قبل أسابيع، صرح سعد الدين إبراهيم وبعده فاروق حسني، بأننا يجب أن نستمع إلى الإسرائيليين، ونجلس معهم، ونحادثهم، كما أننا يجب ألا نقاطع العدو الصهيوني. بعض الأوروبيين المتحضّرين، أيضاً، يصرون على ضرورة الجلوس مع النظام السوري وتقبله، أو مع الإسرائيليين في التجمعات الثقافية والحفلات الفنية وغيرها. كذلك، نسمع من الأشقاء العرب دعوات مماثلة. الحجة دوماً نفسها، وهي الحجة الليبرالية الشهيرة، الصادقة، الأكثر أهمية، في الحقيقة، في كل علم الأخلاق والسياسة: قبول الرأي الآخر، والاستماع إليه. ألم تُبنَ الديمقراطية، والليبرالية، والعلم الحديث، وسفن الفضاء ربما، على ضرورة الاستماع إلى الرأي الآخر؟ ألا يختصر هذا الأمر كل أخلاق الحضارة والمدنية والتقدم؟ هل نرفض كل ذلك، ونقاطع الرأي الآخر، الذي يمثله الإسرائيليون والنظام السوري، رافضين الاستماع إليه، ونعود إلى حياة التوحش والهمجية؟
الجواب، ببساطة: أجل؛ يجب أن نقاطع. المقاطعة هذه، في الحقيقة، التجلي الأسمى لمبدأ الاستماع إلى الرأي الآخر. الجلوس مع العدو وتقبيله والسهر معه وشرب الشاي أو بيرة كورونا المكسيسكية، يشكل، بشكل كامل، خيانة مطلقة لهذا المبدأ الليبرالي.
الإخوة الليبراليون، الذين يستخدمون الحجة الليبرالية لإقناعنا برفع المقاطعة، يمارسون عملية تدليس ثقافية من الطراز الرفيع، وتستحق التوقف عندها، لبيان تهافتها.
أولاً، وقبل كل شيء، فكرة الرأي الآخر واحترامه، نشأت، في السياق الغربي/التنويري، للدفاع عن الناس التي لا صوت لها، عن الأقليات المهمشة، عن أولئك الذين كانوا ضد الكنيسة أو الدولة أو السائد، ولا يملكون صحافة ولا عسكر ولا مال: المثال الأشهر فولتير، ودفاعه المستميت عن البروتستانت، عن نقاد المسيح، عن نقاد الفساد، عن فكر نيوتن، عن شكسبير (كلهم كانوا منبوذين في فرنسا). لم يفكر فولتير، مرة، في أن يلوم الضحايا والمهمشين والمسحوقين، ويطلب منهم الاستماع إلى الطرف القوي: يعرف فولتير، جيداً، أن هؤلاء الضعفاء لم يكونوا محقين في كل شيء، لم يكونوا واعين تماماً بما يقومون به، لم يكونوا هم أنفسهم مدافعين عن فكرة الرأي الآخر: كل هذا، هامشي، طبعاً: علينا أن نتحدى السلطة، أن نتحدى صاحب القوة، أن نجبره على الاستماع إلى الآخر: الرأي الآخر، دوماً، هو الرأي الذي لا يملك القوة: هذا هو الطرف الذي يجب أن ندافع عنه، ونطالب بأن يكون صوته مسموعاً: الرأي الآخر، بحسب المبدأ الليبرالي إذن، هو رأي الضعفاء والمهمشين.
مع تقدم الديمقراطية والليبرالية وترسخها في المجتمعات الغربية، أصبح الدفاع عن الرأي الآخر، أي الرأي الأضعف، الهاجس الأكبر لليبراليين: بل أصبح ضرورياً لإنقاذ الديمقراطية الليبرالية من ميلها الدائم المتأصل فيها نحو الرأي السائد، نحو رأي المتنفذين والأغنياء، نحو الأكثرية: ثلاثة ليبراليين ناقشوا الموضوع بحرارة واعتبروه مصيرياً: جون ستيوارت مل وبرتراند راسل وكارل بوبر. المعضلة الرئيسة التي كانوا يسعون إلى حلها هي: كيف يستطيع من لا يملك الوسائل الضرورية لإسماع صوته أن يكون مسموعاً؟ كتاب “في الحرية”، عمل مل الأبرز الخالد، يكاد يقتصر على هذا الموضوع. راسل يعطيه بعداً يسارياً، يستند بصراحة على الماركسيين والفوضويين. بوبر واجه به دولة ستالين والنازية والنزعات القومية والدينية المتطرفة، والنسبوية واللا-عقلانية. في كل الحالات، لم يفكر أحدهم في أن يقول للمهمشين، أي لأصحاب الرأي الآخر، أن يهدؤوا ويستكينوا ويستمعوا إلى الرأي السائد: على العكس تماماً، الليبراليون الأشهر في تاريخ الليبرالية، عملوا جاهدين على إنقاذ الليبرالية والديمقراطية من حماقة الأكثرية، من سيطرة المتنفذين، من الليبرالية التي تخون نفسها بإجبارها الأضعف على الانحناء إلى الأقوى.
أكثر من ذلك، يستطيع المرء أن يحاجج، بشكل مقنع، بأن الاشتراكية ما هي إلا تطبيق لمبدأ الليبرالية على الليبرالية نفسها: في الليبرالية، الرأي الوحيد المسموع هو رأي القوي، رأي صاحب المال والأغنياء ومالكي وسائل الإنتاج. بهذا المعنى، تكون الاشتراكية تعميقاً لمفهوم الحرية، ولمبدأ الليبرالية المطالب بالاستماع للرأي الآخر: رأي الفقراء، والمسحوقين، البروليتاريا والفلاحين.
ثانياً، رأي الإسرائيليين، والنظام السوري، مسموع بوضوح شديد: في حصار غزة، في الطيران الحربي الذي يجول ويصول في السماوات السبع، في استخدام السلاح الكيماوي على قرى وأرياف السوريين، في المعتقلات التي لا يعلم حتى الآلهة ما الذي يجري فيها، في الاحتلال العسكري المباشر وغير المباشر، في مستوطنات الضفة الغربية… إلخ. حتى الأطرش في “الزفة” يسمع بوضوح صوت الرصاص، صوت الرأي القوي، ولسنا بحاجة إلى الجلوس معهم كي نفهم ما يقولونه.
إذن، وبوضوح شديد، نحن لا نقاطع العدو لأننا نرفض أن نسمع الرأي الآخر: على العكس تماماً، نحن نقاطع العدو لأن الرأي الآخر، رأي المهزومين والمستضعفين، لا وجود له على الأرض. نحن نقاطع العدو لأننا نؤمن بالرأي الآخر، ولأننا نؤمن بحرية الرأي، ولأننا نؤمن بالمبدأ الليبرالي الذي أثبت بشكل قاطع أن الحضارة والأخلاق تُبنى من خلال الاستماع إلى كل الآراء: نحن نقاطع العدو لأننا نريد أن يكون للرأي الآخر مكان وصوت. المقاطعة تعني مقاطعة القوي والمتنفذ والظالم، إلى أن يقبل بأن يجلس مع الآخر، أن يعطيه مساحة في الحوار، أن يعترف به: المقاطعة هي التجسيد الأبهى والأصدق والأقوى للمبدأ الليبرالي.
وفي المقاطعة مشاكل جمة، ولكنها مشاكل تفصيلية، وليست مشاكل في المبدأ. حدود المقاطعة، وتنفيذها، وإساءة استخدامها، كلها من أصعب ما يكون. تاريخياً، ارتُكبت أخطاء قاتلة، من قبيل مقاطعة فلسطيني الداخل، في الدول العربية كسوريا والعراق، كجزء من مقاطعة العدو. يكرر بعض السوريين هذا الخطأ اليوم، في تحميلهم كل السوريين في الداخل السوري مسؤولية ما يحصل. الطرف الأهم في المعادلة، هو فلسطينيو الداخل وسوريو الداخل: المقاطعة هدفها الرئيس رفع الظلم عن هؤلاء، وليس معاقبتهم. أكثر من ذلك، تستخدم قوى الإرهاب والممانعة، كالنظام السوري والإيراني، المقاطعة لتجريم كل من تختلف معه في الرأي. قبل سنوات قليلة اتُهم الياس خوري بالتطبيع لأنه تحدث إلى صحيفة إسرائيلية؛ وبرأيي، لم يخطئ الرجل ولا يجوز استخدام المقاطعة للنيل منه. تسعى قوى الظلام إلى حصرنا في عالم صغير تحكمه قوى متخلفة شريرة، تحت شعار المقاطعة.
كلا الأمرين، أي التخلي عن السوريين والفلسطينيين في الداخل، ومحاربة كل الكون باسم المقاطعة، كارثي، ويجعل المقاطعة، بالتالي، سلاحاً موجهاً ضد الناس الأضعف، الذين لا صوت لهم، الذين من أجلهم وُجدت المقاطعة.
فوق كل ذلك، هناك حالات كثيرة يحار فيها المرء، ولا يستطيع بسهولة أن يصل إلى رأي قاطع بخصوص المقاطعة: علينا أن نقبل بان الخلافات قائمة دوماً داخل حركة المقاطعة، بدون تخوين وشتائم وادعاء بامتلاك الحقيقة كاملة: قد نتفق على بعض الأمور، وقد نختلف على غيرها؛ هذا طبيعي تماماً في التكتيكات.
في النهاية، في كل النقاشات، حول المقاطعة وحول أخطائها وحدودها، المعيار الرئيس صوت الناس الأضعف. هذا الصوت ما زال مغيباً، ويجب أن نستمع إليه، وندافع عنه. أما شرب الشاي، والدردشة الطويلة الفارغة التي تتقافز من موضوع إلى آخر على طريقة داليدا “أدينا مندردش، ورانا إيه؟”، والاستمتاع بأفلام يابانية بالأبيض والأسود والتذمر من سخافات مسلسلات نيتفلكس، وتبادل الآراء حول البيرة وكرة القدم وأفلام عادل إمام وعزلة اسبينوزا الطوعية، لا يكون لها معنى إلا بين أناس أحرار متساوين أسوياء: إلى أن يتحقق ذلك، علينا بالمقاطعة.