إلى حنين…
تحية طيبة… وبعد
أعرف أنك لن ترين رسائلك على “الفيسبوك” هذه الفترة، وأن البريد سيأخذ سنوات كي يصل من فرنسا إلى غزة، لذلك قررت أن أكتب لك هذه الرسالة العلنية، فربما تقرأها عليك إحدى المعزيات بجانبك أو تسمعي كلماتي هذه من مكان ما.
قبل قليل تلقيت خبر وفاة والدتك يا حنين، هذه السيدة التي تربت يتيمة ثم تزوجت في ريعان شبابها، لتصدم بموت زوجها في ريعان الشباب أيضاً فتربي اليتيمة أيتامها.
ليس وحدكم بل ربتنا جميعاً، رعتنا كلنا بحنانها، كما فعلت لاحقاً مع أبناء وبنات زوجها الذين تعلقوا بها تعلقهم بأمهم، لم أرَ قلباً يا حنين في وسع قلب والدتك… وقد ربت لاحقاً أبنائك وبناتك أيضاً في غمرة عملك وجامعتك، دون شكوى بل بسعادة مع بداية كل يوم جديد.
هل توجد إمرأة تعبت في حياتها مثلها؟ لا أظن.. رغم يقيني أن النساء يتعبن طوال أعمارهن.
إني أفكر هل فعل الكتابة في هكذا حزن، ضرب من ترف ورفاهية؟ لا أدري، ولكني أعرف أنه أنقذني من غصة الروح وفيضان البكاء.
بكيت يا حنين على أمنا اليتيمة التي تعبت طوال حياتها، وكانت مستعدة أن تربي أبناءها وأحفادها وأبناء أحفادها إلى الأبد.
اليوم فقط قلبها اشتكى من ألم، فقرأت قرآن كما عادتها حين يغلبها التعب، لا تبالغ في طلب الاهتمام وأحياناً ترفض قلق الآخرين عليها، فهي من اعتادت الاهتمام بالجميع، وهذا ما حدث تلك اللحظة حين أطل الموت يتسحب من بين المحبين إلى غرفتها.
أتذكر قبل حوالي شهر كنتِ قد أرسلتِ لي صورتها في العُمرة عبر “الماسنجر”، فقلت لك “الله ما أحلاها”، ترتدي شالاً أحمر كملاك على ذاك الجبل الصخري في مكة.
أبكي يا حنين… أبكي هنا في فرنسا، وأمي تبكيها في إسطنبول وأختي الأخرى تبكي في مصر.. كلنا نبكي مطيعة التي كانت اسماً على مسمى قضتها في طاعة من تحبهم وأحبوها، وحين أمرها الله “تعالي”… لبت النداء مطيعة أيضاً.
تعرفين يا حنين ما أكثر شيء يجعلني أغص بالألم في هذه اللحظة؟ حين أتذكرك طفلة بجدائل ذهبية طويلة في بيت جدتك القبرصية والتي كنا نناديها “الحجة القبرصية” في وسط مخيم رفح؛ وكنتُ أجلس بجانبك, طفلتان تائهتان؛ تمسدين رأس جدتك وهي ممدة أرضاً على فرشتها البسيطة، تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأنت تبكينها ولا تعرفين ماذا تفعلين، لم يكن سواك وسوى شقيقك مُحيي الذي لا أذكره طفلاً على الإطلاق بل دائماً رجلاً بأضعاف الرجال كي يقف بجانب نساء حياته.
في تلك الغرفة الضيقة حيث الملابس مكدسة، والخزانة الخشبية “النملية” تمتلئ بأغراض جدتك وما تحمله من ذكريات قبرص بعد أن انقطعت عنها عقود عقب زواجها من جدك، كانت جدتك تحاول التكلم، ونحن حولها نواسيها، نغلب الموت ونفهمها حيناً، وأحيانا يغلبنا فتضيع الكلمات… وماتت الحجة “القبرصية”.
الآن أنت تعيشين ذات الموقف؛ والدتك مسجاة وأنت تمسدين رأسها ولم يتغير فيك شيء… ذات ملامح الطفلة الشقية بعينين واسعتين حزينتين… لكني لست معك… لنحمل معاً الموت على الأكتاف، كما فعلنا يوماً في طفولتنا ونلقيه بعيداً دون أن نفهم كيف دخل بيوت المخيم البسيطة ليأخذ أغلى ما نملك.
لا أستطيع أن أنسى منزلكم في المخيم، كان واسعاً قليل الأثاث، فيه درج يصعد إلى السطح، يغطيه الاسبست، وفيه غرفتان ومطبخ ومخزن، وطبعاً لا أنسى بيت طيور الحمام فلم يكن على السطح بل أرضياً، غريباً جداً حتى اللحظة تراودني بعض الأحلام عنه.
في هذا المنزل عشنا أجمل أيام طفولتنا، لم تكوني أنت أيضاً تشتكين كما أمك، الحياة آلمتك كثيراً. حضرت خطبتك في ذات المنزل بعد سنوات لاحقة بعيدة… شهدت أفراحك وأحزانك، شجاراتك وآمالك… وبقيت دائماً الصديقة التي أعود إليها وتعود إلي في لحظات الألم.
جمعنا الموت يومها على رأس جدتك، ويجمعنا الحب اليوم على رأس والدتك… ولو في هذه الكلمات.
الآن أنظر من الشرفة، أسمع صوت أوراق الشجرة الوارفة أمامي تحركها الريح، وأوقن أن المسافات تختفي في الحزن، بل أجزم أنك تسمعين ذات الحفيف، وتفكرين؛ ما الذي أضعناه في هذا العمر وما الذي كسبناه؟ لقد كسبنا أمهاتنا… حبهن وعنايتهن، وما أورثنه لنا من محبة وإيثار، وأضعنا كل تلك الأوقات التي قضيناها نتجادل معهن عن الحياة… وكأن الحياة تبدو اليوم مجرد ظلاً للموت يا حنين.