حين انطلقت الثورة الفلسطينية كانت فلسطين من البحر إلى النهر، والـ 27 ألف كيلو متر مربع، لكننا اليوم في فلسطين أخرى، حيث أن مبادئ الثورة تلك لم تصمد سوى سنوات قليلة، ومن ثم أخذ التراجع مداه منذ ما بعد حرب أكتوبر سنة 1973. فقد بدأ التراجع تحت شعار إقامة سلطة فلسطينية على أي أرض يتم تحريرها كما ورد في برنامج النقاط العشر الذي قرّره المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1974. لكنه تسارع بعدها في النقاط الخمس عشرة، ثم في إقرار إقامة الدولة الفلسطينية على حدود سنة 1967، وصولاً إلى بيان الاستقلال الذي يقرّر حل الدولتين، حيث تكون الدولة الصهيونية على 78% من أرض فلسطين، وتُقام الدولة الفلسطينية على 22%.
كانت المراهنات في تحقيق هذا الحل تنطلق من موازين القوى على الصعيد الدولي، ثم على الضغط العربي على أميركا، لكن لم يتحقق شيء لا في ظل وجود وضع دولي داعم للقضية الفلسطينية، ولا في ظل اختلال ميزان القوى وتحكّم أميركا بالوضع الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ولا شك في أننا في لحظة نهاية حلّ الدولتين، وتوضّح بأن الدولة الصهيونية لا تتنازل عن أي شبر من “أرض إسرائيل“.
كل ذلك يتعلق بالتكتيك السياسي، أو أنه كان يوضع تحت بند التكتيك السياسي، لكن التكتيك السياسي بات أبعد من أن يكون كذلك، حيث انعكس الأمر على بنية وعي، ومنظور بات يرى أن فلسطين هي فقط الضفة الغربية وقطاع غزة. بهذا تقزمت فلسطين إلى مساحة ضئيلة من فلسطين الأصلية. المشكلة أن ما كان يعتبر تكتيكاً سياسياً بات أيديولوجية، وهوية، ومنظوراً. فلم تعد فلسطين من البحر إلى النهر بل باتت هي الضفة الغربية وقطاع غزة. وبات الفلسطيني يتحدث عن “عرب إسرائيل”، أي عن هؤلاء الفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين بعد قيام دولة الاحتلال. ربما هذا هو أخطر ما حدث منذ برنامج النقاط العشر وكل ما تلاه من برامج تلخصت في بيان الاستقلال المقر في المجلس الوطني سنة 1988، والذي يعترف بالدولة الصهيونية على حدود سنة 1967، وتكريساً لذلك في اتفاق أوسلو الذي “أعطى الأمل” في الوصول إلى “الدولة المستقلة وعاصمتها القدس” رغم أنه كان اتفاق “إدارة ذاتية” لمناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، على أمل أن يبدأ نقاش الحل النهائي بعد خمس سنوات من توقيعه. وهذا هو الأمر الذي أوجد الوهم بقرب قيام الدولة الفلسطينية، وبالتالي بات يجري تكييف الوعي بما يجعل فلسطين هي هذه المنطقة منها فقط.
لقد باتت السلطة هي المؤسّس لوعي يعيد بناء الجغرافيا السياسية لفلسطين في حدود الأرض المحتلة سنة 1967، وأصبحت المصالح التي تحققها لفئة فلسطينية مدخل تقزيم فلسطين إلى نسبة 22% منها، وربما سيكون الأمر أسوأ. هذا الوعي بات هو الذي يحكم كل الفصائل الفلسطينية والكثير من النخب، وبات الأمر بالنسبة لكل هؤلاء يتمثل في كيف تقوم الدولة على هذه المساحة من أرض فلسطين، دون التفات إلى فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948، أو حتى إلى اللاجئين. فقد أصبحت المسألة هي مسألة “الاستقلال” و”قيام الدولة” في هذه الأرض القليلة من فلسطين.
ربما نلمس أن فصاماً يحكم البعض، حيث ينطلق من “النضال” من أجل “الدولة المستقلة وعاصمتها القدس”، ويشتغل ليل نهار على أساس ذلك، ويحصر نشاطه في حدودها، لكنه يدعي أنه يريد تحرير فلسطين. كيف يمكن الإدعاء بالسعي لتحرير فلسطين وفي الوقت ذاته الاعتراف بالدولة الصهيونية؟ إن من وافق على بيان الاستقلال أنهى علاقته بتحرير فلسطين، وحصر مجهوده في جزء منها هو الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا يظهر واضحاً من خلال الوجود التنظيمي، والنشاط العملي. بالتالي سيظهر القول بتحرير فلسطين كإدعاء ليس غير، وكتغطية على سياسة فرّطت بالجزء الأكبر من فلسطين. وبهذا فهي تتساوق مع المنظور العام الذي قلّص فلسطين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
ما عنيته هنا هو أن الوعي الذي بات يحكم النخب السياسية الفلسطينية على العموم قد تكيف مع واقعة أن فلسطين هي هذه الأرض التي جرى احتلالها سنة 1967، وأن فلسطين الأخرى في أرض سنة 1947 وفي الشتات هي أمر آخر. أمر يتعلق إما بكونهم جزءٌ من “دولة إسرائيل” أو هم في الشتات الذي يبتلعهم.
هذا هو المتخيل الفلسطيني الراهن، لهذا سيبدو كل طرح يهدف إلى إعادة بناء الأسس بالعودة إلى البديهيات مربكاً، لأنه مناقض لوعي تأسس مع نشوء السلطة، وارتبط بها، وبالتالي ارتبط بمصالح نشأت عن وجودها. إن كل استعادة إلى فلسطين التاريخية تفكك هذا المتخيل الذي يجري الظن أنه واقع، ونهائي. ويجري إظهار مدى التنازل الذي حاق بفلسطين، وترسخ في وعي تلك النخب. فكيف يمكن أن تقبل بمنطق يتعمم يحطّم متخيلاً يجري الظن أنه واقع؟ إن الحديث عن فلسطين التاريخية هو الكابوس الذي يحطّ فجأة على رأس كل هؤلاء، لهذا تنفتح أبواق الردح، ويعاد الخطاب الذي مرّر التنازل عن فلسطين، والقائم على ذكر الواقعية والوضع الدولي والقبول العالمي، وفي المقابل الشطط والتطرف والأوهام.
إن مقاومة فكرة فلسطين دولة علمانية ديمقراطية واحدة تنبع من هذا الأساس، رغم أن هناك من يقلب الحقائق فيشير إلى أن هذا الطرح يمثل تنازلاً للصهاينة، ويحاول تعميم أن ما هو مطروح مطروح ضمن دولة إسرائيل. ففلسطين بالنسبة له هي الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي فإن الدعوة لدولة واحدة تعني “دولة إسرائيل” وأن الأمر يتعلق بأن تكون علمانية وديمقراطية. كل ذلك رغم أن كل ما نطرح ينطلق من أن تكون فلسطين التاريخية دولة علمانية ديمقراطية واحدة. إننا هنا أمام هجوم الفئات التي تكيفت مع أوسلو، والتي باتت تعتقد أنها سلطة فلسطينية، وأن فلسطين هي هذه التي يحددها اتفاق أوسلو.
نحن نعود إلى “الأصل”، إلى فلسطين التاريخية، وهذا يناقض بالطبع الوعي الذي يحصر فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي السلطة التي يطمح أصحابها إلى تحويلها إلى دولة. نعود إلى كل فلسطين، وإلى كل الشعب الفلسطيني، ونؤسس على ذلك الحل الذي هو دولة علمانية ديمقراطية واحدة، تستوعب من استوطنها، لكن ليس على حساب حقوق السكان الأصليين.
إننا، ونحن نسعى إلى ذلك، لا بد من أن نفكك الوعي الذي قزّم فلسطين، وقبل بسلطة تحت الاحتلال. وبالتالي لا بد من أن نفكك كل المسار الذي بدأ بالنقاط العشر وانتهى بأوسلو. ولقد كان حتمياً وصوله إلى هذه المحطة. ووصوله إلى النهاية المفجعة التي ظهرت، والقائمة على ما بات يعرف بـ “صفقة القرن”، حيث فلسطين هي إسرائيل، وحيث أن لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة شكل حكم ذاتي يجعلهم خارج تكوين الدولة الصهيونية السياسي. وهذا شكل ما من نظام الأبارتهايد، حيث يفصل السكان في هذه المناطق عن بنية الدولة، بما يجعلهم خارجها سياسياً رغم وجودهم على “أرضها” كما تقرر هي.
هذه النهاية المفجعة يجب أن تفرض إعادة بناء الوعي الفلسطيني انطلاقاً من حدود فلسطين التاريخية، وبسكانها قبل النكبة.