فيما عدا المناشفة والأممية الثانية (كاوتسكي وبليخانوف خصوصاً) الذين اعتبروا ثورة أكتوبر خطأ في التاريخ، ومغامرة “صبيانية” من شخص يدعى لينين، فوقفوا ضدها، استثارات الثورة مناضلين ماركسيين كثر، وألهبت شعوب العالم. ولقد فتحت طريق انتشار الماركسية إلى آسيا، الصين والهند الصينية، وإلى البلاد العربية، وانتشرت في كل العالم. ولقد ارتبطت الكتلة الأساسية من الشيوعيين بموسكو، و”تثقفت” بـ “ماركسيتها”، بينما سار آخرون في طريق مستقل. ومنذ ما بعد الحرب الثانية باتت التيارات الماركسية تتشقق، إلى ماوية ضد السوفيت، وتروتسكية ضد السوفيت والصين، وجيفارية وغيرها.
كانت الأحزاب الشيوعية تدافع بشكل متشدد عن الاتحاد السوفيتي والدولة الاشتراكية، وترفض الإشارة إلى أخطاء أو تحولات سلبية، وتكيل الاتهام لكل من ينتقد، اتهامات تبدأ بالتروتسكية وتنتهي بالعمالة للإمبريالية. وكانت تبدو هي التي تحتل الإطار الأوسع للتيارات الماركسية، هي المهيمنة بحجمها ورؤيتها و”ماركسيتها”، بينما كانت تبدو التيارات الأخرى كهامش اعتراضي، رغم أن الموجة التي بدأت من الصين ومع تطور الحرب الفيتنامية ضد الإمبريالية الأميركية، ومن ثم “الثورة الثقافية” في الصين، التي كانت الشرارة التي اطلقت “الثورة الطلابية” في فرنسا وأوروبا، وأسست لنشوء “اليسار الجديد” الذي يطرح مسألة تجاوز منظور الحركة الشيوعية، شكّلت حالة بدت أنها حققت التجاوز لتلك الحركة. لكنها سرعان ما خبت وتلاشت بهدوء. لا شك في أن الحركة الشيوعية العالمية كانت قد تراجعت وضعفت بعد التحولات العالمية التي حدثت بعيد الحرب الثانية، وخصوصاً بعد سبعينات القرن العشرين، وظهر معتلّة كما كان يظهر الاتحاد السوفيتي، ففقدت حيويتها، وكانت تبدو أنها مستمرة “بحكم العادة”.
في ظل هذه الوضعية كان انهيار الاتحاد السوفيتي وتلاشي المنظومة الاشتراكية لحظة فجّرت “الوعي” الكامن، وأطلقت الأحكام حول ثورة أكتوبر، وأحقية حدوثها. في الغالب كان “المراجعون” هم من داخل الحركة الشيوعية ذاتها، رغم أن اليسار الجديد الذي ظهر أكثر تشدداً في الدفاع عن الثورة، والذي أراد “تقليدها” بثورات تحقق الاشتراكية، مال سريعاً لتكرار مراجعة كان قد وصل إليها قبلئذ بهدوء. ورغم استمرار أجزاء من كل هؤلاء “متعصبين” للتجربة، ومتمسكين بالأسباب ذاتها التي أفضت إلى انهيارها.
هنا أصبحت ثورة أكتوبر محطّ نقد شديد، بل محطّ رفض عنيف. لم تعد ثورة أكتوبر الحلم الذي يسكن البشر، ولا قادت إلى تحقيق تطوّر وارتقاء، بل أتت بنظام استبدادي شمولي. ووصل الأمر إلى إدانة الماركسية والاشتراكية لأنها “أساس الاستبداد والشمولية”. كل ذلك من هؤلاء الذين حاربوا كل من كان ينتقد الاشتراكية انطلاقاً من حرصه عليها، وزاودوا على كل الذين حاولوا فهم التجربة، وتحليل مشكلاتها. حيث انقلب الرأي تماماً، وأصبحت ثورة أكتوبر “خطأ في التاريخ”، أو حتى “خطيئة” ارتكبها لينين بـ “إرادويته الفظة”. حيث لا يحتمل التاريخ هذه الانحرافة عن مسار “المقدّر”، ولقد قاد ذلك إلى “التهلكة”. وهنا أُعيدت تصورات قديمة تعلقت بالنقاش الذي جرى قبل وبعد ثورة أكتوبر عن ضرورتها، وأخذت تتكرر الأفكار التي طرحها المناشفة وقادة الأممية الثانية في مواجهة لينين والحزب البلشفي. واستُعيدت أسماء كانت محرّمة، ويتهم كل من يضطلع على كتاباتها بالتحريفية، مثل كاوتسكي وبيرنشتاين وبليخانوف. وكأن هؤلاء باتوا زاد الميل الجديد الذي اخترق الشيوعيين والذي بات يتسم بليبرالية مبهمة، وديمقراطية تجريدية، وبلا وعي لا بهذا ولا بذاك، بالضبط نتيجة عدم الاضطلاع على إمهات الكتب التي تناولتها، ولا حتى على كراسات مبسطة تحاول تلخيصها. ومن هذا المنظور بات يصدر الحكم على ثورة أكتوبر. إنها، إذن، “خطأ في التاريخ”، خطأ ارتكبته إرادوية لينين، الذي قرّر أن يحرف مسار التاريخ لكي يحقق اشتراكية ليست في أوانها.
الفكرة التي جرت استعادتها هي نقد الأممية الثانية والمناشفة لسياسة الحزب البلشفي، والخلاف الذي نشأ منذ بداية القرن العشرين حول طبيعة الثورة ودور الاشتراكيين الديمقراطيين فيها. هذه المسألة التي كانت في جوهر الانقسام في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، حيث ارتأى المناشفة (وعلى رأسهم بليخانوف) أن الهدف هو تحقيق المهام الديمقراطية البرجوازية، لهذا يجب دعم البرجوازية لكي تحققها، نحن طرف داعم لانتصار البرجوازية ولسنا معنيين بقيادة ثورة، هكذا كان جوهر الأمر. وانبنى تحليل ذلك على أن روسيا القيصرية لا زالت إقطاعية، وهناك برجوازية تنشأ وهي، حسب “المنظور الماركسي”، التي تحقق الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، وتُنشئ الصناعة، ليصبح هناك طبقة عاملة كبيرة تمثّل أغلبية المجتمع. حينها، وحينها فقط، يمكن طرح مهمة تحقيق الاشتراكية. وكان “المنظور الماركسي” المشار إليه هنا يقول بأن المجتمعات ترتقي من المشاعة إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية قبل أن تُطرح مهمة انتصار الاشتراكية. هكذا صيغت بعض أفكار ماركس التي وردت في بعض كتاباته، والتي كانت تمثّل مؤشراً وليس قانوناً حتمياً لارتقاء المجتمعات البشرية. لكن “تحريف” الأممية الثانية صاغها على هذا الشكل، وجعلها تعبّر عن إجبارية لا محيد عنها، وكانت هذه الإجبارية تلقى على أكتاف ماركس، الذي رفض كل جبرية وحاول فهم صيرورة التاريخ دون أن يحسم فيها.
هذا التصوّر هو المنطلق الذي أدان من خلاله المناشفة وقادة الأممية الثانية تصوّر البلاشفة ولينين، الذي إرتأى أن البرجوازية مترددة، عاجزة وجبانة، وموصولة مع القيصرية، لهذا اعتبر أن تحقيق المهمات الديمقراطية “برجوازية الطابع” (وهنا لا بدّ من ملاحظة أن لينين يتحدث عن الطابع البرجوازي للمهمات، أي تلك التي حققتها في أوروبا، وباتت “من اختصاصها”، أو محسوبة عليها) بات يقع على عاتق الاشتراكيين الديمقراطيين (الذين باتوا شيوعيين). طبعاً تصوّر لينين انتصر في نصف العالم بينما فشل منظور الأممية الثانية.
هذه هي الأفكار التي بات يستمدّ منها “نقّاد ثورة أكتوبر” زادهم، والتي أخذت تتكرر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. حيث باتت الثورة سابقة لأوانها، وكان يجب على لينين أن ينتظر انتصار الرأسمالية لكي تحقق التطور الكبير المنوط بها لا أن يبني الاشتراكية في مجتمع متخلف قروسطي. وهذا ما قاد إلى فشل الاشتراكية، وتشويه الماركسية. لقد استعيد كاوتسكي وبيرنشتاين رغم أنهما كانا محرّفين، وأصبحت أفكارهما هي ما “أثبت الواقع صحته”. لا شك في أن تفسير حادث راهن بـ “خطأ أصلي” (أو خطيئة أصلية) لا ينتج عن فكر ماركسي، يميّز بين الذاتي والموضوعي، ويعتبر أن الواقع في صيرورة، وأن كل لحظة لها سماتها. بالتالي ليس من الممكن أن نفسّر انهيار الاشتراكية بـ “خطأ” حدوث ثورة أكتوبر. لكن، وربما هذا يوضّح “ضعف” ماركسية هؤلاء (وفي الغالب معظمهم لم يقرأ شيئاً منها، ربما فقط من خلال مبسّطات سوفيتية مشوهة)، وبالتالي عجزهم عن فهم سبب حدوث الثورة، وما حققته خلال مسيرة ثلاثة أرباع القرن. في كل الأحوال، سيتضح ذلك حين نشير إلى “منظورهم”، حيث أن المنظور الذي كانت تتبناه مجمل الحركة الشيوعية العالمية، في البلدان الرأسمالية وفي الأطراف، كان ينطلق من أن المرحلة التي تمرّ بها المجتمعات هي “المرحلة الوطنية الديمقراطية”، التي يُقاد من قبل البرجوازية، فهذه الطبقة هي التي يجب أن “تستكمل مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية”، وأن على الشيوعيين دعمها، ودفعها لتحقيق هذه المهمات. ولهذا ليس عليها التفكير في السلطة التي يجب أن تكون للبرجوازية، وأن تركّز على “النضال من أجل الديمقراطية”، والنضال من أجل حقوق العمال.
هذا هو المنظور الستاليني الذي تعمم في الحركة الشيوعية بعد سيطرة ستالين على قيادة الحزب السوفيتي، والذي انطلق من الأسس ذاتها التي حكمت المناشفة والأممية الثانية، أي التزام “قانون” الارتقاء الذي حددته “الماركسية”، والقائل بالانتقال من المشاعة إلى الرق إلى الإقطاع وإلى الرأسمالية قبل التفكير في تحقيق الاشتراكية. وهو المنظور الذي جعل الأحزاب الشيوعية تضع ذاتها “تحت تصرّف” أحزاب برجوازية أو برجوازية صغيرة، وأن تلعب دور الاستشاري الذي يقدّم الحلول الأفضل للبرجوازية، تأسيساً على أنها تعي مصالح البرجوازية أكثر من البرجوازية ذاتها. وكان الفارق هنا يتمثّل في أن هذه الأحزاب تضع المسار الكلاسيكي للبرجوازية كمثال تنتقد من خلاله ممارسة البرجوازية الواقعية، هذه البرجوازية التي باتت مصالحها لا تتطابق مع هذا المسار الكلاسيكي، لأن سيطرة الرأسمالية على العالم فرضت وضعاً دفعها إلى التحوّل نحو النشاط “الهامشي” بعيداً عن بناء الصناعة، التي هي أُسّ نشوء البرجوازية وتطورها. وهذا أصلاً هو ما “حرف” لينين عن مسار “الماركسية القويمة”، حيث توصّل إلى أن البرجوازية لن تحقق التطور، وأن التطور ضرورة للوصول إلى الاشتراكية، لهذا “أقحم” الماركسية في مهمات لم تكن لها.
بالتالي، لم يكن صعباً على “ماركسيين” ينتمون للحركة الشيوعية أن يعيدوا تكرار ما قاله “رافضي” لينين، بالضبط لأنه جزء من منظورهم ووعيهم، لكنهم لم يكونوا يتناولوا ثورة أكتوبر من زاويته، بل كانوا يكررون الخطاب السوفيتي الذي كانت ثورة أكتوبر هي مبرره الشرعي، لهذا كان يمجدها، ويمجد لينين، لكنه كان يقدّم “ماركسية” الذين رفضوها واتهموا لينين بـ “التحريف”. بمعنى أن “الماركسية السوفيتية” كانت قد أسست لهذا الانقلاب الكبير على ثورة أكتوبر عن طريق تعميم أفكار مخالفة للأسس التي قامت عليها، بل ومتوافقة مع منتقديها، ومكررة عنهم. فقد أصبح خطأ لينين يتمثل في أنه “تجرّأ” على السلطة، وقرر استلام الحكم. وهنا يمكن سبب فشل الاشتراكية، هكذا بالضبط!
لا يبدو ذلك مستغرباً ما دام هؤلاء يطرحون في بلدانهم عكس ما طرح البلاشفة قبيل ثورة أكتوبر، حيث أنهم في كامل القناعة بأن أوانهم لم يحن بعد، حيث أنهم “منذورون” لحدث جلل، لا زال في عالم الغيب. وبينما كانت الاشتراكية لا زالت قائمة غضوا النظر عن ثورة أكتوبر ما داموا يتنعمون “مادياً” أو “معنوياً” بكل جبروتها وثرواتها، لكنهم تذكروا أمر “اعتراضهم” على ثورة أكتوبر فقط حين سقطت هذه الاشتراكية. تذكروا أن منظورهم لا يقود إلى ثورة، إذن كيف حدثت ثورة أكتوبر؟ وكيف ظلوا يكررون المديح لها عقود عديدة؟
في هذا التحوّل كانوا قد غرقوا في اللبرلة، وتقديس الرأسمالية، ويؤكدون “حتمية التطور الرأسمالي”، و”دور الرأسمالية التحديثي والتنويري”. أما ثورة أكتوبر فقد عممت الوحشية والشمولية والاستبداد. هذا ما جرت رؤيته من نتائج أحدثتها ثورة أكتوبر، وهي النتائج النابعة من تحكُّم “الوهم الليبرالي”، وقبول الخطاب الإمبريالي ضد الاشتراكية.
من جهة أخرى جرى التركيز على “إرادوية لينين”، وهذا أمر كرره بليخانوف وكاوتسكي، وكل أتباع الأممية الثانية، وهو المدخل الذي اعتبروه قد أفضى إلى “حرف مسار التاريخ” بانتصار ثورة أكتوبر. هل يستطيع رجل أن يحرف مسار التاريخ؟ هل إن إرادة شخص يمكن أن تفضي إلى مسار مختلف عما يحتمله الواقع؟ هذه مسألة فلسفية بامتياز طبعاً، حيث تنطلق من طغيان الذاتي على الموضوعي، وهو ما يناقض الماركسية بالأصل. وبالتالي لم تكن ثورة أكتوبر ناتجة عن إرادة شخص قرّر صنها بما يعاند الواقع. لقد عاند لينين منظورات بليخانوف والمناشفة والأممية الثانية، لكن انطلاقاً من فهمه لصيرورة الواقع، والمآل الذي يسير فيه الصراع الطبقي. لكن كل هؤلاء كانوا يعتقدون أن منظورهم هو الواقع، ولينين يعاند هذا المنظور، لهذا يتسم بإرادوية فظة. بينما لا يمكن للواقع أن يتحرّك بـ “قواه الذاتية”، بعفويته، ويوصل إلى الانتصار، لأنه يحتاج إلى فعل إرادي مطابق له، فعل إرادي يحفّزه، وينظمه، ويدفعه إلى الأمام، حيث تحتاج البنى في الصراع الطبقي إلى “عقلنة” وتنظيم، وهذه تعتمد على الإرادة.
النقّاد الجدد يكررون هذه “التهمة” دون فهم العلاقة بين الذات والموضوع، الذاتي والموضوعي، فقد كانوا مع الفعل الذاتي الذي أنتج ثورة أكتوبر ما دامت أنتجت الدولة الاشتراكية، لكن انهيارها فرض أن ينقلب الموقف فيصبح الفعل الذاتي هو تعبير عن إرادوية فظة. لقد سقطت التجربة لهذا يجب أن نصدر حكم الإعدام على رمزها، أي لينين، لكي نحمّله مسئولية قراره الذاتي بقيام ثورة أكتوبر. هذا هو مكنون الخطاب الذي أخذ يتكرر من كل هؤلاء. والأدهى، هنا أيضاً، أن كل هؤلاء كانوا ينطلقون من أن الحركة الموضوعية هي الأساس، وأن التطور واستكمال تحقيق “المهمات الديمقراطية” هما نتيجة “حركة موضوعية” لا شأن لنا فيها، فهي تسير بـ “ذاتها”، وما علينا سوى إبداء المواقف. هنا الإرادة مستلبة، والفعل الذاتي ملغى، سوى بعض النقد والتوضيح الإعلامي، فنحن لسنا جزءاً من الصراع الطبقي، ولسنا ملتصقين بالطبقة التي ندعي أننا نمثلها، وأكثر ما يمكن أن نفعله لها هو التحدث الإعلامي ببعض مشكلاتها، أما صيرورة تطور صراعها، والبديل الذي تطرحه، وهل يجب أن تستلم السلطة، فكلها لا تعنينا، وهي تعبير عن “ميل إرادوي”! فالمسار الموضوعي -بالنسبة لهم- يشير إلى أنه يجب أن تنتصر البرجوازية كما أشرت للتو، وما علينا سوى أن ننبه لمزالق، أو نشير إلى أخطاء، أو نوضّح خيارات أفضل. لمن؟ لغيرنا بالتأكيد، فنحن “مراقب سكك حديد” ولسنا مناضلين نريد تغيير الواقع. ويهمنا أن يصل القطار الذي تقوده البرجوازية، لا أن نغامر نحن في التفكير في قيادة القاطرة وإيصالها إلى المحطة سالمة!
هذا الخضوع للحركة الموضوعية (والمشكلة أنها ليست حركة موضوعية سوى في ذهن هؤلاء)، يفرض بالضرورة إدانة الإرادة، والفعل الذاتي للفرد أو الحزب أو النقابة، أو الطبقة. طبعاً هذا يؤسس لمنظور تكتيكي، ولفعل تكتيكي، لا يرتبط باستراتيجية تغيير، بالضبط لأن طرح ضرورة استراتيجية التغيير يعني إدخال الإرادة في الحركة الموضوعية، وهذه إرادوية.
كل ذلك هو جزء من وعي هؤلاء الشيوعيين الذين صبّوا جام غضبهم على إرادوية لينين. بالتالي فقد كانوا بلا إرادة أصلاً، ومن الطبيعي أن يكرروا نقد الأممية الثانية للينين، بالضبط لأن له إرادة، هي إرادة التغيير وليس التساوق مع حركة الواقع كما تجري دون أن نوظّف وعينا وقدراتنا التنظيمية من أجل تحوّلها إلى تكوين نوعي قادر على التغيير.
إن “فشل” الاشتراكية أعاد الوعي الكامن لدى هؤلاء، فباتوا يرون ثورة أكتوبر انطلاقاً من وعيهم الذي استمدوه من “الماركسية السوفيتية”، لهذا انقلبوا عليها، وباتوا يشهّرون بها. طبعاً بالنسبة لي الاشتراكية انهارت، وإذا أردنا التدقيق نقول أنها فشلت في تهيئة الظروف للانتقال إلى مرحلة أعلى في صيرورة التطور، لكنها حققت تطوراً مهماً في بنية المجتمعات التي انتصرت فيها، في بناء الصناعة وتطوير الوعي ونقل الوعي المجتمعي من وعي قروسطي إلى وعي حديث، أسس لرفض الاغتراب الذي أوجدته النظم الاشتراكية، وعبّر عن فردية حديثة، وميل للحرية والديمقراطية. بمعنى أن ثورة أكتوبر قد حققت، على الأقل، ما حققته البرجوازية الأوروبية من تغيير وتطور في البنى المجتمعية وفي الوعي.