خلال دورته الحالية، يستضيف مهرجان أفينيون المسرحي عرضاً عربياً وحيداً هو «بكيت دمعاً دون عين» للمخرج التونسي رضوان المؤدب، المقيم في فرنسا منذ عام 1996، والقادم من تونس بعد أن عمل مع عدد من المخرجين التونسيين المعروفين كالفاضل الجعايبي، وتوفيق الجبالي، ومحمد إدريس، وها هو يعود اليوم إلى تونس، ليختار عشر راقصين للعمل معه على موضوعة الغربة والانتماء ضمن مشروعه الجديد.
على أحد أجمل المسارح التاريخية للمدينة، CLOITRE DES CARMES، وبعد أن استضاف المسرح قبله إحدى درر المهرجان، «نَفَس» للبرتغالي تياغو رودريغز، يقدم المؤدب عرضه على خشبة فارغة في عمق زاويتها اليمنى بيانو، أما الأرضية فهي سوداء وعليها لطخات بيضاء عشوائية. يبدأ الراقصون بالظهور، يذرعون الخشبة على غير هدى، عيونهم مثبّتة في الجمهور دائماً، وفي وقفاتهم تلاحظ تشكيلات مفاجئة لوضعيات تبدو كأنها مقتطعة من صور فوتوغرافية على إثر رحيل أو نزوح جماعي تارة، وتحديق في أفق بعيد تارة أخرى، وما يعزز الإحساس هو التفاوت في الأعمار على الرغم من أن النسبة العظمى من الراقصين كانوا شباباً
يبدأ عازف البيانو العزفَ بزيّه التقليدي الأبيض، ويقف إلى جانبه المغني التونسي الشاب محمد علي شبيل، لتبدأ اللوحة الأولى، أو صولو الرقص الأول إن صح التعبير، مع الأغنية القديمة «في البرّيمة.. الأيام كيف الريح» للمغني التونسي “الشيخ العفريت” بينما يؤلّف الراقصون بوقوفهم على شكل دائرة مفتوحة حلقةً حول راقص شاب ينحت الفراغ بجسده على شكل دوامة، وفيما يطول الأداء الهستيري المنفرد تشعر بأن جسده البشري سيتمزق في الصمت والسكون المحيط به، وأنه يعيش ضياعاً لا ينتظر معه إلا من ينتشله، ليأتي الإنقاذ أخيراً من راقص يعانقه، ليشرح دون كلام وبأعلى درجات التجريد كل شيء عن الغربة، وهل الغربة إلا أحاسيس من هذا النوع؟ فيأتي العناق كما لو أنه العودة أو الوصول إلى الأصل أو توقف جريان الريح في “البرّيمة” والتي تعني طاحونة الهواء حيث تجري الأيام هباءً كما الريح في البريمة إذ تتكرر وتتلاشى.
اللوحة الثانية صنعتها شابة بحركات أوسع على المسرح وبجمل تونسية متداخلة تختلط معها عبارات فرنسية، مثل “إذهبي هناك، ابقي هنا، افعلي كذا.. الخ”، نشعر معها بحال المهاجر الذي يبني حركاته وكأنه يرتبها، ويريد لها أن تبدو عفوية، وتدريجياً ننتقل بمزاج اللوحة إلى تونس والعنف الناجم عن حالة تيه وضبابية ما بعد الثورة، ومع هذا الأداء يبدأ المغني محمد شبيل بترتيل بعض الأصوات ثم ينتقل لمالوف “من النوى بكيت دمعاً دون عين” التونسي. عبر هاتين اللوحتين يركّب المؤدب آلام الاغتراب والرغبة في العودة، وآلام العودة إلى بلد مُتعب.
اللوحة الثالثة والتي تنطلق من الثانية يؤديها أربع شبان بعد أن بدا المناخ كما لو أننا في تونس لحظتها، يشكلون سداً بوجه الفتاة على اختلاف أشكالهم ومشاربهم، تتجاوزه بعناق المرأة المسنة، والتي رمّزت بزيها التقليدي لتونس الحلم كما بدا، حيث أنها تشكل حالة الأمان للشخصيات المرهقة في كل اللوحات. أما الجدار الذي شكّله أربعة راقصين فقد بقي متماسكاً، وصار يدور على نفسه خالقاً بالأرجل إيقاعاً يمكن تشبيهه بالدبكة لولا أن براعة الراقصين تجاوز بساطة حركات الدبكة المعروفة في دول المشرق العربي. فأخذت إيقاعات الأرجل بعداً أقرب ما يكون للتخبط والعنف الذي ينجم عنه.
وقبل اللوحة الأخيرة يتغير تشكيل الخشبة، يظهر شاب جديد يدفع بالبيانو لمقدمة المسرح، ويلقي مونولوغ باللهجة التونسية، ويصف نفسه بشِعرية كيف بكى على نفسه كطفل عند شاطئ البحر. لينتهي العرض باللوحة الأخيرة المليئة بابتسامات أخذت العرض نحو التفاؤل بعد أن ضاقت أفاق من لا يشعر بانتماء لشيء.
أدّت تركيبة المؤدب مهمتها، في إيصال ما يعجز عنه الكلام، حيث بناها على الموروث الغنائي لتونس مروراً بحنجرة الشاب محمد شبيل، مضافاً لراقصين يجيدون الأداء في الصمت، وبث الطاقة في الحجر. محاولاً إطلاعنا على آلام الأفراد غير المنتمين وعلى معنى الهجرة والعودة إلى الديار، والانغماس بآلام كل من غربة العيش في المكان وغربة العيش بعيداً عنه.