في تلك المدينة، كل يوم هناك تفصيل يدعوك إلى الموت؛ ليس فقط الفقر وصواريخ الحرب، وكذب الساسة والقادة باسم الوطن، وغناهم أيضاً باسم الوطن، ليس لأنه لا توجد كهرباء ولا يوجد سفر، بل لأنها الحياة دون أمل، حتى الفرح فيها تبخر كأنه لم يكن منذ البداية.
لم يعد فقط في غزة الموت من نصيب الفقراء، والمرضى، والشهداء، لربما هذا حاضر سرعان ما سيصبح ماضياً، وسنتذكره بحرقه، لكن الآن يموت المستقبل، السنوات التي ضاعت من أعمارنا وأعمار الشباب لن تعود، لأنهم يرحلون، لن يقولوا “بكرة بتتعدل”، لأن لا شيء سيعوضهم، فقد توقف نبضهم.
معاذ انتظر 30 عاماً ليتغير الحزن، وتتبدل الوحدة، ولم يحدث شيء، كانت تواسيه رسوماته الحزينة، واقتنع بالأمل، لكنه لم يأتِ أبداً، وجدوه على سريره ونور غرفته مشتعل كما كان يفعل طوال عقد من الزمن حين يستعد للنوم بعد وفاة والديه، لكن هذه المرة كان قلبه قد استسلم.
كانوا يقولون لنا أن الناس في أوروبا يموتون وحدهم دون أن يشعر بهم أحد بسبب قسوة الحياة المادية، وحضارتهم المبنية على تقديس الفرد، فيكتشفون وفاتهم بعد أن تملأ رائحتهم ممرات البناية. لكنهم كذبوا علينا، ولم يقولوا أنه أيضاً في بلاد الحصار والقهر وتقديس الجماعة، الناس تموت وحدها ولا يشعر بها أحد، فقد اكتشفوا جثمان معاذ بعد يومين من وفاته.
صباح أمس أيضاً روح معذبة أخرى في غزة وجدوها جثة هامدة بعد أن اختار صاحبها الرحيل، إنه الكاتب مهند يونس ابن الثلاثة وعشرين عاماً، رحل تاركاً مجموعته القصصية، وكتاباته غير المكتملة، والمسابقة الأدبية التي شارك بها دون أن يعرف نتيجتها.
هذا الشاب الذي كان يجيد الكتابة والحزن، كان يسأل الآخرين بتواضع جم عن رأيهم بكتاباته مع أنه كان من أفضلهم، لم يكن لديه ذلك الغرور الفتي بالأدب، بل كان ناضجاً في انتظار لحظة الألق، إلا أنه ترجل فجأة ورحل.
إن السؤال الحقيقي ليس لماذا اختار مهند الرحيل، بل لماذا أهل غزة مغضوب عليهم إلى أن يلفظوا الأنفاس الأخيرة، فإذا لفظوها استحقوا منا المديح والاهتمام والجوائز وإشادة الوزراء والمسؤولين من شقي الوطن المهدور؟ هكذا فعلوا مع معاذ بالأمس، وهكذا يفعلون مع مهند اليوم.
كم أصبحنا نتقن الكتابة عن جمال الموتى وإبداعاتهم، فهم أحياء عندنا بعد موتهم، وخلال حياتهم، في غزّة، موتى. نحن لا نعترف بإبداعات غيرنا إلا بعد أن يواري التراب هذا الغير؛ لأن منا من تؤرقه الغيرة، وهناك من لا يرى غزة تستحق إلا إذا قدمت القرابين على أضرحة الوطن والثقافة، وهناك من هو متروك أيضاً بين المحزونين والمكلومين، يخنقه الحر والحصار والعتمة، فلا يعود يرى سوى الموتى، لكن ما هو أكيد أننا جميعاً نحتاج أن نطرد عنا الشعور بالذنب، برثاء الموتى الوحيدين، فنلعن العالم وغزة وأهلها، ونستمر بالحياة.
ما أخشاه هو أنها ستصبح عدوى، فلن تكف غزة عن الانتحار، ولن يكف مبدعوها عن التخلص من هذه المدينة بشتى الطرق، فلا تعاطف فيها أو تقدير إلا بعد الخلاص.
في العالم كله، هنالك مئات من المبدعين والأدباء والرسامين يختارون الموت، لكن بعد أن يكونوا قد جربوا الحياة، بعد أن ينتبه العالم إلى إبداعهم، أما نحن فنكتشف الرسامين والأدباء بعد أن يكونوا قد ساروا في الطريق الوحيد الذي أمامهم؛ ليصبحوا الموتى المبدعين.
يا للعار على السياسة وكراسيها فقد التصق بها أصحابها، وباعوا أهل المدينة مقابل ديمومة الجلوس والتنصيب، ولم يأبهوا إلى أن هناك اثنان مليون إنسان يعيشون في قبر جماعي.
لقد تركتم أيها القادة في جيل الشباب إصابات الحروب، وندوب الاقتتال، وأمراض النفس وتقرحاتها، ولهي أشد من عذاب الجسد، أوصلتموهم إلى الاكتئاب، بعد أن منعتم عنهم الحياة إلا إذا كانوا ينضوون تحت راياتكم الحزبية.
وبعد هذا تكتبون بعنجيهة الظالم بأنه مجرم ومصيره جهنم، أي خلل هذا في أرواحكم؟ جعلتم من الموت أمثولتهم ثم تلوموهم حين يصبحون تحت التراب؟! أين كنتم حين كانوا أحياء يا حاملي السوط؟ تنعمون بالإفك تحت إمرة مسؤولكم الحزبي، وقائدكم الوطني، ترقعون أخطاء ذاك، وتصفقون لشعارات هذا، وحين يخرج الأمر عن السيطرة تطلقون أحكامكم الأخلاقية والدينية على الضعفاء.
الضعفاء، من يدفعون اليأس بالأمل وبالابتسامة الخافتة، وبالكتابة وبالرسم، وليس بالرواتب وسيارات الدفع الرباعي، والأراضي المملوكة وفيلات الحجر القدسي. وكأن الانتحار يهدد أواصركم، فتتسابقون إلى تعليقات “التجحيم” والتصريحات الرسمية المشينة والكاذبة، وكأن المنتحر سيصبح منبوذاً، ولكنكم لا تعرفون أن الناس لا تقنت من رحمة الله كما تفعلون، فقد باتوا يعرفون أن عذاب غزة أشد من أي عذاب.
عشنا في جحيمكم في غزة والآن تهددونا بجحيمكم في الآخرة كأنكم ملكتموها، ولا تعرفون أن لدن الله أوسع من صدوركم الضيقة وقلوبكم القاسية، ترددون دون تأمل أن الشوكة لنا بها أجر، ولم تخوضوا في حقل الأشواك الذي زرعتموه لنا. لكنكم لستم وحدكم من زرعتم هذا الشوك، بل فعلت رام الله برئيسها الذي اجتث غزة من خططه وقلبه ومسؤوليته، وفعلت المؤسسات الثقافية جميعها هناك التي تدعم المبدع في غزة بالشعارات والإعلانات الشكلية التي لا تتحقق على أرض الواقع.
هناك دائماً شعور داخلنا أننا أقل من غيرنا، ربما نعوضه بتعالينا الإبداعي المبالغ فيه، إلا أن هذا الشعور كامن هناك لا يتزحزح نتيجة هذا الإهمال الثقافي، وعدم النظر الجدي للمحاولات الشعرية والقصصية والروائية والسينمائية التي تخرج من هذه المدينة المغلقة أحد عشر عاماً كقفص.
إن هذه البرامج الثقافية تتعامل مع غزة كاسم زائد في إعلانات المنح والمسابقات الأدبية، “كي لا يظهروا بمظهر العنصريين”، ولكن في الحقيقة لا شيء يحدث، وهم اليوم ذاتهم من يرثون مهند، ونشروا من قبله رسومات معاذ.
مهند ومعاذ لم يشتكيا من كل هذا، ولم يطالبا بشيء، ولم يجرحا أحداً بكلمة، بل كانت شعلة الأمل في صدريهما تخفت في عزلة وببطء إلى أن سادت العتمة. معاذ احتضن وحدته إلى الأبد تاركاً رسومه لتجوب العالم بعد ساعات قليلة من موته، ومهند سيحفظه التاريخ ككاتب آخر ممن يغادرون بإرادتهم بهدوء ودون ضجيج، لتتابع شخصيات قصصه وحدها طريق الأسى!