الشهداء يحنون إلى الشهداء… هكذا فكرت حين رأيت الفيديو الذي يحيّ فيه لاعبو فريق الجزائر الثلاثة الأساسين شهداء فلسطين، وهم يركضون في الملعب على أرض مصر، يحملون كأس الأمم الأفريقية بعد أن فازوا به لأول مرة منذ 29 عاماً. وربما الشعب الذي عانى من ذاكرة حرب يبقى يحن إلى شعب يشابهه في المعاناة، ويتضامن معه دون شروط، لكن المؤكد أن هذه الحرب لم تفرقهم كما فعلت معنا، للشعب الجزائري قلب كأنه قلب رجل/امرأة واحد/ة.
ولا تتغير مواقفه تجاه قضيتنا مهما تغيرت مشارب أهله وأفكارهم، ففلسطين بالنسبة لهم أمر مقدس، كذلك إذا ما تعرضوا لظلم ما تجدهم يواجهونه معاً، هكذا حدث في مطار القاهرة حين هاجم عشرات من المشجعين الجزائريين عناصر الأمن المصري بزجاجات المياه بعد أن عَلِقوا في المطار نتيجة تأخر رحلاتهم، وهتفوا لاحقاً ضد الرئيس السيسي ونظامه في بلدهم حين احتفلوا بالفوز، لتشعر أن الأحكام لديهم حاسمة وواضحة. وهذا كله على عكس تشتت الفلسطيني ومواقفه ناهيك على أنه يبقى عالقا لشهور ومسجوناً بغرفة في مطار القاهرة دون أن يسأل عنه أحد، فالتُجار في قضية حرب الجزائر ودماء أهلها أقل من التجار في قضيتنا، لكن ليس لأجل ذلك كتبت هذا المقال، ولا أريد هذا النفس المناطقي والتعميمي له أيضاً.
أحاول بكثير من العاطفة بعد أسابيع من متابعة المباريات أن أفهم ظاهرة الحب الجزائري لفلسطين، ولم أجد سوى الاحتلال بين البلدين؛ ففلسطين محتلة حتى اللحظة، والجزائر بقت محتلة من قبل فرنسا إلى أن نالت الحرية عقب حرب الاستقلال الجزائرية التي استمرت بين عامي 1954 حتى عام 1962، وهذا التاريخ الصعب جعل المجتمع الجزائري يعيش خصوصية كبيرة نتيجة ألمه ومعاناته من الاستعمار الذي أسقط مليون شهيد جزائري. وهذه الخصوصية تضرب عميقاً في مجتمعهم ولم نفهمها جيداً في أدبياتنا ومنهاجنا بالمشرق العربي بل كانت تمر عابرة ملخصة في المناضلة جميلة بوحيرد خلال صفحات كتاب دراسي ما، في حين أن الثورة لا تزال حية في قلوبهم وكأنها حدثت للتو.
كما أن لديهم ثقافتهم المجتمعية الخاصة بمفرداتها ومشاعرها عن التضحية والشهداء والأمهات الثكالى، فأتذكر كل مقابلة كان يجريها جمال بلماضي مدرب فريق الجزائر خلال البطولة كان يتحدث عن هؤلاء الأمهات ويلقي التحية عليهن، وإذا لم يذكرهن يقوم المذيع الجزائري بسؤاله عنهن، فأم الشهيد لها مكانة شعبية خاصة، وتأتي أولاً، قبل كل شيء. ومن هنا تعتبر لعبة كرة القدم ليست مجرد غرام أو متابعة بل قضية وطن، قضية كل الناس، وجميع الأمهات والشهداء، إنه أمر “أكون أو لا أكون”، وهذا لا يستطيع أحد آخر فهمه سوى الفلسطيني ربما!
ها أنا لا أزال أحاول تفسير هذا الحب وأنتم تنتظرون معي الجملة المتفجرة التي سأشرح خلالها سببه، لكني لا أجدها الصراحة، بل أفتش في المتاح، فكيف لي أن أفسر ظاهرة حب مجاني بهذا الحجم والتشابه بين أبناء أمة بأكملها، حب ليس له علاقة بالقومية العربية أو الأواصر الإسلامية، بل تربى عليه الجزائريون وكبر معهم في جميع الأجيال، وكأنه تطعيم حصلوا عليه جميعاً بعد ولادتهم مباشرة. وربما الأمر أبسط من ذلك، ومجرد الأرواح المجروحة تجذب بعضها البعض، أكثر ما تفعل العفية منها، هل تذكرون معي ردة فعل أي جزائري قابلتموه صدفة في أي مكان وعرف أنك فلسطيني أو فلسطينية… ماذا فعل؟ ترحيب كبير، حب غامر، كرم أكبر وكأنك خرجت لهم للتو من أيقونة ذات قدسية.
إنهم يؤمنون بفلسطين أكثر منا، لأنها لا تزال ذاك الحلم الوردي بالتحرر والاستقلال، لم يقلل من قيمتها أي من الانقسام والاقتتال والتنازل عن الأرض المنهجي، كما حدث مع الشعوب العربية الأخرى في إيمانها بنا وبعدالة قضيتنا.
كما لم يشغلهم شيء عنا، حتى في خضم ثورتهم الأخيرة ضد النظام كانت أعلامنا تسبق أعلامهم، وشعارات تحرر فلسطين تسبق شعاراتهم. بل إذا كنا نسينا في زحمة الانقسام والحصار والاقتتال فلسطين، فلا بد أن يخرج لك جزائري يذكرك بهذا الحب الصافي ليس لأنه فلسطيني أكثر منك، بل لأنه بقيت في قلبه النسخة الأولى من فلسطينيتك قبل أن تشوهها الأطماع والاتفاقات والصفقات وتتدخل الدول لتثمن الشهداء بالمال… إنه أنت حين كان لديك ذات الحلم والنظرة لوطنك… إنه الفلسطيني القديم منك، قبل الفلسطيني الموظف، والفلسطيني المتحزب، والفلسطيني الغزي، والفلسطيني الضفاوي، والفلسطيني الإيراني، والفلسطيني الأمريكي والفلسطيني العميل والفلسطيني المطبع، والفلسطيني الإسلامي، والفلسطيني العلماني… حين كنت فلسطيني فقط!
عبارة الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين (1939_1978) المشهورة “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” هي كانت تصف بالضبط مشاعر الجزائريين تجاه فلسطين، ولم تكن توجهها، لكن هذا لم يمنع أن العبارة لعبت كثيراً في الوعي الجمعي، ومنحت الفلسطيني تأليهاً ليس بمحله. ولا أحد يعرف كيف بدأ هذا الحب الهادر لكل ما هو فلسطيني في الجزائر، بالضبط مثلما لا تفهم كيف القاعدة الشعبية في مصر مقتنعة أنك بعت أرضك للصهاينة قبل 70 عاماً، فلا يوجد سائق تاكسي تركب معه إلا يسألك “هو انتم بعتم أرضكم ليه؟”
لا أؤمن بمسلمات وعبارات المؤامرة مثل “كي الوعي”، “هذا بالفطرة”، فهناك المصطلحات فيها كثير من الخداع، ونستخدمها لمساندة أفكار كي نمررها على أنها حقائق، وهذا أرفضه، لكن من المهم فهم السياق التاريخي للأحداث لنتعلم منها، ونعرف كيف يمكن لشعب بأكمله أن يحمل رأياً واحداً تجاه شيئاً ما!
قبل 29 عاماً، في 1990، حين أخذت الجزائر كأس الأمم الأفريقية للمرة الأولى كانت تخوض مرحلة تغيير كبير، وإرهاصات تحوّل ما بعدها إلى حرب أهلية. اليوم الجزائر تشهد تغييراً كبيراً آخر في تاريخها بإسقاط النظام فإذا كانت على عتبة كل مرحلة جذرية ستنال كأساً كروياً مثل هذا، فلا غرابة أن يكون كأساً ذا شأن وطني بحت ومقدمة لتغيير كبير، ما عدا أنه في الجزائر كل شيء يتغير إلا حب أهلها لفلسطين!