أصابتني الصدمة حين قرأت خبر قيام الفتى الذي ترك أعتاب الطفولة حديثاً مصطفى كلاب، بتفجير نفسه بقوة أمنية على الحدود بين جنوب قطاع غزة ومصر، ما تسبب بمقتله، واستشهاد القسامي نضال الجعفري وإصابة آخرين، وحيرتني قدرته على القيام بهذه الجريمة التي لا تلزم فقط قوة نفسية، بل أيضاً كراهية كبيرة، وحقد أعمى، والأهم يقين “شرعي” بأنه على حق.
وسرعان ما أصابتني الصدمة من جديد حين شاهدت كراهية مماثلة عبّرت عنها كمية الشتائم والسُباب التي طالت القاتل، ولا يوجد أسرع في القطاع من إطلاق الأحكام، ووصم الآخرين بوصمة العار، فهذا القطاع المحاصَر الذي يعج بمليوني شخص، من السّهل فيه تداول أي شيء دون محاولة لتحليل وفهم ما يحدث.
كما قام البعض بوصف الحادثة بأنها نتيجة “فكر منحرف”، وانتشرت العبارة وتناقلها آخرون وأخريات من النشطاء، دون التمعن بهذه العبارة، وكيف وصلتنا في البداية، ومن أين جاء هذا الفكر المنحرف، ولماذا نقوم اليوم فقط بوصمه وإدانته.
في الأسطورة الإغريقية فتحت باندورا الصندوق وأخرجت منه كل شرور البشرية، ولم تستمع إلى تحذير زيوس، فأسرعت لإغلاق الصندوق ولم يبقَ فيه شر إلا فقدان الأمل، ومثل هذه الأسطورة الإغريقية هو حال قطاع غزة على مدار السنوات الماضية، لقد فتحنا بأيدينا صندوق باندورا.
مشكلتنا أننا ننسى كثيراً، ننسى ما نال القطاعَ من خراب مكثف على مدار 11 عاماً لم تنله أي من المدن الأخرى؛ خراب عشوائي وآخر مدروس، خراب في البحر والمياه والأرض والإنسان والفكر والسياسة والأخلاق. وإن كل خراب بالإمكان إصلاحه وسيعود البحر يوماً ما إلى طبيعته في غزة ويتخلص من التلوث. أما خراب الروح وتلوث الفكر، فأخشى أن العودة عنه تحتاج منا إلى أزمنة مضاعفة، وجهود كبيرة عما يمكن بذله.
وإنني لا أحاول التعاطف مع الفكر السلفي، فخصومتي معه معلنة على الدوام، بل أحلل الأسباب التي جعلتنا نصل إلى هذه المرحلة الخطيرة. لماذا حدث كل هذا؟ أين أخطأنا؟ وأين أخطأت حماس؟ ما الذي يدفع شاباً غضاً في الحياة أن يفجر نفسه في أبناء حارته؟ ولماذا مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، بالذّات التي يتجه أبناؤها الصغار إلى هذا الفكر أفواجاً؟ ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟ من سمح لهم منذ البداية؟
ألم يقل القيادي في حركة حماس محمود الزهار يوماً: “نحن من يمثّل السلفية الحقيقية”؟ إذن أين ذهبت هذه الثقة؟ لماذا تسارع حماس في كل مرة إلى الانتقام الأمني وسد الطرق والانتشار العسكري؟ ولا تعمل على التصحيح من هذه السلفية الجهادية بالسلفية الحقيقية، وتعالج ما يحدث فكرياً وعقائدياً؟
لقد أوصل كثيرون من خطباء المساجد بخطبهم المتشددة والتي تجري تحت سمع وبصر وزارة الأوقاف، هذا الجيل الشاب العَطُوب إلى معاداة المجتمع، كذلك فعل كثيرون من شيوخ الدعوة الذين وجدوا المدارس الحكومية مرتعاً لهم، فيقولون ما يشاؤون وكله مسموح طالما كان باسم الدين، وكلنا نذكر فيديو التوبة الشهير الذي يبكي فيه طفل لإحساسه بالذنب، وهو لم يبلغ الحلم بعد!
لقد عملوا ليلاً ونهاراً كي يفقد المجتمع الغزّي بقايا التسامح في داخله مع الاختلاف، أرادوا منا أن نكون نسخاً عن بعضنا البعض في السياسة والفكر والدين والمظهر، وكل ما عدا ذلك يستحق العقاب واللعن.
لم نعترض يوماً كنشطاء ومجتمع وحكومة طريقَ التشدد كما اعترضنا على الدوام طرق التحرر، فإذا ما صادفنا ليبرالياً أو علمانياً أو يسارياً نكيل إليه الاتهامات والتشكيك بعقيدته والتحذير من خروجه عن الملة، وإذا صادفنا متشدداً نبارك، وفي أفضل الأحوال نصمت، ولا نتجرأ على نقده. ونضع حدود الخروج عن الملة بالتحرر، ولا نضعها بالتشدد، بل قد نشعر بالذنب إزاء هذا التشدد، هل هذا هو الأمر؟ هل هناك شعور بالذنب عند أصحاب الفكر الإسلامي المعتدل بعد أن أصبحوا في هرم السلطة ونالهم ما ينال حزب السلطة من ظلم وفساد، فسكتوا عن انشقاق كثير من أبنائهم لصالح السلفية الجهادية؟
ألم يكن الفتى القتيل مصطفى كلاب ابن زماننا ومجتمعنا وتشددنا واهترائنا وطبقيّتنا الاقتصادية التي لا ترحم أحداً؟ ألسنا جميعا أبناء هذا المجتمع الرديء الذي يتسابق إلى الكراهية والتشهير والتفاخر بالمال، والدرجات الوظيفية، وسلطة السلاح؟، ألسنا نحن من نعلم الطلائع عدم الوقوف عند السلام الوطني، وعاملنا النساء بعنصرية مطلقة، وأصدرنا قرارات منع خاصة بهن، وكفّرنا قادتنا وشعراءنا واحتقرنا تراثنا؟ ألم يكن مصطفى كلاب إلى عهد قريب أحد أطفال هذا المجتمع؟ إن الجسد ذاته حين يعاني من ورم ما، يكون الاستئصال آخر دواء، ولا يعالجه الطبيب دون علاج لكل الجسد.
حتى تاريخ هذه الحادثة كنا نعتبر هؤلاء الشباب الذين يتجهون إلى سيناء أو يؤمنون بفكر الدولة الإسلامية، هواة، أصحاب لوثة فكرية نتيجة الفقر وسيتراجعون عنها، حتى وصلنا اليوم إلى أن أصبحوا قادرين على جسارة الفعل، وقطع الطريق بين الفكر والتطبيق.
لقد راكم الخطاب السياسي والديني والحصار داخلهم إشكاليات نفسية إضافة إلى العقائدية جعلتنا أمام تركيبة صعبة للغاية، تركيبة تجعل مراهقاً يفجر حزامه الناسف دون تردد ليتفتت في وجه أقرانه، لقد وصلت غزة إلى نقطة اللاعودة.
لا ليس حادثا منعزلاً كما فضّل المتحدّث باسم وزارة الداخلية في غزة إياد البزم وصفه، بل هو حادث سبقه كثير من التدرج والمراحل، وحان الوقت لنكون صادقين ونكف عن إبر التخدير؛ فالقطاع أعيته الأزمات؛ تهديدات إسرائيل ودمار وغلاء معيشة وفقر وكساد وانفصال عن الوطن والعالم ومنع أهله من السفر وتحالف الدول عليه ومعاداة الرئيس الفلسطيني له، لينقصه هذا الآن؟ أو كما قال المتنبي:
أبنت الدهر عندي كل بنتٍ … فكيف وصلت أنت من الزحامِ
جرحت مجرحاً لم يبق فيه … مكان للسيوف وللسهامِ
لقد سارعنا جميعاً إلى التنصل من مصطفى كلاب الداعشي ونسينا مصطفى ابن المجتمع، نشرنا صور رأسه مقطوعة عقب التفجير ونحن نهزأ منه، تعالينا عليه كأننا الأفضل، وما أسهل أن ننتقد الموتى، وكان موقف عائلته مماثلاً، ارتكبنا جميعاً الأنانية المطلقة، وأردنا التنصل من الاعتراف بما وصل إليه حالنا، كي لا نتحمل مسؤولية شيء، كأنه بذر شيطاني نما وحده، وتجاهلنا حقيقة الشباب الذين ينتهجون كل يوم نهجه، ويتسللون إلى سيناء أو يقبعون في منازلهم وتغض عائلاتهم البصر عنهم بإرادتها، وكذلك يفعل الجيران والأصدقاء والحكومة، فيبدو أن الكل يضعف أمام مطلقاتهم، فهم لديهم الإجابات النهائية بأقصى ما تحتمل على كل شيء، هكذا حفّظهم خطيبهم وقائد مجموعتهم.
لم يكن الحل قصف مساجدهم، كما حدث في رفح بالماضي، أو اعتقالهم وتعذيبهم، فهذا لم ولن يفعل سوى إضفاء البطولة على فكرهم وجعله أسطورياً ومرغوباً به، ويزيد من انتشاره بين الشباب المراهق فكرياً، بل الحل إبدال خطبائهم وشيوخهم، وتجفيف مصادرهم المالية، وتنظيم محاضرات ونقاشات لهم ومعهم، ليس عبر رجل الأمن، فهو ليس مخولاً بذلك، بل من خلال شباب وعلماء أكفاء في مجتمعنا يستطيعون التسرب إلى نفسياتهم ودحر الحجة بالحجة، كذلك تنظيم الأنشطة لهم في أجواء طبيعية.
وقبل كل شيء يجب رفض هذا الفكر المعشش في عقول خطباء المساجد “العاديين”، وشيوخ الدعوة، ومراجعة أدبياتهم ووقف معاداتهم للمجتمع التي يكررونها بصريح العبارة في خطب الجمعة، والمخيمات الصيفية الإسلامية، ومحاضراتهم التي يلقونها ليل نهار على أسماع الأطفال في المدارس تحت عنوان “أنشطة لا منهجية”.
إن مواليد جيل التسعينات الذي ينتمي إليه مصطفى كلاب وما بعده من أجيال، هم أبناء زمن الخراب، والحصار، والحرب والاقتتال والتشدد والفقر، يجب أن نأخذهم من أيديهم إلى بر الأمان الفكري والروحاني، لا أن نزاود عليهم، ونتنصل منهم حين تقع النوائب، لأننا في أمان مالي ووظيفي وتعليمي، أو لأننا في الغربة بعد أن نجونا من مملكة العذاب هذه، أو لأن أطفالنا يستطيعون الذهاب إلى مكتبات ومراكز للقراءة والأنشطة.
كم مكتبة عامة، وليست مكتبة مسجد، في محافظة الوسطى؟ كم مركز أنشطة للأطفال في رفح؟ كم مخيماً صيفياً غير أيديولوجي نظمناه من أجل أطفال القطاع؟ كم طفلاً في قطاع غزة أمامه فرصة ليكبر ولا يكون متشدداً؟ كم طفلاً لم ينهش الفقر خياله ورغبته في اللعب؟
وفوق كل هذا نذهب إلى السياسة، دون بوصلة أخلاقية وندعي أن السياسة فن الممكن والخداع، ولا مانع منها طالما أن الحصار أطبق على الأنفاس، ولم يترك لنا مجالاً، فيصبح عدو الأمس صديق اليوم، لذلك كان على حماس حين أعلنت قبل أشهر قليلة عن تفاهمات مع مصر عبر محمد دحلان، أن تتوقع انتقاماً شرساً من تنظيم الدولة الإسلامية، فهي بذلك تختار أن تصطف إلى جانب أعداء تنظيم الدولة من صحوات العراق، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي من المفترض أنه عدو الإنسانية، مرتكب مجزرة رابعة التي مرت ذكراها منذ أيام قليلة، فالعدو الأخلاقي لا تراجع عنه، وهو لم يكن يوماً عدواً سياسياً فقط، بل تزيد في القرب دون تفكير بالثمن، فنجد بعض التصريحات بأن الشهيد الجعفري راح في سبيل حماية الحدود مع مصر، ومنع تسلل الشباب إلى سيناء، وهل المتسللون يعبرون الحدود وهم يضعون الأحزمة الناسفة؟
إذا كانت حماس منذ البداية تشددت سياسياً إزاء التحالفات في المنطقة، ووقفت إلى جانب الثورة السورية، وأعلنت إيران والسيسي من الأعداء، ورفعت سقفها، فيجب أن تكون على قدر هذا الخيار، وأن تتحمل نتيجة كل ما يحدث في غزة من تنازلاتها السياسية الحالية المتتابعة، وأن تراجع ما دفعَ بعض شرائح غير ذات ماضٍ سلفي في المجتمع للتعاطف مع تنظيم الدولة، ومن ثم سعي هذا التنظيم للانتقام منها، وأن تعالج التشدد والخطاب الديني الاستعدائي في المنابر الرسمية، وتحاسب المتعاليين على الشعب بكراسي السلطة والسلاح، والسيارات والعقارات، والأهم أن تعود وتجمع شرور صندوق باندورا وتغلقه مرة أخيرة وإلى الأبد، فلا نعود نعاني من مراهق جديد غُرّر به!