وأخيرا ترجل الشاعر عز الدين المناصرة عن فرسه. أودت به الكورونا ورحل عن أربعة وسبعين عاماً دون أن تتكحل عيناه بتراب الخليل ودون أن يقطف بيديه قطف عنب من دالية من دواليها هو الذي غنى بغنائية عالية مذهلة، قلما تجد لها مثيلاً في الشعر الفلسطيني، لمدينته وعنبها.
لسوء حظ عز الدين المناصرة أنه عاش في زمن محمود درويش الذي غطى شعره على شعر كثيرين، وإلا لحظي باهتمام كبير أكبر من الاهتمام الذي حظي به شعره، علماً بأن طلابه في الجزائر، حيث علم في جامعاتها لسنوات، اهتموا به وبشعره اهتماماً لافتاً.
في فلسطين التاريخية المحتلة، لم يحظ المناصرة دراسة وطباعة أعمال بما حظي به شعراء المقاومة الذين ولدوا فيها وترعرعوا على أرضها، من راشد حسين وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، ويخيل إلي أن دور النشر الفلسطينية اكتفت بالالتفات إلى هذه الأسماء أولاً، فنشرت لها وأعادت نشر أعمالها مرات ومرات، والديوان الأول الذي طبع للمناصرة حتى العام ١٩٩٣ هو “لا يذكرني أحد غير الزيتون” الذي صدر عن منشورات “شروق” لصاحبها الشاعر أسعد الأسعد، وأعتقد أن الصلة السياسية والشخصية بين الشاعرين هي التي دفعت الأسعد بإعادة طباعة الديوان، والصلة بينهما صلة قديمة تعود إلى أيام جريدة الفجر المقدسية التي نشرت للمناصرة قصيدة “وطن الشركس”؛ القصيدة التي خرج بسببها من الأردن ولم يعد نشرها في أي من أعماله الشعرية، بل ولم يعطها للدارسين إن أرادوا أن يكتبوا عن قصائده المحذوفة، وأنا هنا أتحدث عن تجربة شخصية، فعندما التقيت بالشاعر في عمان وأهداني أعماله الشعرية الكاملة طلبتها منه فاعتذر.
شكلت القصيدة المذكورة للشاعر عقبة في علاقته مع النظام الأردني، فعندما أراد في ثمانينيات القرن العشرين العودة إلى الأردن من الجزائر ليستقر فيها رفضت الأردن لولا تدخلات شخصيات فاعلة في منظمة التحرير.
غير أن ما لفت الأنظار إلى عز الدين في فترة مبكرة بالإضافة إلى موقفه الحاد في قصيدته هو توظيفه لشخصية الشاعر امرئ القيس في أشعاره، وهو توظيف لفت نظر الدكتور المصري علي عشري زايد في كتابه الشهير عن استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، وكما خذلت القبائل العربية الملك الضليل امرأ القيس للأخذ بثأره من قتلة أبيه، فنشد المساعدة من ملك الروم، خذل العرب الفلسطينيين، فشعر الأخيرون بالخيبة، وهو ما عبر عنه عز الدين المناصرة في قصيدته “امرؤ القيس، يصل فجأة إلى قانا الجليل” بقوله:
” هزهم هزهم هزهم
في مشارف مكة، حتى المدينة، حتى البقاع
هزهم بيمينك، لن تلقى غير الخداع
هزهم بيسارك، لن تلقى غير الخداع
لقد ختلوك، يريدون عظمك، حتى النخاع،
هزهم، هزهم، هزهم”.
حين أسست السلطة الفلسطينية اهتمت وزارة الثقافة الفلسطينية بالشاعر فطبعت له مجموعة شعرية عنوانها “لا أثق بطائر الوقواق”، وهو ديوان شعري ظلت فيه نبرة عز الدين الغنائية عالية جداً، هذه النزعة التي راقت للشاعر محمود درويش الذي عد المناصرة من أهم الشعراء الفلسطينيين، فحين سئل عن أهم الشعراء ذكره شاعراً من شاعرين.
وعلى الرغم من كتابته القصيدة الغنائية إلا أنه شغل نفسه بقصيدة النثر كما لو أنه أحد كتابها والمنحازبن لها مقابل القصيدة الموزونة المقفاة، وقد أصدر كتابين حولها طبعا طبعات عديدة؛ الأول عنوانه “قصيدة النثر (المرجعية والشعارات): جنس كتابي خنثى (الإطار النظري)” عام ١٩٩٨، والثاني “إشكالية قصيدة النثر: نص مفتوح عابر للأنواع ” عام ٢٠٠٢.
الشاعر الذي بدأ شاعرا وانضوى إلى حركة المقاومة الفلسطينية سرعان ما تحول إلى المجال الأكاديمي فدرس الدكتوراه في الأدب المقارن في جامعة بودابست، ثم ذهب إلى الجزائر ليدرس في جامعاتها، وكان له هناك حضور لافت، وحين عاد من الجزائر إلى الأردن درس في جامعة فيلادلفيا. هل ترك عمله الأكاديمي أثره في مسيرته الشعرية؟ وهل أثر عليه تأثيراً سلبياً، إذ لم يتفرغ للشعر كليا تفرغ محمود درويش وسميح القاسم له؟
عمله الأكاديمي دفعه إلى الاهتمام النظري بدراسة النقد الثقافي والنقد الحضاري والنقد المقارن، وصار له باع طويلة في هذا المجال زادت من انتشاره بخاصة في الوسط الأكاديمي العربي.
عندما شرعت في العام ١٩٩٧ بدراسة شعراء المقاومة قبل أوسلو وبعدها لم تكن أعمال عز الدين متوفرة لي، وهكذا لم أكتب عن شعره وموقفه فيه من اتفاقية السلام، وحين حصلت على أعماله كان كتابي صدر.
برحيل عز الدين المناصرة تخسر الحركة الشعرية الفلسطينية والحركة النقدية الأدبية العربية اسماً مهماً.