إن فيلم إيليا سليمان الأخير «إن شئت كما في السماء» الذي عُرض في مهرجان كان السينمائي في دورته الثانية والسبعين، يتجاوز هذه المرة الحديث عن فلسطين بمكانها الجغرافي، بل يبحث عنها في العالم، ليرى فلسطين متعددة، والفلسطيني الذي ما هو إلا مواطن عالمي، غريب كالغرباء في نيويورك، مريض لا يجد علاجه كالمتشردين في فرنسا، جماعة مضطهَدة كما في مدينته الناصرة، وذلك دون ديباجات مرصوفة.
ولا تغيب فلسطين كجغرافيا بالكامل بل هي منطلقه، رحلته الأولى وعودته أيضاً، هويته التي يصر على تقديمها مرة بالشكل الكلاسيكي، وأخرى بسياق مجنون؛ عبر مشاهد تتمثل فيها الهوية بكامل ألقها أو غموضها، وكامل الهروب منها أيضاً؛ إما عبر التاريخ أو الفانتازيا أو تكرار سردية الصورة أو اختزال المعاني السياسية في الكوميديا، ويمكن تفسير هذه المَشاهد في حاضر اللحظة بحسب ما تثير لدى المتلقي من معادل موضوعي لأفكار في ذهنه.
فهو لم يؤطر حكاية في حوارات مكتوبة، كما لم يجعل هناك بداية للحبكة ونهاية، ولم يحشرك في غرفة انتظار حل العقدة وتحول الشخصيات، بل أخذك معه في فضاء رمزيته المتواصلة وشخصياته الصامتة وسخريته القاتمة، وبحضوره الواقف دائماً، المندهش المنتظر للحياة أن تمر، دون سلطة عليك أو ادعاء المعرفة، فتحكم بنفسك على ما حاول أن يقوله منذ أول ثلاثيته «سجل اختفاء» 1996، و«يد إلهية» 2002، و«الزمن الباقي» 2009، والآن «إن شئت كما في السماء» 2019، بعد عشرة أعوام كأنها لم تمر، وكأنه لم يغب أبداً، فسرعان ما احتل مكاناً في الحضور السينمائي وفي الإعلام العالمي، لتمر صوره بين عُمرٍ وآخر بتلك العينين كاملتي الحزن، وابتسامة مهرج ومؤخراً قبعته.
يترك الناصرة وحيفا والقدس بعد ثلاثيته السينمائية، وتغادر كاميرته لأول مرة فلسطين إلى مدن أخرى عاش فيها وبقت في ذاكرته، أو لا يزال يقيم بها، فهو يلخص عشرة سنوات انتظار منذ فيلمه الأخير عام 2009؛ التقى خلالها مع منتجين ومدراء شركات للبحث عن إنتاج لفيلمه الجديد، ويسجل بعض لحظات “الستريو تايبنج” التي يواجهها وهو يبحث عن تمويل لفيلم يخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ فيرد عليه أحدهم ” لن ينجح تجارياً”، ويعلق آخر “يجب أن يكون مضحكاً”.
كما يرثي سليمان عمره في هذا الفيلم بطريقة أو بأخرى، كأنه يقول لم يتبقَ شيء من الزمن الباقي، الذي أعلن عنه قبل عشر سنوات، فقد اشتعل الرأس شيباً، ومع ذلك فإن ملامح الدهشة الطفولية وهو يراقب مدينته مستمرة، فهو لم يتعود بعد كل هذه السنوات على “الفانتازيا” الخاصة بأهلها، و الــ”باردوكس” الذي يعشش في تفاصيلها وقد تجاوز أي محاولة سينمائية قد تفسره، لذلك ينقله كما هو بكل ما فيه من كوميديا سوداء.
تستطيع أن تشعر أن سليمان ما يزال تائهاً في هذا العالم، يريد أن يحدد رؤيته، وهنا مكمن الشغف بأفلامه فهو لم يكن يوماً متأكداً من شيء، ليس صاحب يقين، ربما تكون الكلمات التي يقولها للسائق في نيويورك “أنا من الناصرة”، ويتبعها “فلسطيني” هي يقينه الوحيد المتبقي وسط عبثه في العالم وعبث العالم به.
بين نيويورك وباريس والناصرة، يلخص رؤيته للمدن باختصار في لوحات منفصلة حاسمة كما عادته، أو ممكن تسميتها بالمشاهد المنعزلة، ويقدمها في فيلمه الجديد بأفكار كررها في أفلامه السابقة ولكن في سياق ذاتي وزماني مغاير؛ الرجال الراكضون، الرجال الغاضبون، فقرة الإمبريالية الأمريكية، الديسكو، الكنيسة، والمنزل ذاته والمقهى كذلك في أفلامه الأربعة، وهناك سيارة الأجرة تحت المطر، غباء رجال الأمن، بعض الممثلين دائمي الظهور من عائلته وأصدقائه الحقيقيين، السُياح، الجار المؤذي.
ومن هنا نستطيع القول إنه كان يؤسس في فيلمه الأول «سجل اختفاء» لعدد الرموز ومكونات الصورة السينمائية والأفكار التي ستتكرر لاحقا في فيلمي «يد إلهية» و«الزمن الباقي» و«إن شئت كما في السماء»، ولكن هذا التأسيس أصبح يتمتع بهذه الصفة بوقت لاحق حين تم صنع ثلاثة الأفلام الأخرى، وربما هنا تكمن رحلة العودة إلى البداية وأنت تشاهد فيلمه الأخير، حين يأخذك كل شيء إلى سرديته الذاتية الأولى.
وقد صنع سليمان الجزء الأول وهو يدرك إلى حد ما؛ بأنه سيكون بداية سلسة أفلام العودة إلى مدينته وأنه في آخر واحد فيها لم يكن هناك أي أم أو أب، بل هو فقط، فقد مشي الزمن وابتلع الجميع، بالتأكيد لم يكن يعرف كل الخطة وماذا سيؤدي إلى ماذا، وبماذا سيحتفظ أو يُلقي وماذا سيكرر، لكنه كان يعرف على الأقل أنها ستكون حكايته هو، وأن ذاته “أيضاً بفيزيائها وإنسانها” الرابط الأساسي بين هذه الأفلام، فعلى الرغم من التبعثر الكبير والمستوعب داخل الجزء الأول، إلا أنها تبقى حكاية هذا الشاب الذي عاد من الغربة ليصنع فيلماً فيقضي وقته يراقب تفاصيل مدينته، ويجلس مع صديقه بائع التحف، وهو الآن في فيلمه الأخير يعود إلى الغربة كي ينتج ذات الفيلم الذي لم يصنعه أبداً.
وفي أحد مشاهد فيلم «سجل اختفاء» حين يهم إيليا بالمشاركة في الندوة، ويقدمه عريفها بالقول: “معنا المخرج السينمائي إيليا سليمان، العائد من منفاه الاختياري في نيويورك، وقد اختار الوطن موقعاً لتصوير فيلمه الجديد عن السلام، سيحدثنا عن حبكة الفيلم وأساليب السرد التي سينتهجها، وبعض الشيء عن خصوصية اللغة السينمائية في هذا الفيلم الجديد”، وحينها يقف إيليا ليهم بالحديث لكن لا يستمع إليه أحد، كأنه غير مرئي، ويبدأ الأطفال الذين بصحبة ذويهم بالصراخ والهواتف النقالة ترن، وفوق كل ذلك “فالميكرفون” لا يعمل، فلا يتكلم إيليا، ويكون المشهد الوحيد الذي يعطي أملاً بأن إيليا سيكسر الصمت، لا يحدث إطلاقاً بل يتمدد الصمت الفادح على طول 23 عاماً حتى يرد على سائق التاكسي: “من الناصرة..فلسطيني”.
كما يهيمن الصمت في ثاني رباعيته «يد إلهية»؛ حين يلتقي بحبيبته على الحاجز وتحل الأصابع محل اللسان، في التعبير! ثم يأتي المشهد الأكثر شهرة والمتفجر أنوثة حين تقطع فتاة سمراء ممشوقة القوام حاجزاً إسرائيلياً مشياً على الأقدام أمام دهشة الجنود وصمتهم، ويعبر حينها البالون المطبوعة عليه صورة عرفات، الحاجز، ويصل إلى القدس المحتلة.
إلا أن هذه الأنوثة ومآلاتها ليست ذاتها في باريس مع تلك التنانير القصيرة والأنيقة، وليست وحدها الأنوثة التي تتبدل بل حتى عودته إلى الوطن تصبح عكسية أي خروجاً منه، فحين يعلق في الجزء الأخير من «الزمن الباقي» في التاكسي تحت المطر مع سائق نائم يكون قادماً من المطار لزيارة والدته المريضة، نجده هذه المرة يغادر مدينته في رحلة إلى البداية حيث يريد أن يصنع فيلمه من جديد، ويعود إلى التاكسي وحبات المطر.
كـأن كل شيء يتحرك في أفلامه لكنها حقيقة الأمر ثابتة بل هو ما يزال ذات الطفل من فيلم «الزمن الباقي» الذي يقرّعه مدير المدرسية “مين قلك أنه أمريكا كولنيالية؟ تعرف هذا الحكي ما بنحكاش في الصف”، وتكون ساحة المدرسة خالية إلا من الزينة البيضاء والزرقاء، وفي مشهد لاحق، يسأل المدير الطفل إيليا مرة أخرى “مين قال لك إنه أمريكا إمبريالية؟ بتعرف هذا الحكي بنحكاش في الصف”، وهذه المرة تكون الساحة ممتلئة بالأطفال ولكن الجميع في حركة متجمدة، ما يعبر عن الكثير من ملامح المستقبل القادم.
كما يأتي الثبات من كونه ذات الشاب الحزين، الذي جلس مع صديقه بائع الجِمال الخشبية قبل عقدين في «سجل اختفاء» حيث صوّر فيلماً فوق فيلم آخر، فقد عاد من أمريكا ليصنع فيلمه الوثائقي وقابل من أجله الأب في الكنيسة، وأحد الكُتاب على هاش يوميات مدينته، فيلماً عن السلام، ثم أصبح فيلماً كوميدياً عن الصراع مع الاحتلال، واليوم أيضاً يصور فيلماً فوق فيلمه الآخر الذي لم يره أحد، بل لا بد أنه كان يشبه الجنة التي في السماء أو ما يشاء أبانا الذي في السماء.
“رحلة نحو البداية” عنوان كتاب للمفكر كولن ولسون عن سيرة حياته.