حين أعود إلى بعض ردودي السابقة على المتابعين لحسابي على موقع “الفيسبوك” أرى بها كثير من الفذلكة والنرجسية العالية، والتي تتصنع حالة ولا تعبر عن مشاعر صادقة، وأرتاح قليلاً لأن الأمر يقتصر على بعض الرسائل، ولا يمتد إلى منشوراتي على “الفيسبوك” وإلى كتاباتي أو على الأقل التي أنشرها في الوقت الحالي، فبالتأكيد أصابتني هذه اللوثة في فترة ما.
مجتمع اليوم ليس الذي عرفناه سابقاً في كتب التربية الوطنية والاجتماعية والذي هو عبارة عن مجموعةٍ من الأفراد يقطنون رقعةً جغرافيّة معينة، وتجمع بينهم روابط معينة، فقد أصبح هو ذاك الشارع الأزرق “الفيسبوك” الذي يخترع الوسائل لتضخيم ذاتك أكثر وأكثر لتصبح بيئتك مرآوية بكل ما للكلمة من دلالات “فأنا وأنا ثم أنا”.
فهو ليس فقط كتاب لوجهك واسمك، ما يجعله أقرب إلى الهوية الإلكترونية الفريدة التي تدغدغ ذاتك ونرجسيتها، بل يعطيك الفرصة لتعبّر عن أفكارك بالكلمات، ويتيح لك بث فيديوهات مباشرة لتصور “أناك” وحدك؛ تغنّي أو تنصح وقد تحرّض وربما ترقص وقد تكون تتظاهر وسط المئات، وكذلك يعظم حروفك بالبنط العريض، ويضع لها خلفية لونية فتعتقد أن لك منبراً وأنك أهلٌ له، بل إن فلسفة “الفيسبوك” القائمة على إشارات الإعجاب والتعليقات والتفاعل هي جزء كبير من التأليه، فكل ما زاد هذا العدد تزيد أهميتك بغض النظر عن المضمون وبغض النظر عن المنتقدين فدائماً هناك من يطرون عليك، وبذلك تصبح قيمتك طردية بحسب عدد اللايكات والمتابعين.
إن السوشيال ميديا الحديثة بنيت على “الإيجو” الخاص بكل شخص، وبذلك أنت تعبد ذاتك، وكل آخر أيضاً يعبد ذاته ولو عنده “لايكان” فقط، لكن هناك المحظوظ الذي يصبح صنماً وله مئات المُليّكين والمعلّقين، وربما هناك من يستحق ذلك، إلا أنه غدا بالنهاية صنماً في العالم الأزرق، وهناك غير المحظوظ الذي ليس له متابعين كثراً وربما يستحق أن يكون صنماً، وربما الأمر لا يؤثر عليه في النهاية.
بيد أن هذا العالم ما يلبث أن يحطم الأصنام، فهو بُني أيضاً على المراقبة اللحظية والمشاهدة من قبل مئات الأمزجة المتنوعة، وهذا التنوع هو الذي رمى بذرة الشك في كون محاولة اغتيال محمد بايزيد خدعة، لكن بالأساس النرجسية العالية وتأكده من صنميته جعلته يخوض في هذه الخدعة منذ البداية.
ليس هناك مقدس على “السوشيال ميديا” لأن قوة صراحتها واستحضارها الآني تفوق حتى أرضية بعض الشخصيات الكبيرة فكاتب وأكاديمي كطارق رمضان تهشمت صورته في ثوان بعد انتشار هشتاج “أنا أيضاً” والذي يتحدث عن حوادث تحرش واغتصاب بعد اتهامه من قبل عدة نساء بالتحرش والاغتصاب، ومن ثم تقديم بلاغات بحقه لدى الشرطة في فرنسا وسويسرا.
إن السوشيال ميديا لا تكمن قوتها في لحظيتها المكثفة بل أيضاً في العدوى التي تتركها عند الآخرين للمشاركة، وكأنها تراتيل كنسية يرددها الجميع، أو كلمة “آمين” جماعية لكن هذه المرة في وسم “هشتاج”، نعم أصبح لوسائل التواصل الاجتماعي قوة “الدين” وتأثيره.
ومع كل ذلك فإنه من الصعب أن يفلت منشور أو صورة أو فيديو أو فكرة من الانتقاد، لذلك إن السوشيال ميديا تهدم بثوانٍ ما يبنيه الغير، وهذا ما يجعل هذا العالم لا يُمل، ولكن إلى متى يستمر هذا الديالكتيك؟!
يوماً ما، كنتُ أيضاً كهؤلاء المرآويين أرى “الفيسبوك” مرآة مضخمة للذات، كنت أحد هؤلاء ممن لا يشاركون إلا كتاباتهم، وعباراتهم ويمدحون تجاربهم، ويتصورون مع قهوتهم وكتبهم، لكنك سرعان ما تكبر وتعرف أن هذا المكان ليس أكثر من ممر لطيف ليومياتك لا أكثر ولا أقل. لن يتغير العالم عبره كما كنت أعتقد في عامي 2010 و2011 وما قبلهما، خاصة حين أصبحت لدي عائلة، وأصبح كل ما أتمناه التقاط صورة لطيفة لأطفالي أضعها على الفيسبوك، فهذا ليس مكان الأفكار الكبيرة والتغيير.
لقد أردنا أن لا نشبه آباءنا وأجدادنا؛ بأن نصنع نحن التغيير ولا ننتظره، وكانت تلك النافذة الزرقاء وسيلة وهدفاً ليصبح الخاص عاماً، والأنا مجموع، انفتحنا على البوح، وعلى الأفكار وعلى الإيمان بالتغيير حتى أن الكلمات والأفكار والشعارات خرجت من جلودنا.
كنا كما لم نكن ولن نكون يوماً، عشنا ألقنا وألق اللحظة والتغيير ولكنها لم تكن سوى لحظة نسينا معها أن الثورات كانت دوماً وهماً، ربما أردنا أن ننسى ذلك. كنا ضحايا ثورات الربيع العربي ومقدساتها ومشاعرها في ذاك الوقت، اعتقدنا أننا سنغير العالم وقتذاك، وأشفق على الجيل الجديد الذي يخرج ليعيد التجربة من جديد. حين يذكرني الفيسبوك بمنشوراتي في ذاك الوقت أضحك على وهمي، فمن أين جاءت لي كل تلك الثقة أني مؤثرة وأن أفكاري وأفكار جيلي ستغير العالم.
الربيع العربي كان شبابنا وحبنا الأول وحتى الحب الذي كان يمر بجانبنا ولم ننتبه إليه، وكتابتنا الحقيقية التي لن تتكرر مرة أخرى، كنا ضحايا مشاعر كبيرة، ضحايا ذواتنا وشخوص تعرفنا عليها عبر هذا العالم الثوري من الأفكار والسوشيال ميديا وكان كل شيء يبدو صحيحاً. حين أتأمل قليلاً أيقن أن الحياة لا تبنى أو تتغير أبداً من “الفيسبوك”، بل من البدايات العادية ومكانها الطبيعي الشارع والجامعة والمدرسة والحارة ومقرات الفكر والمؤسسات.
إن ما كان ينقص ثوراتنا ليست الإيديولوجيا بل الوسيلة الواقعية، لنتبين اليوم كم كنا على وهم؛ الوهم العام أولاً ثم الوهم الشخصي، لتصحو على نفسك وقد وجدت حياتك فوضى حقيقية، أما السياسة فقد غدت أكثر قذارة من أي وقت مضى. كنا جماعات… أجيال كاملة آمنت بالتغيير، وصلت إلى الأرض، تظاهرت، غيرت.. كنا لحم حي على الإسفلت، نسأل ونطالب ونؤمن ونصر، ولكن فجأة كل شيء توقف عن الحركة.
من الصعب اليوم أن نعترف بأننا نكره ما كنا نحب، بأن ننبذ مقدسنا الذي أوجدناه لأنفسنا، وكأننا كنا عاجزين وقتها أن نرى ما نراه اليوم. خاصمتُ الكتابة والسوشيال ميديا؛ هجرت مدونتي، أغلقت حسابي على تويتر نهائياً، ودعت التدريب في التغيير والتدوين والإعلام الاجتماعي، لم أجرب يوماً الانستغرام أو السنابشات.
ركزت على العمل الصحافي، المهني، الخالي من الرأي، سحبت كل مخالبي السياسية والاجتماعية، أردت أن أكون صحافية فقط، لقد كنت بحاجة إلى ذلك.. لم أعد أريد شيئاً، الإحباط أكلني، عرفت مبكراً أن ما يحدث لا طائل منه، حتى الصحافة الثقافية ودعتها باعتبارها منبراً آخر لحديث الذات والأدب، فتوقفت عن كل شيء إلا التقارير الصحافية.
وكنت محظوظة فقد أعطتني الصحافة قدرا هائلا من التركيز.
تعمدت تحطيم كل الفخر الذاتي ولا أزال بمنشورات وأفكار للاستهلاك “الفيسبوكي” ومشاركات لآخرين، واستمر قراري بعدم خدش جرح الكتابة الذاتية، وواستني قليلاً الكتابة في السينما. حتى أنني الآن أكتب وأمسح فأنا أقاوم الإخلاص التام للكتابة عن أزمتي مع الكتابة وذاكرتي في تلك الأيام، أو كما تقول الكاتبة سفيتلانا اليكسييفيتش “ذاكرتنا ليست أداة مثالية فهي ليست تعسفية فحسب بل ومزاجية متقلبة، إنها لا تزال مربوطة بالقيد كالكلب”.
إلا أن الكتابة تبقى تتحدانا طوال الوقت، فهي ليس ذلك العضو الذي يضمر إذا لم تستخدمه، بل هي تماماً مثل “فانتوم الألم” أو وهم الأطراف، تشعر أنها موجودة على الدوام حتى لو تم بترها. لتأتي وسط كل هذا، ووسط تركي لغزة، واغترابي التام وعزلتي عن كل الماضي رسالة من الكاتب سليم البيك تبدو أنها مرسلة إلى مجموعة من الكُتاب تدعو إلى استكتابنا في مجلة “رمان الثقافية”.
لم أعر الأمر اهتماماً في البداية، وأرسلت تقريراً صحافياً لأني مصرة أن أبتعد عن الكتابة الذاتية والثقافية، فجاء رده “بدنا مقالات يا أسماء مش تقارير” تجاهلت رده، وأرسلت تقريراً آخر، فلا أريد اجتراح الألم، لكنه طلب مني مصراً مقالاً ضمن زاوية ثابتة، ولا أعلم من أين أتت له هذه الثقة بكاتب يهرب خائفاً من الكتابة، ولكن هذا ما حدث.
الآن أكتب بشكل منتظم في زاويتي بمجلة رمان “غزة وأشياء أخرى”، وأبعدت عني التقارير الصحافية إلى حد ما، وكان أول مقال لي “غزة السوبرمان”، وتوالت بعدها المقالات التي عبرت عن كثير من المشاعر والأفكار التي كنت أبتلعها بصمت الأعوام الأخيرة.
يا للهول! إنني أعود إلى “الإيجو” مرة أخرى في هذا المقال، يبدو أنه بالفعل حبكتنا الأولى والأخيرة، ولكن ليس سوى لأحتفي بمرور عام على عودة مجلة رمان الثقافية، وعودتي إلى الكتابة الذاتية بعد غياب متعمد طويل.
ليست وحدها الحياة مليئة بالمفاجآت، بل على الدوام لا نعرف ماذا تخبئ لنا الكتابة فهي أيضاً مليئة بالمفاجآت، وحين ننظر إلى الماضي نشعر أنه كان ابن اليوم، أي وقع ليحدث ما يحدث معنا الآن، أو كما تقول سفيتلانا مرة أخرى “إننا ننظر إلى الأمس من اليوم، لا يمكن أن ننظر إليه دون زمن”.
إن الحياة هي فعل نُجبر عليه كل يوم، ربما يتكثف في الموت والمواليد، وتصبح معها الكتابة كائناً متربصاً كما الحرب تماماً، استحقاق للعيش.
هو كذلك أيضاً الشارع الأزرق إنه حدث مكثف من الحياة “أخبار وجرائم ومهاجرين وخيبات وصور زفاف” لكن لا شيء تغير فيها، بل فقط أصبح لها مرآة، بالضبط كما ذاتك، فأنت هو أنت بضعفك وخوفك وشجاعتك لكن هناك إطار إلكتروني يحيط بوجهك وحدك اسمه “فيسبوك”.