيبقى حاضرنا يعيش بربع الصدق المفترض، وبحقائق تم تحويرها، لذلك فإن وضع غزة لا يسمح لي بالتحدث بالكفاءة التي يتطلبها ضميري، لكن أستطيع كالعادة أن أصف الوضع العام الذي بلغ اليوم درجة غريبة من التناقض، وليكن مقالي واحداً من جوقة المقالات اليومية، مع بعض العزف المنفرد.
كانت بداية التنفيس بقيام وسائل الإعلام بإشغال الجماهير ووسائل التواصل الاجتماعي عن عمد وبشكل مبالغ فيه بقضية تقليص الرواتب بنسبة 30%، وهذا التقليص جاء بقرار مفاجئ من حكومة رام الله في السلطة الوطنية الفلسطينية.
وللتذكير فقط؛ جسم السلطة الوطنية واحد من تمثلات اتفاقية أوسلو التي جاءت وبصحبتها اتفاق باريس الاقتصادي الظالم، ولا تقوم هذه السلطة بأية مشاريع إنتاجية كبرى أو مصانع ضخمة، أو ترعى سياحة تصب في الدخل القومي بل هي جسم تابع، غير مستقل، كل ما يمنحه لموظفيه هو عبارة عن إعانات من الدول المانحة، لذلك لا يجب أن يتوقع أحد استمرار الإعانات وبنفس الحجم إلى الأبد.
وردّاً على هذا القرار بالتقليص تم تنظيم مظاهرات ضخمة في ساحة السرايا بمدينة غزة خلال الشهر الجاري، وهتف موظفو سلطة رام الله ضد رئيس الوزراء رامي الحمدلله، وأحياناً ضد السلطة، وهناك قليلون هتفوا ضد الرئيس محمود عباس، وكأن عدم الهتاف ضده سيحميهم من التقارير الكيدية التي يكتبها مندسو الاعتصامات، لكن هذا هو سحر الديكتاتور الذي يطعم الشعب؛ الجميع يكرهه ولا أحد يهتف ضده بالعلن.
لم أكن موظفة عند السلطة بوجهيها حماس وفتح، كذلك لم يكن أي من أفراد عائلتي الصغيرة، وهذا يعني أنني لن أشعر كما يجب بمعاناة العائلات التي تم الاقتصاص من رواتبها، لكن اسمحوا لي بالقول أن غزة والضفة تستطيعان العيش دون رواتب ودون السلطة الوطنية الفلسطينية التي “تشحت” كل شهر وكل سنة ميزانيتها، لتتحول إلى عبء على العالم.
ببساطة إن هذه الرواتب ليست من حقنا ولا نستحقها، إنها تحولنا لأكوام من الحجارة، طريقة للقضاء على الإنسان فينا، فننشغل بالكد والانتظار للحصول على قوت يومنا، مع نهاية كل شهر، وفي حالة غزة كلنا يعرف أنه لا يوجد كد مقابل هذه الرواتب التي هي في ظاهرها إنصاف وفي باطنها عذاب.
قال لي صديق ذات مرة “حين كنت في العشرينات اعتبرت كل شخص تجاوز الثلاثين وغد وحقير لأنه تماشى مع الحياة، ولم يعد يعمل لقضاياه، لكني وجدت نفسي الآن في الثلاثينات، عمري يضيع في روتين الوظيفة وانتظار الراتب”.
إنني أعرف أن حق الموظف أن يخرج للحصول على ما اعتاده، وأن قرار رامي الحمدلله بالتقليص قرار مناطقي جغرافي عنصري مائة بالمائة، فالأجدر أن تنال الخصومات من رواتب جميع الموظفين أولهم راتبه، وراتب الرئيس، إلا أنه من المهم تذكّر أن هناك ألف حق قبل الراتب يجب أن يخرج هذا الموظف للتظاهر من أجله ولم يفعل خوفاً ورعباً، فيبدو أنه من الأسهل التظاهر ضد رام الله على التظاهر ضد حكومة الواقع بغزة بقيادة حركة حماس التي مارست هي أيضاً القمع ضد مجموعة من موظفيها حين حاولوا الاعتراض على وقف الرواتب قبل حوالي عامين.
إن موظفي سلطة رام الله عانوا من العنصرية والتمييز من حكومة الأمر الواقع حين منعتهم من العمل في المؤسسات والجمعيات وحتى من قيادة سيارات التاكسي دون إذن مسبق، وهددتهم في المشاريع الصغيرة التي يقومون بها، كما يتم اعتقال أغلبيتهم بشكل دوري تحت طائل تهمة التخابر مع رام الله أو نشر الإشاعات، فيصبح فجأة أي موظف تابع لسلطة رام الله قابل للتشكيك به والعمالة، كل هذه الأسباب التي تحط من الكرامة لم تدفع هؤلاء الموظفين يوماً للنزول إلى الشارع، ليأتي الآن المال ويكون له الصوت الأعلى.
لذلك، هذا ما نحتاجه أن تنقطع عنا الرواتب، علّنا نرجع إلى كينونتنا الأولى. لقد عشنا فترات الثمانينات والسبعينات والستينات، وطوال عمر اللادولة واللاسلطة حتى منتصف التسعينات، دون رواتب وجسم يذبح فينا اقتصادياً وسياسياً كما فعل جسم السلطة الوطنية انصياعاً لاتفاقية أوسلو والمجتمع الدولي الذي أصبح يعاني كوننا جسماً طحلبياً زائداً.
أنا مع أن تتحمل الشركات الخاصة والوطنية كجوال والاتصالات والبنوك مسؤوليتها الاجتماعية في غزة والضفة، ولنكف عن طلب هذه الرواتب التي هي ثمن قبولنا حالة ضبابية من العمل السياسي الذي لا يشبه السلم ولا يشبه الحرب، كما أنه بعيد أشد البعد عن الوحدة الوطنية.
أعرف أن البعض سيحاججنني بشكل شخصي كون مهنتي في الصحافة لن تتأثر بانقطاع الرواتب، كما أعرف أن الأسعار مرتفعة في غزة كما لم تكن يوماً من قبل وأن الاحتكار أصبح سلوكاً شرعياً، وأغلبه من التجار ورجال الأعمال المقربين من حماس، وكذلك هي الضرائب والمخالفات المرورية والرسوم الحكومية وقد بلغت حداً لا يصدق، لكن اسمحوا لي القول أننا نحتاج لمرة واحدة أن نصبر فنلفظ الجميع: سلطة ومجتمع دولي، وأحزاب عاجزة.
وإنني أستغرب من تطفل نشطاء حركة حماس على مشكلة الرواتب بشكل لا يصدق، في تناسي ومواراة متعمدة لأزمات حركتهم الداخلية؛ والتي تعيش هي أيضاً على معونات قطر وتركيا وما تجود به القنوات غير الرسمية في إيران، وكله مقابل مواقف سياسية ندفع ثمنها كمليونَي محاصَر في هذا القطاع.
تصلني عبر الفيسبوك رسائل مجموعة إعلامية وحقوقية نشيطة، بعنوان “غزة مش لحالها”، ولم أشارك فيها لأنني أعتبر هذه المجموعة وكل الحراك في الشارع وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي، تعيش حالة إنكار مريعة لكل الحقوق السابقة لحق الحصول على الرواتب.
نعم أوافق، غزة ليست وحدها، فهي تعدت الوحدة، وغدت منبوذة ومكروهة، وهذا التزيين الإعلامي “من حلاوة الروح” لا أكثر ولا أقل.
غزة كانت لوحدها حين تفردت بها فتح وفساد أغلب قياداتها، غزة كانت لوحدها حين سرحت ومرحت فيها فرقة الموت، غزة كانت لوحدها وبقيت لوحدها طوال عقد من الانقسام عقب انقلاب قامت به حكومة منتخبة، على نفسها.
غزة بقيت لوحدها خلال حكم حركة حماس التي تخصصت في تدمير غزة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً، والتي لم تقم فقط بفصل غزة عن الضفة، وهو تماماً ما تفعله حكومة رام الله بقرار خفض الرواتب لموظفي غزة، بل فصلت كل فلسطيني عن أخيه الفلسطيني في ذات الحي والعمارة والمكتب، وأبسط مثال هو قرارها الطائفي بأن يأخذ المسيحي إجازة في عيد الفصح، ويبقى المسلم بدوامه في تمييز ساذج يعود بنا إلى تاريخ دفع الجزية.
غزة بقيت لوحدها في ثلاثة حروب، غزة تعاني وعانت لوحدها من انقطاع الكهرباء منذ عام 2006، فأرجوكم أيها السادة “الأنقياء”، كفوا عن القول بأن غزة ليست وحدها.
إن غزة وحيدة كما لم تكن على الإطلاق طوال تاريخها المتمرد، إن هذا اللسان الساحلي الجميل يعاني من سياسيات حركة حماس، وقرارات محمود عباس الذي يبدو أنه رئيس المقاطعة وما حولها فقط، كإقطاعي برجوازي لا يرى سوى أراضيه، فهو الرئيس الفلسطيني الأول الذي لا يكترث للشعب، ورضا الجماهير، بل مشغول بكونه الشخصية السياسية الفلسطينية الأعند، ربما لا يعرف أن يجعجع أمام الكاميرات، لكنه استطاع التخلص من جميع خصومه، وكان أقواهم محمد دحلان، وأكثرهم شعبية ياسر عرفات، لذلك إذا أراد أن يسترجع غزة بسياسات العقاب والحرمان فسيفعل ذلك إلى النهاية.
وحماس في المقابل حركة تقوى مع الضغوط ولن ترضخ للعقاب، بل ستزداد قوة، وسيكون هناك دفع للذهاب إلى حرب جديدة. وستتواءم الناس في غزة مع كل ما سيأتي، ولن تخرج ضد حماس في هكذا أزمة، فما يفعله عباس هو التقريب بين الحركة والجماهير!
لذلك إن قرارات الرئيس، لا تعني سوى تكريس غزة كقضية، نتيجة ضغوط يتعرض لها على ما يبدو من الإدارة الأمريكية الجديدة، وسيبقى الحل “المرعب” الذي يلوح بالأفق هو فصل غزة بالكامل، وسنرحب بكم بدولة على مساحة 360 كيلومتر مربع خلال الفترة القادمة.
يجب أن نعي جيداً أننا في داخل الحدث لا نرى السياسة بل لاحقاً سنرى التاريخ، لحظتها فقط نستطيع تصنيفه كيف كان ومع من وضد من، أما الآن فنحن في غبش لأننا نريد أن نبقى في حالة تجميل الواقع والنفاق مع كل الأطراف وإنكار أننا نعيش الأسوأ.
إن كل ما يحدث وسيحدث لا يدفعنا للاحتجاج، بل مصالحنا فقط هي التي تفعل ذلك، فلا توجد اعتصامات من أجل إنهاء الانقسام، أو من أجل فكرة وموقف، بل نخرج حين نريد راتباً أو بنزيناً أو معونات، بالله عليكم، كيف تصبح الهِبات حق، والمعونات شعارات مَطلبية؟
ما يحركنا هي حاجاتنا الرئيسية، وهذا ليس خطأ المعتصمين بقدر ما هو خطأ الحكومات التي تجعل مواطنيها لا يفارقون الدوران في الحلقة ذاتها من البحث عن الأمان المادي والمعيشي والأمني، إننا ننسى القضية الرئيسية لوجودنا؛ بأننا تحت احتلال إسرائليلي.
يجب أن تكون قوتنا على الاستغناء كبيرة، وإلا لن نحقق شيئاً، لا تقل لي أنك تقاوم وأنت مقيد بمواقفك وجسدك السياسي إلى هذا وذاك. دعونا نشفى من المانحين، لقد استغرقنا عمراً ونحن نقبل الاحسان كأحزاب وسلطة وشعب، ربما هذه هي اللحظة الحقيقية لنستقل بأنفسنا عن قطر وايران وتركيا والسعودية وأمريكا، أعرف أن التحديات تأتي ونحن عُزل، فتعود بنا إلى قاع هرم “ماسلو” لنبحث عن الاحتياجات الأولى، لذلك لا أحد يلوم الشعب، بل تُلام القيادات التي استمرأت المعونات والمنح مقابل قضيتها.
متى يستيقظ الفلسطيني العادي فينا؟ أين هو؟ ليس هو موظف السلطة الحمساوي أو الفتحاوي، بل الفلسطيني العادي.. هل ضاع للأبد..؟ ما ثمن أن نرجع لنقاء النضال الأول؟
إذا أردت تدمير أي قضية، حول المطالبين بها لموظفين، وإذا لم يكن موظف سلطة فليكن موظفاً دولياً وإذا لم يكن موظفاً دولياً فليكن عضواً في أحد الأحزاب.
لقد قتلوا الفلسطيني فينا، ولا نزال نختبئ خلف ضغط الحقائق، وظلم العامة بالتنفيس، صحيح ليس عندنا أهلي وزمالك ولكن عندنا حماس وفتح.