ورث آلان غريش الذي ولد في القاهرة عام 1948 حبه لسياسة الشرق الأوسط عن والده هنري كوريل “1914، 1978″ اليهودي المصري الفرنسي الشيوعي الذي أسس في مصر الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني” حدتو”، كما كان من مؤسسي الحزب الشيوعي المصري، وهاجر إلى باريس سنة 1951 واغتيل فيها بتاريخ 4 مايو 1978.
يحمل آلان صفات أخرى عن والده كنزوعه إلى الهدوء والدفاع عن الأقليات والمظلومين واهتمامه بالكتابة، واستطاع على الرغم من كل هذا التشابه حتى في ملامح وجهه أن يشق لنفسه طريقاً متفرداً كصحافي ومفكر يؤرقه الشرق الأوسط، خاصة فلسطين.
وكانت بداية هذا الاهتمام برسالة الدكتوراه التي كتبها عن منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم كتب العديد من المقالات منتقداً ظاهرة “الإسلام فوبيا”، وكان معلقاً حكيماً خلال أحداث الربيع العربي. وبقي لمدة عقد من الزمان رئيس التحرير في “اللموند ديبلوماتيك” إلى أن تقاعد عام 2015 ثم أسس موقع Orient XXI السياسي الصحافي الذي ينشر المقالات والتقارير بعدة لغات.
وهذا حوارنا معه حول “صفقة القرن” والقضية الفلسطينية اليوم…
الفلسطينيون الآن بلا أرض ولا مال ولا أمل… فما هو السلام الذي نتحدث عنه أو الحل القادم؟
في الوقت الحالي من الصعب رؤية أي أمل بالمعنى السياسي، فالقضية تمر بمرحلة صعبة، هناك فقط حديث عن “صفقة القرن” وتحرك دبلوماسي بخصوصها، ومن الصعب فتح مرحلة جديدة في اتفاقية أوسلو التي انتهت دون بديل، ولن تكون صفقة القرن بديلاً عنها.
هناك مأزق حقيقي، وفي ذات الوقت إذا أخدنا ما حصل تاريخياً منذ 1967، فمن الواضح أن المشروع الصهيوني تحصّل على إنجازات كبيرة على الأرض، خاصة بعد اتفاقية أوسلو في الساحة العالمية، واحدة من هذه الإنجازات هو فتح أبوابٍ في العالم العربي وإفريقيا لإسرائيل، لكن في نفس الوقت، نجد على الأرض “جانبين” إذا صح التعبير، قد يعطي أحدهما أملاً تاريخياً على الأقل؛ الجانب الأول يتعلق بالفكرة الصهيونية القديمة التي ترغب بالتخلص من الفلسطينيين والفخورة بما حدث في عاميّ 1948 و1967، لكن هناك جانبٌ آخر يعي بأن نصف السكان على أرض فلسطين التاريخية هم من الفلسطينيين والنصف الآخر من اليهود وهذا دون التحدث عن اللاجئين بعد!
إذن السياسة الصهيونية أمام مأزق لا تعرف حله، لذلك فهي أمام خيارين؛ إما حل الدولتين، والآن لدينا الفلسطينيين واليهود على الأرض ويجب أن نقسمها بينهم، ومن الواضح أنه مستحيل وصعب جداً مع المستوطنات، أما الحل الآخر فهو حل الدولة الواحدة الذي تغدو على الأرض حقيقية أكثر وأكثر، بيد أن هذا الحل هو مشكلة كبيرة للإسرائيليين أيضاً، فإسرائيل ليست دولة ديمقراطية بل من الممكن أن نسمّيها دولة “أبارتهايد”، فعلى ذات الأرض، ضمن دولة إسرائيل، يعيش شعبان واحد لديه حقوق والآخر دون حقوق.
ومن هنا تتطور حركة التضامن العالمية مع القضية الفلسطينية، ما يعطي أملاً للفلسطينيين، كما تتطور حركات ذات التأثير العالمي مثل “بي دي إس” وغيرها، ويصبح لدى الشعب الفلسطيني قوة تأييد عالمية، فالقضية الفلسطينية هي القضية التي من الممكن أن نرى لأجلها مظاهرات تضامنية في آسيا وأمريكا اللاتينية، وأوروبا، وهذا سيتطور أكثر وأكثر لأنه من الواضح لجزء من الرأي العام العالمي، أن هناك حكومة إسرائيلية لا تريد سلام وتطبق على الأرض سياسات “أبارتهايد”.
قلت أن المشروع الصهيوني تحصّل على إنجازات كبيرة على الأرض، خاصة بعد اتفاقية أوسلو مثل فتح أبواب في العالم العربي وأفريقيا للاعتراف به، مع ذلك هناك عوامل كثيرة أضعفت من إسرائيل، ولا تستجمع قواها إلا في في الحديث عن الحرب مع إيران… هل توافقني الرأي؟
هي ضعيفة الآن صحيح، لكن ليس من الأكيد أنها تريد حرباً مع إيران، هي تريد أزمة مستمرة مع إيران ووجود خطر إيراني، قبل ذلك كان الخطر عراقياً، وقبله كان مصرياً. إسرائيل دولة ليس من الممكن أن تعيش من غير عدو، والعدو يعني أخيراً توحيد الرأي الإسرائيلي الداخلي وتأييد أمريكي وغربي.
أما كونها ضعيفة فهذا يأتي من الضعف الداخلي، وخلال فترات الستينات والسبعينات والثمانينات كان ممكناً أن نقول إنها دولة شبه ديمقراطية، تروّج نفسها للرأي العام، خاصة الغربي، بأنها ديمقراطية، حتى بالنسبة لمن يعرف أنها تمارس اضطهاداً ضد العرب، فقد كان لديها صحف حرة وأحزاب متعددة. لكن من الواضح أنه منذ عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يوجد هجوم كامل على الديمقراطية داخل إسرائيل وهذا يضعف الدولة بحكومتها، والضعف الداخلي كبير، خصوصاً حين يتردد صداه في الساحة العالمية كما حدث وقت الهجوم على المحكمة العليا الإسرائيلية، وعلى بعض المؤسسات كمؤسسة “كسر الصمت” ومنع أنشطتها.
كل عوامل الضعف الداخلية هذه، ألا تجعل الساسة في إسرائيل يقومون بمراجعات أو تقهقر للخلف إزاء سياساتها سواء المحلية أو الخارجية؟
طبعاً، نحن نمر في مرحلة انتقالية صعبة خصوصاً أن الساحة الفلسطينية منقسمة والقيادة الفلسطينية لا تحمل سياسة واضحة، و”حماس” كذلك ليس لها سياسة واضحة، وأقصد هنا بالسياسة الفكر الاستراتيجي. يجب أن نسأل أنفسنا ماذا نريد؟ وعدم الإجابة عن هذا السؤال يسبب ضعفاً كبيراً، ويقوي إسرائيل، فحتى الآن لا توجد استراتيجية واضحة للشعب الفلسطيني، بل هناك انقسامات داخلية تصل إلى حد العنف، وهذا خطير.
كما أن هنالك تناقضاً يجب أن نفهمه، فحتى لو كنا نقترب من حل دولة واحدة لشعبين، وأنا أفهم أن سياسة السلطة الفلسطينية يمكن انتقادها في كثير من الجوانب، لكن في النهاية هناك اعتراف دولي بحل الدولتين، وكون المستوطنات غير شرعية، والاعتراف بمنظمة التحرير في الأمم المتحدة، وواضح أن السلطة من الصعب أن تنزل للشارع وتقول يجب أن ينتهي كل هذا ونبدأ مرحلة جديدة.
فأنا أفهم هذا التناقض رغم أنني لا أحمل شيئاً إيجابياً نحو السلطة الفلسطينية، لكن يجب الاعتراف أن الشعب الفلسطيني كسب كثيراً بدوره منذ الستينات عبر الاعتراف بحقوقه خلال هذا الصراع، وإن قالت منظمة التحرير إنّها ستنهي أوسلو، وعلى كل حال أوسلو ماتت، وسنلغي حل الدولتين، فلن يكون هناك تأييد رسمي لأي فكرة جديدة.
أفهم أنه يجب أن نلعب على فكرتين، فمن ناحية لا يوجد حل دولتين ممكن على الأرض، وفي نفس الوقت جزء من خطابي الشخصي في فرنسا أني أسأل الحكومة الفرنسة عن دعمها لحل الدولتين؟ وماذا ستفعل ضد المستوطنات؟ وما الضغط الذي ستمارسه على إسرائيل حتى تغير سياساتها؟ أما إذا ذهبت إلى الحكومة الفرنسية وقلت يجب تأييد دولة واحدة سيكون ذلك من المستحيل، فهذه فكرة حساسة مهما عملت على الدفع باتجاهها، لذلك أعتقد أنه من المهم فهم التناقض في الحالة الفلسطينية.
ومرة أخرى، إذا توجهت السلطة أو منظمة التحرير إلى الأمم المتحدة، ما الذي ستقوله؟ أنا لا إجابة عندي، وهذه مسؤولية الفلسطينيين وليست مسؤوليتي، ونحن في مرحلة صعبة من تاريخ الشعب الفلسطيني، وعلى المدى المتوسط فإن الإسرائيليين لا حل لديهم، ما الذي سيفعلونه بخصوص ٦ أو ٨ ملايين فلسطيني داخل الأرض هنالك.
نرى ونسمع مؤخراً في ردود السلطة الوطنية الفلسطينية إزاء خطة الرئيس الأمريكي “للسلام” في الشرق الأوسط أو ما يعرف بـ “صفقة القرن”، موقفاً ثابتاً من الرفض القاطع لها، فكيف تراه؟
هو إيجابي بالتأكيد، وبالنسبة “لصفقة القرن” فلن يكون هناك أي شيء على الأرض، ولن يكون هناك تطبيق، ونشر الإعلام تسريباً صوتياً لوزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو توقع فيه فشل صفقة القرن، وأعتقد أنها فاشلة أساساً، ولا توجد حتى الآن فكرة واضحة عن كيفية تطبيقها على الأرض.
أعتبر المشكلة الأساسية في صفقة القرن أنها تغير المعايير، وأخشى أن يكون النقاش بعد ذلك حين يتم الحديث عن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين سيبدأ منها، وستكون حجر الأساس السياسي، وستُزال القواعد الأساسية للمفاوضات مثل قرارات مجلس الأمن السابقة، على الرغم من أنه لا يمكن لفلسطيني أن يوافق عليها، ومن الصعب فهم الإصرار عليها مع أنه من المستحيل تطبيقها.
هل تقصد أنها مجرد أسطورة؟
أسطورة ولكن لها وزن أيدلوجي وسياسي، وتعني أن الحكومة الأمريكية التي ستأتي بعد ترمب في حال فشل في الانتخابات القادمة، لن تبدأ من عند قرار مجلس الأمن 242 أو الاعتراف بحل الدولتين، بل سيتم تغيير معايير النقاش الدولي وهذا الخطر الأساسي، لذلك موقف السلطة الوطنية الفلسطينية يعتبر إيجابياً جداً. وحتى لو كانت هناك موافقة على الاقتراحات التي أتت بها صفقة القرن وأغلبها اقتصادي، لا ننسى أن الضفة الغربية يلزمها تطوير، والضفة لا يمكن أن تتطور تحت الاحتلال، وأي مشروع اقتصادي في الضفة يجب يكون في توافق مع السلطات الإسرائيلية التي من الواضح أنها لا تريد تطوراً اقتصادياً هناك.
واضح أن من كتب مشروع صفقة القرن ليس صهيونياً فقط، بل هم صهاينة يؤيدون المستوطنين، ومن الممكن أن نقول أن دينيس روس وهارون ميلر الذين كانا ضمن الحكومات الأمريكية السابقة، كانا صهاينة أيضاً، إلا أنهما كانا على الأقل يفهمان في مسائل العالم العربي والقضية الفلسطينية، إلا أن من كتبوا صفقة القرن الآن لا يعرفون شيئاً عن العالم العربي والفلسطيني، وسمعنا جميعنا جاريد كوشنير حين قال في مقابلة إن الفلسطينيين يستحقون تقرير المصير، ولكنه لم يصل إلى حد تأييد إقامة دولة فلسطينية. من الذي يمتلك الجرأة لتصريحات كهذه عن أي شعب في العالم منذ انتهاء الاستعمار!
ومن المهم تذكر أن أحد أسباب صفقة القرن كان إنشاء جبهة بين العرب وإسرائيل ضد اليمن، وطبعا كان هناك بعض القادة العرب وخصوصاً القيادة السعودية منفتحة على هذا الخيار، إلا أنني أعتقد أنها ستبقى أوهاماً في النهاية، ليس لأن محمد بن سليمان لا يريد اتفاقاً مع إسرائيل بل هو يريد ذلك، لكن لأنه صعب جداً لأي قائد عربي وخصوصاً في السعودية التي فيها “مكة والمدينة” أن يقول نعم نحن نؤيد دولة فلسطينية من غير القدس، ويوافق أن تبقى القدس تحت السيطرة الإسرائيلية للأبد.
لكن ألا تظن أنه من الممكن أن يحدث ذلك مقابل مزيد من محاربة أمريكا والعالم لإيران؟
نعم، هناك خوف من إيران من قبل السعوديين، والقيادة العربية عموماً منذ زمن بعيد، ولكن في نفس الوقت لن يذهب أي من هؤلاء القادة في العالم العربي أمام الرأي العام ويعلن تخليه عن فلسطين، فهي القضية الوحيدة التي يؤيدها أي عربي ليبرالي أو إسلامي أو شيوعي، وهذا من الأوراق الهامة في يد الفلسطينيين.
إلا أن نتنياهو يتفاخر بأنه حصل على عشرات الدعوات لزيارة الدول العربية.
هو قال ذلك، صحيح. لكن أين هي هذه الدول العربية؟ لماذا لم يذكرها أو يزورها، فكما قلتُ من الصعب على الدول العربية أن تعلن تخليها عن فلسطين والقضية، ربما يحتاج ذلك إلى استفتاء في العالم العربي كله قبل أن يتحقق، فقضية فلسطين هي قضية جوهرية وطنية ودينية، ومن الصعب على أي قائد عربي أن يعلن مواقفه صراحة. ربما حدثت من قبل في الأردن ولكن ضمن اتفاقيات أوسلو وقتها، أما اليوم فهذا صعب، وقد أكون على خطأ، وربما يحدث هذا، ولن تقابله ردود فعل غضب كبيرة في العالم العربي والسعودية، في حال أعلنت الأخيرة اعترافها بإسرائيل.
ألا ترى أن سلوك “حماس” في الفترة الأخيرة متقارب مع حيثيات صفقة القرن، خاصة بعد السماح بإدخال حقائب الأموال مقابل وقف النار وغيرها من إرهاصات دولة في غزة ؟
(ردّ بحسم واستغراب) لا، وكما قلت من قبل فإن السلطة الفلسطينية و”حماس” في مأزق ليس من السهل الخروج منه، وكلاهما تعانيان من مشكلة في التمويل، لكن أن تقام دولة في غزة فهذا صعب جداً، والأموال التي تصل تساعدهم ولا تحل مشاكلهم، وأكبرها؛ السياسة الإسرائيلية تجاه غزة والحصار المفروض عليها. وحين يُفتح أحد أبواب هذا الحصار فلأن هناك رغبة من تخفيف الضغط على غزة، وإلا حدثت حرب مع إسرائيل، لذلك يسمحون بالمال، وهذا لا يعني أن إسرائيل من الممكن أن تقيم سلاماً مع “حماس”.
إذن ليس بالسهولة أن يتم شطب قضايا؛ اللاجئين والقدس والحدود..
طبعاً، وهي جميعها أوراق في يد الفلسطينيين، في حين تريد الفكرة الصهيونية إغلاق هذه القضايا والتخلص من الفلسطينيين. هنالك نوعان من الاستعمار تاريخياً: الاستعمار الذي قتل كل الناس من أهل الأرض الأصليين كما حدث في أستراليا ونيوزلندا، وهناك النموذج الثاني، أي ما حدث في الجزائر وجنوب إفريقيا، حيث انتصر الشعب وكان المستوطن أقلية، أما إسرائيل فهي النموذج الاستعماري الوحيد الذي نجح في بناء دولة ودخل ليصبح نصف السكان، لكن فشل في أن يكون هو كل السكان على الأرض الجديدة.
والنسب الديموغرافية لأعداد المستعمرين في الجزائر أو جنوب أفريقيا ليست ذاتها في فلسطين حيث تكون النسبة نصفها للفلسطينيين مقابل نصف آخر من لليهود الإسرائيليين، وهذا يجعل المكافحة ضد الاستعمار أصعب. لذلك أظن أنه من مستحيل أن يفوز الإسرائيليون بانتهاء القضية الفلسطينية، وفي نفس الوقت وبشكل موضوعي صعب جداً أن يفوز أي من الطرفين، بل الحل في يد الفلسطينيين، وهنا في أوروبا يوجد نشطاء ومنظمات يتحدثون عن حل الدولتين، ويكافحون ضد من يتحدث عن حل الدولة الواحدة. في النهاية القرار لأهل فلسطين.
ماذا تعني حين تقول أن القرار لدى الفلسطينيين؟
أعني أن حركة التضامن العالمية مع فلسطين ليست هي صاحبة القرار النهائي، فإما حل الدولة أو الدولتين، نحن في المحيط الخارجي فقط، أما على الأرض هناك نصف الناس من اليهود الإسرائيليين ونصف آخر من الفلسطينيين، إذن ماذا نفعل مع النصف الأول؟
كثيرون يتحدثون عن نموذج جنوب أفريقيا، لكن يجب أن ننتبه إلى أن حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” الذي ترأسه في وقت من الأوقات نيلسون مانديلا، كان عبارة عن منظمة لكل الشعب الإفريقي بمن فيهم الأبيض وليس الأسود فحسب. وأنا لا أعرف ما هو النموذج الصحيح لكن على كل حال، لا يوجد انتصار ممكن من غير الأخذ بعين الاعتبار هذا الوجود اليهودي الإسرائيلي.
وكيف ترى مؤتمر البحرين أو ما يسمى بورشة عمل المنامة ضمن هذا السياق؟
في 2007 قام الرئيس الأمريكي جورج بوش بتنظيم مؤتمر السلام في الشرق الأوسط في مدينة أنابوليس وقال فيه إنهم يريدون إعطاء حياة جديدة لأوسلو وإعادة الحوار، وقلت وقتها أن هذا المؤتمر يشبه حادثة قرى بوتيمكين!
(وهنا يسرد القصة بعد أن سألني إذا كنت أعرفها فنفَيت)
“قرى بوتيمكين” مصطلح يعود إلى حادثة قديمة في روسيا خلال القرن الـ18، قام فيها الحاكم الروسي آنذاك، غريغوري بوتيمكين، ببناء مستوطنات مزيفة لإخفاء الظروف المتداعية في جزيرة القرم، وذلك أثناء زيارة للإمبراطورة كاترين الثانية، فكانت البيوت بألوان زاهية وواجهات مزيفة دون أن يغير شيئاً من حقيقة القرى البائسة، ومنذ ذلك الوقت ارتبط مصطلح “قرى بوتيمكين” بالأماكن التي تُبنى لإخفاء الهوية الحقيقية لمكان غير جميل.
وهكذا كان مؤتمر أنابوليس وهكذا هو مؤتمر البحرين، هي مؤتمرات دون أي معنى، يتم تنظيمها كي تتكلم عنها الصحافة، والجميع يثير الجدل حولها دون أن يكون هنالك أي شيء حقيقي على الأرض، فكيف يمكن أن نعمل على تطوير فلسطين في البحرين في غياب الفلسطينيين! والسؤال الأهم: هل يمكن للسعودية أن تدفع مليارات في الضفة لتطويرها تحت الاحتلال؟!
الأهم أيضاً أن أهل غزة لن يذهبوا إلى سيناء ويتركوا غزة…
مثلما يقول المصريون “ده كلام فارغ” ولا يوجد له أي قيمة، وكل مرة تقترب صفقة القرن من الإعلان عنها رسمياً أو البدء فيها يتم تأجيلها، وحتى ترمب لم يقم إلى الآن بأي فعل يؤكد اهتمامه بما يقوله كوشنر، أو يؤيد خططه. اهتمامه الوحيد والحقيقي هو التحالف بينه وبين العرب، ومن الواضح أن صفقة القرن لن تساعد كثيراً في تقدم هذا التحالف.
لكن سياسات ترمب الصريحة ضد الفلسطينيين كتقليص خدمات مكتب “الأونروا” وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن وغيرها من القرارات تدل على أنه يمشي قدماً في خطواته ضد الفلسطينيين؟
لا، هذا شيء آخر، فهناك صفقة قرن من ناحية، وهجوم واضح على الفلسطينيين من ناحية أخرى، كالذي حدث بمكتب منظمة التحرير بواشنطن، وبخدمات “الأونروا” ونقل السفارة إلى القدس وتأييد ذلك. كل هذا يتضح منه أن هذه الحكومة هي الأكثر عداوة للفلسطينيين في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا السبب من الصعب أن تقود لأي حل مع الفلسطينيين على الأرض، فليس من الممكن أن تنظم هذا الهجوم الكامل على منظمة التحرير والفلسطينيين وفي الوقت ذاته تفكر بأن صفقة القرن ستؤدي لأي حل على الأرض!
لا ننسى أنه في وسط هذا كله استغلت إسرائيل موجة صعود الجهاديين في سوريا. كما أنها وصمت المقاومة بالإرهاب، وقد وقف العرب معها ضد هذا الإرهاب بمجمله.
هناك اتصالات تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب، بين إسرائيل والدول العربية، وهذه مشكلة كبيرة، فقد خلقنا وهماً اسمه الحرب العالمية ضد الإرهاب وهي حرب دون معنى، ربما المعنى الوحيد لهكذا حرب كان لدى نتنياهو حين استغلها شخصياً منذ السبعينات، فـ”الإرهاب” وقتها كان يتم اتهام جنوب أفريقيا به، ومنظمة التحرير، والاتحاد السوفيتي.
والآن لا اتحاد سوفيتي هناك، لذلك توجد لديهم حاجة إلى من يوجّهوا إليه التهمة بالإرهاب، وطبعا فكرة الإرهاب ليس لها أي معنى، فماذا تعني كلمة إرهاب حين يضعون “القاعدة” و”حزب الله” و”حماس” و”منظمة التحرير” معاً؟ وقد كتبت مقالات كثيرة تنتقد فكرة الحرب ضد الإرهاب، فالإرهاب هنا هو “الآخر”. على سبيل المثال “حزب العمال الكردستاني” في تركيا يعتبر حزباً إرهابياً، وأوروبا تصفه بذلك أيضاً، لكنها في الوقت نفسه ساعدته في سوريا خلال محاربته “الدولة الإسلامية” هناك!
ألا تعتقد أن الأزمة السورية غيرت من أولويات الصراع، وبات هناك تهميش للقضية الفلسطينية؟
من ناحية، نعم. هناك من يقول أن قضية فلسطين قضية صغيرة نسبة إلى ما يحدث في سوريا أو العراق، فهناك مئات الآلاف من الناس تموت في البلدين، لكن في ذات الوقت وكما تكلمت سابقاً إننا ننسى بسهولة أنها القضية الوحيدة التي توحد كل العرب، ما لا تفعله قضيتا سوريا أو العراق. فلسطين آخر حالة استعمارية في العالم العربي، والعالم بشكل عام، وهي رمز مثل ما كانت جنوب أفريقيا رمزاً ليس فقط داخل جنوب أفريقيا بل في العالم كله، وأظن اليوم أن فلسطين هي رمز للعالم.
هنا في فرنسا كثير ممن أقابلهم من مسؤولين فرنسيين وسفراء يقولون أن فلسطين قضية صغيرة، ويستشهدون بأن “حركة القاعدة” أو “الدولة الإسلامية” ليس لهما خطاب خاص عن فلسطين، إلا أنني أرى هذا خطأ، فخطاب هذه الحركات يركز على القدس والإسلام، فهم أسلموا القضية الفلسطينية، وكثير من الشباب انضم إليهم بسبب فلسطين!