نشر هذا الحوار الذي أجراه “كليم حوّا”، مع المؤلّف والبروفيسور تيموثي بيرنان، في مجلّة The Nation في ٢٥/٠٣/٢٠٢١، تعقيباً على صدور كتاب “Places of Mind”، وهو كتاب سيرة ذاتية يتناول حياة وإرث إدوارد سعيد الثقافي والفكري.
“إدوارد سعيد كان أميرنا”، هكذا صرّحت الرّوائية المصريّة “أهداف سويف” مؤخّراً في محادثة حول الكتابة والحياة الثقافية العامّة الفلسطينيّة. سعيد كان مفكّراً لا يمكنُ مقارنته بأحد، وكان مُساهِماً في تأسيس دراسات ما بعد الاستعمار وكذلك الإضاءة على تاريخ التمثيل الثقافيّ وتمثيل “الآخر”، وبفعله ذلك كان قادراً على زعزعة هيكل الأكاديميا الأنجلو – أمريكيّة. يعدُّ كتابه “الاستشراق Orientalism”، من أكثر الكتب اقتباساً في التّاريخ الحديث، أكثر اقتباساً بحسب البعض من كتبٍ مثل “رأس المال” لكارل ماركس و”أصل الأنواع” لداروين. وخلال عقودٍ من كتابة المقالات، الكتب والمراجعات، أظهر سعيد اهتماماً أصيلاً بشكلِ وبُنية الشّعور الذي رأى في استنطاقه وسيلة لفهم الموسيقى، الأدب وكذلك وطنه فلسطين.
كان سعيد من بين أشياء أخرى ناقداً، أنيقاً، نرجسياً، مُرشداً، مجادلاً وذو ذكاءٍ فريد. في كتابه “السّلام والمآخذ عليه” الصادر عام 1995، وكان الكتاب الأوّل الموجّه للقرّاء العرب، وصف سعيد اتّفاق أوسلو “بالمشهد المنحطّ لياسر عرفات الذي فيه يظهرُ شاكراً الجميع على إلغاء حقوق شعبه”. مشهداً زادَهُ حُمقاً “الجلالُ الذي ظهر فيه بيل كلينتون كإمبراطور رومانيّ في القرن العشرين يُصالح فارسين تابعين بطقوس المصالحة والطّاعة”. وكان أن منع عرفات كتابه “السّلام والمآخذ عليه” لسنواتٍ طويلة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة نتيجة معارضة سعيد لأوسلو وتأييده لحلّ الدّولة الواحدة.
لكنّ التزام سعيد بحريّة شعبه الفلسطينيّ صنَعَ له أعداءً في أمريكا أيضاً، فقد شعر سعيد أنّه كان معزولاً من قبل أصدقائه وزملائه الأمريكيين في أيّامه الأخيرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكأنّهم فجأة “كانوا إمبرياليين بعد كلّ شيء، وحوّلوا أنفسهم إلى أبواقٍ للوضع الرّاهن”، كما قال في إحدى مقابلاته الأخيرة المصوّرة من قبل صانع الأفلام الوثائقية البريطانيّ مايك ديب عام 2003. ذلك كان قبل شهورٍ قليلة من موته جرّاء اللوكيميا، وذلك عندما وجد عزاءه بين العرب بعد معاناته من الطبيعة المتقلّبة للثقافة الأمريكيّة.
لسنواتٍ حاول كثيرون ممّن عارضوا التزامات سعيد السياسيّة تجاه فلسطين تشويهه وهدم صورته، بينما كان على أولئك الذين هم في دينه كأشخاصٍ وباحثين الاعتماد على محادثاتهم الخاصّة وأعماله الهائلة لتفنيد تلك المحاولات. ومن بين هؤلاء كان تيموثي برينان، البروفيسور والمؤلف الذي كان طالب دراسات عليا لدى سعيد وصديقاً مقرّباً، والذي حاول من خلال كتابة سيرته الذاتية لسعيد “أماكن الذّهن Places of Mind”، أن يُغيّر من هذه الوضعية.
كان محبطاً مع بدء ظهور مراجعات الكتاب رؤية موكبٍ من الكتّاب البيض يخطئون فهم سعيد مرّة أخرى؛ فقد كتب دوايت غارنر في مراجعته للكتاب لمجلّة The New York Time أنّ الكتاب دراسة عن إدوارد سعيد “أحد أكثر الرجال إثارة للاهتمام في عصره”، ويبدو أنّه وجدَ كلّ شيء مثيراً للاهتمام في حياة سعيد فيما عدا هويّته كفلسطينيّ، مكرّساً جزءاً كبيراً من مراجعته لحياة سعيد الجنسيّة مقارنة بآرائه حول حريّة شعبه. وذلك يتّسقُ ومراجعة غارنر لسعيد عندما كان حيّاً، ففي المرّات العشر التي نشرت فيها The New York Times Book Reviews عن سعيد لم تُذكر فلسطين مرّة واحدة، وكذلك يفسّر تجاهل المجلة المستمر للأصوات الفلسطينية؛ فمن بين 2500 مقالة نشرتها المجلة عن فلسطين منذ العام 1970، كان منها فقط 46 مقالة لمؤلّفين فلسطينيين.
تظهرُ المراجعة الأخيرة شيئاً دائماً ما أساء النُقّاد البيض فهمه حول سعيد؛ أي معالجتهم لهويّته الفلسطينيّة كأنّها مجرّد فضولٍ لا سمةً حيويّة في حياته وعمله. ذلك يعني إهمالهم لتجاربه كذات استعماريّة وإن كانت حاصلة على امتيازات، وكيف كانت لهذه التجارب موقعٌ في كتاباته كـ «الاستشراق»، أو «بدايات»، أو «تغطية الإسلام» أو «المسألة الفلسطينيّة».
يمكنُ تتبع هذه التيّارات الثقافيّة في تاريخ برينان الثقافيّ، فبرينان يناقش في محادثتنا تأثير سعيد الأدبيّ، علاقته بالماركسية، آرائه حول تنامي حركة المقاطعة لإسرائيل، صداقته مع الزعيم (الباكستانيّ) المناهض للحرب إقبال أحمد وكذلك تجارب مع وسائل الإعلام في نيويورك.
يصوّر البعض سعيد كأكاديميّ فلسطيني ذو نزعة أمميّة بدلاً من كونه أكاديمياً غربياً بالمطلق، والذي يمكن موضعة مشروعه في سياق العُرف الغربيّ وكذلك استجابة له. هل تعتقد أنّ سعيد كان مثقّفاً عربياً؟
ربّما يكون ما قلته أحد الأشياء التي غيّرت تصوّري عن سعيد الذي اعتقدت أنّني عرفته بشكلٍ جيّد. من الصعب عند رؤيته للوهلة الأولى عدم التّفكير في ملاءمته لنوع المثقف البريطانيّ وخرّيج جامعات النّخبة. أولئك الذين أصبحوا أعداءً سياسيين له فيما بعد سيقولون لك عند الحديث إليهم:”لا تصدّق التزامه هذا تجاه فلسطين، فهو لم يتكلّم مرة واحدة عن العودة إلى وطنه أو حنينه إلى العيش في الشرق الأوسط”. لكنّ هذا ببساطة غير صحيح، رغم شيوع هذا النوع من الأفكار حوله. فقد حاول سعيد مراراً الانتقال إلى الشرق الأوسط وكذلك كان يدرّب نفسه بشكلٍ منهجيّ على يدّ مفكّري (النهضة) مثل قسطنطين زريق وإبراهيم أبو لغد. وأعتقد أنّ التواصل المباشر مع القرّاء العرب ومخاطبتهم كعرب كان مهمّاً جداً بالنّسبة إليه.
ومع ذلك لم يكن يعجبهم دائماً ما كان يقوله، وهنا أفكّر بالنقد الذي وجهه الماركسيون العرب مثل مهدي عامل لسعيد. وعن هذا الأمر قال الشاعر الإيرلنديّ سيموس دين أنّ سعيد لم يكن ماركسياً، ليس بقدر ما يمكن للمرء ألّا يكون ماركسياً؛ ما الذي يمكن قوله حول علاقة سعيد بالماركسيّة؟
أعتقد أنّ إدوارد لم يتقبّل الماركسيّة بصفته مدافعاً عن الوطنيّة الفلسطينيّة لأنّه شعر أنّها كانت أيديولوجيا مستوردة في وقتٍ طبِّقت فيها سلبيّاً في الشّرق الأوسط. كان يعتقد أنّه مهما كان البرنامج (الماركسيّ) صائباً سياسياً إلّا أنّه لم يملك القوّة الجاذبة كنظامٍ سياسيّ في الشرق الأوسط القادر على تأسيس ودعم دولة فلسطينية.
هل تشير إلى كتابه “بدايات” الذي حاول فيه وضع خريطة ثقافية أصلانيّة عربيّة سياسيّة وجماليّة، ونقَدَ استخدام كلّاً من طه حسين وفرانز فانون للبُنى الفرويديّة والماركسيّة لمكافحة الاستعمار بدلاً من اللجوء إلى اجتراح ثقافة أصلانيّة تخصُّهم هُم؟
وهناك أيضاً آراؤه الشهيرة عن ماركس في الاستشراق، وكذلك تذمّره من بعض الحركات الماركسيّة في كتاب “الثقافة والإمبرياليّة”. لكن دعنا لا ننسى أن الكثير من أصدقاء سعيد المقرّبين وزملائه كانوا ماركسيين. فهناك صادق العظيم الذي كان حادّاً معه بقدر ما يمكن للمرء أن يكون في فترة تكوينيّة من حياته. لم تكن الماركسيّة مسألة تنفّره بأيّة طريقة، في الواقع، كان هناك نوع من المنافسة بينه وبين العظم على من يكون أكثرُ إثارة للمتاعب في الشّرق الأوسط. كانت علاقته بالماركسيّة متّسقة طوال حياته، نعم هناك دلائل على نزعة ليبرالية سياسيّة عامّة، ولكن سعيد أيضاً تصرّف كنوع من وكيلٍ عن المثقّفين الماركسيين، مذكّراً النّاس بملاحظاتهم الثاقبة التي قدموها في النظريّة الثقافية والسياسيّة. وبعيداً عن جيامباتيستا فيكو الذي بإمكانك وصفه بالماركسيّ البدائيّ، فهناك قلّة قليلة تمكّنت من دخول بانثيونه الخاصّ، ومنهم ماركسيّون مثل جورج لوكاش، تيودور أدورنو وأنطونيو غرامشي.
هل كان هناك أيّ نساء في هذا البانثيون؟
أجل، الموسيقيّة روز سبوتنيك، وعالمة الاجتماع الهيغليّة غيليان روز، وكذلك كان لكتاب سوزان باك – مورس عن أدورنو تأثير كبير عليه.
أنت لم تذكر إقبال أحمد، المفكّر الباكستاني والزعيم المناهض للحرب، فملفُّ سعيد لدى الـFBI يوصِّفُ سعيد على أنّه كان حلقة الوصل ما بين أمريكا ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، وذلك كان يعدُّ فعلاً راديكالياً في السياق الأمريكيّ آنذاك رغم أنّه ليس بالشّيء الهام هذه الأيّام، وجزئياً كان لعلاقته بأحمد دور في ذلك. كيف تكوّنت تلك العلاقة؟
إقبال كان أحد زعماء حركة مناهضة الحرب الأمريكيّة، وقد جذب انتباه سعيد في وقت كان نشاطه السياسيّ فيه أكثر علانيّة بعد نكسة عام 1967. آنذاك اتّخذ إقبال خطوة جريئة وغير شعبيّة بإلقائه محاضرة لمقاتلين مثقّفين وناشطين عرب قائلاً لهم أنّهم لن يتمكّنوا من كسب معركتهم ضدّ الصهيونية عسكرياً وأنّ عليهم تعلُّم تقنيات الإقناع. ذلك ما لم يكن سعيد موافقاً عليه، فقد كان منجذباً في ذلك الحين للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وهي أكثر الحركات ماركسيّة في طيف حركات التحرير الفلسطينيّة؛ آنذاك كان سعيد يفكِّرُ بطريقة عسكريّة.
ما تقوله مثير للاهتمام لأنّك قلت أيضاً أنّ سعيد كان سيعجَبُ بطلّابه وزملائه الذين يقفون خارج محلّ البقالة لجمع توقيعات ضدّ حرب فييتنام ولكنّه لن يفعل ذلك بنفسه أبداً. وهناك أيضاً واقعة اتصاله بشرطة الحرم الجامعيّ الشهيرة عندما اقتحمت مجموعة من الطلاب المحتجّين قاعة درسه في جامعة كولومبيا. هل نتحدّثُ عن إخفاقات سعيد السياسيّة كاستثناء ظرفيّ يمكنُ تفسيره وليس تعبيراً عن وجهة نظرٍ كونيّة؟ هل كان سيوزّع منشوراتٍ لو كانت من أجل فلسطين؟ أمّ أنّه فقط لم يكن الشّخص الذي يوزّع منشورات؟ كيف نفسّر هذه التناقضات؟
أستطيع التفكير في أسباب كثيرة؛ أوّلاً إدوارد كان نخبوياً. لقد ترعرع وفي فمه ملعقة من فضّة ولم يرى نفسه في الخنادق. ثانياً لو كان سيكرّس نفسه لأجل قضيّة سياسيّة فلن تكون حرب فييتنام، ذلك على الرّغم من اشمئزازه وفزعه ممّا فعلته الولايات المتحدة من فييتنام. ولكنّ كان لديه حياة واحدة ليُعطيها وطاقة محدودة ليمنحها. وأخيراً، لقد نظر إلى انخراط الطلبة النّشاطيّ بوصفه تمثيلاً مسرحيّاً يخصُّ الطبقة الوسطى، لم يعتقد أنهم يعرفون معنى أن تعيش في خطرٍ سياسيّ حقيقيّ. لقد رأى الخطر يتهدّد حياة رفاقه في القاهرة تحت حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر واغتيال رفاقه في بيروت. كلّ هذه الأشياء كانت ستمنعه من توزيع منشورات.
أتساءل عن دور المثقّفين في ذلك الوقت كحلقة وَصلٍ بين مثقّفين آخرين وقضايا التحرّر. يدّعي سعيد أنّه كان الشخص الذي عرَّف فريدريك جيمسون بفلسطين عندما نظّلم رحلة برفقة (إقبال) أحمد لغاية تغيير قضيّة فلسطين لدى جيمسون من مجرّد مسألة أكاديمية إلى قضيّة سياسيّة. ما الذي تعرفه عن هذه الرحلة؟
إدوارد أعجِبَ بفريد وعقليّته ولكنّه لم يكن ليتماثل مع ماركسيّته، لقد فكّر أنّها ليست جيّدة كفاية للتطبيق وفق شروط العالم الحقيقيّ وأنّها أصبحت نوعاً من الفلسفة التعويضيّة التي تشعرُ المرء بالنقاء الأخلاقيّ وتحريره من حاجته إلى الانخراط في العالم الحقيقيّ. إدوارد كان ليقول شيئاً مثل:”جيمسون سياسيّ مثلما هو سياسيّ ذلك الكرسيّ هناك”، وكانت الغاية من وراء الرّحلة إظهار معنى مقاومة إسرائيل سياسياً للأكاديميين الغربيين.
أحياناً أعتقدّ أنّ ما يفتقده الذهن الغربيّ هو الغضب العميق؛ هل كان غضب سعيد حقيقياً؟
كان غاضباً، كان غاضباً حقاً. كان مستعداً لحمل السّلاح لو كانت تلك هي الطريقة لتحقيق الانتصار. أشعرُ بالصّدمة من الطّاقة الهائلة التي بذلها في كتابتها عن فلسطين من زوايا مختلفة على مدى سنواتٍ عديدة. ولكن أيضاً، كان لدراسته للأدب علاقة باستراتيجياته السياسيّة المتعلّقة بفلسطين والهجوم على الحريّات الذي تبع أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة. فقد كان هناك رابط مُباشرة بين دراسته المتأنّية للبلاغة والرّواية وإيمانه بالسّلطة التي يملكها المثقّف في المجتمع. كان يتحدّث عن جهاز “القصص” الإسرائيليّ الذي مكّن لنفسه في الرأي العام (الأمريكيّ) على نطاق واسع من خلال أعمالٍ مثل: فيلم “الخروج The Exodus”، ورقعة عين موشي ديان. كان رأيهُ أنّ الفلسطينيين ليسوا جزءاً من الرأي العام وأنّهم بحاجة لإيجاد طريقة لأسطَرَة قصصهم وتجاربهم ليتمكّن النّاس من التماثل معها. لم تكن وجهة نظر سعيد عن الرّواية شيئاً يدرِّسهُ أساتذة الأدب في قاعة المحاضرات، بل كانت موضوعاً أساسياً في المشروع الوطني الفلسطيني.
مع ذلك، فجمهور هذه القصص هو جمهور غربيّ. ماذا عن رؤية سعيد للتواصل مع العرب؟ لقد وصفتَ مقالته: “التمنع، التجنّب والاعتراف”، في مجلّة مواقف البيروتيّة على أنّها تواصله الأوّل مع القرّاء العرب، والتي أشار فيها إلى نوع من التشاؤم العربيّ، وهو الشّيء نفسه الذي وصفه غسان كنفاني بأنّه “مهرجان انحطاط ذاتيّ مازوخيّ”. ما الذي كان سعيد يحاول قوله في تلك المقالة ولماذا؟
إنّها مقالة مذهلة فعلاً، ومجادلة سعيد هو حاجة المثقّف العربيّ الملحّة إلى الاعتراف بافتقار ثقافته إلى نظريّة في العقل. حاول في المقالة إظهار أنّ المشكلة في مقاومة العربيّ للإمبرياليّة الغربيّة لها علاقة جزئياً بالتركيز المفرط على اللغة العربيّة بوصفها مستودعاً للجمال والكمال، وأنّ على العرب العمل على فهم ما يجعلهم متخلّفين وما يحتاجونه بشدّة وما يفتقرون إليه في الآن ذاته. إنّها مقالة سياسيّة بامتياز ولكن أيضاً تحليليّة نفسيّة.
كتبت أيضاً أنّ سعيد كان مسحوراً بكتّاب خيال كان من المنطقيّ أن لا يحبّهم؛ فقد فضّل جوناثان سويفت بدلاً من ويليام بليك المعادي للاستعمار، وأحبّ جوزيف كونراد بدلاً من زميله المعادي للإمبرياليّة ر.كونينغهان غراهام. وجهة نظرك أنّ سعيد كان مُرتاحاً مع نفسه في ظلام كونراد الأخلاقيّ وتشاؤمه، ولكنّ سعيد وجد أيضاً تقاطعاً بينه وبين كونراد على أنّهما “منفيّان في عاصمتيّ عالمهما الإمبريالييّن”، هل يمكنك الحديث أكثر عمّا يربط سعيد بكونراد؟
إدوراد كان منجذباً لأولئك الذين لم يتّفق معهم سياسياً. وذلك كان واضحاً في محاكاته المبكّرة لشارل مالك، القوميّ اللبنانيّ الكتائبيّ. جزء منه أراد الدّخول في أذهان أولئك الذين احتقرهم مُثاراً بما يمكن أن ينتج عن مثل هذا الاحتكاك. ولكنّي أعتقد أيضاً أن انجذابه لكونراد كان بسبب قدرة كونراد على ابتكار نفسه واختراع أقنعة خياليّة لذاته في أعماله؛ إدوارد كان يفهم تلك القدرة ويريدها، خاصّة في محاولاته الفاشلة لكتابة رواية. كان إدوارد يريد إخفاء نفسه ومنحته قدرة كونراد على فعل ذلك بعض الأفكار عمّا يمكنُهُ فعله.
ولكنّ سعيد أيضاً رأى في كونراد ثنائيّة تكرّرت في حياته الشخصيّة، لقد اقتبست قول سعيد: “عندما بدأت أدرِّسُ في كولومبيا… نُظِر إليّ على أنّني اثنان… أستاذ الأدب… والشّخص الآخر الذي فعل تلك الأشياء التي لا توصف ولا يمكن صياغتها”، ما هي تلك الأشياء التي لا توصف ولا يمكن وضعها في كلمات؟
حسناً، أعتقد أنّها متخيّلة بشكل كبير، أعتقد أنّ ما يقوله حقاً هو أنّه رغم بلاغته ونجاحه كأستاذ جامعيّ، لم يستطع من حوله تجاوز حقيقة أنّه كان مختلفاً، بعيداً قليلاً وكأنّه من عالم آخر. كان حضوره يثير شعوراً بالنّقص لأنّه كان عالمياً وذو عمقٍ كونيّ لم يملكه الآخرون. لقد رأوا شيئاً هائلاً في الرّجل الذي تحدث العربيّة وعرف الإمبراطورية البريطانيّة من الداخل والخارج وترعرع فيها. ولذلك، لم يكن الأمر ما فعله، بل ما كان يفكّر فيه.
لطالما اعتقدت أنّ المسألة لبيديّة نوعاً ما، أيّ تشتغل على مستوى عدم ثقة سيكولوجيّة جنسيّة بالعرب، ككتاب جوزف مسعد “Desiring Arabs”، هل كانت هناك أيّ عواقب للانتباه الذي أحاط بسعيد؟
نعم، كان ذلك واضحاً بمجرّد وصوله إلى نيويورك، لقد أحبّها وشعر بنفسه في بيته وحتّى في بيت طفولته. بمجرّد وصوله إلى المدينة كانت أمورها ترتّبت على أكمل وجه؛ كان المحبوب، الوسيم، اللّبق، المرح، الذي يكتب بإتقان لذلك النوع من الجمهور الثقافيّ، وكانت لديه هالة المتخرّج من جامعة كولومبيا، كما جعلته أصوله غير المعروفة محطّ فضول واهتمام. ولكنّ الأمور تغيّرت بعدما نشر كتابه: «المسألة الفلسطينيّة The Question of Palestine»، فقد خلق الكتاب إشكاليّة في الوسط الإعلامي في مدينة نيويورك جعلته محطّ اهتمامٍ ومتابعة من قبل أناس مثل “سايروس فانس”، و”جورج شولتز”، الذي كان لسان حالهم: “حسناً يمكنه أن يكون منطقياً، يمكن التفسير بعناية وصبر، يملك التقنيات البلاغية والأدلّة على حججه”،”يتكلّم بطلاقة ولا أحد رأى شيئاً كذلك من قبل”! لقد شعروا بالتهديد، شعروا أنّ هذا الشخص يمكنه طرح القضيّة الفلسطينيّة بطريقة تجتذب المزيد والمزيد من النّاس. وهكذا بدأو بوضعه على القائمة السوداء، وكان صعباً عليه النّشر في مجلّات مثل مجلّة The New York Review of Books، فيما عدا النّشر في نوع معيّن من الأشياء. وكان هناك الكثير من المراسلات مع مجلّة The New York Times الذين كانوا يجيبونه:”حسناً، نحن مهتمّون ولكن فقط إن ابتعدت عن السّياسة، فقط لو تكلّمت عن طفولتك!”
وفي ذلك الوقت ظهرت مقالة سعيد الأولى لمجلّة The London Review of Books التي تحدّث فيها عن علاقة الصحافة بالسّلطة، لقد أسّس لفكرة نقد وسائل الإعلام، لماذا؟
يمكنك القول أنّ كتابه «تغطية الإسلام» كان الكتاب الذي جسّد بشكلٍ مثاليّ فكرة نقد وسائل الإعلام التي كان يقرأ عنها لدى آخرين، فقد كان عديد الكتاب الذين سبقوا سعيد في دراسات هامّة عن وسائل الإعلام مثل إدوارد هيرمان وآرماند ماتيلارت. مجادلة سعيد هي أنّنا بحاجة إلى تفكيك تحيّز وسائل الإعلام بشكل منهجيّ وبنيويّ بما يتعلّق بتغطية الشّرق الأوسط، مدخِلاً مفاهيماً من النّقد الأدبي كفكرة إشكاليّة التمثيل والتدخّل الرأسمالي في التغطيات الإخبارية.
نعم ولكن هل تعتقد أنّ نقده كان دائماً بنيوياً؟ أفكّر في مقالته في مجلّة The London Review of Books، المعنونة:”Permission to Narrate”، والتي جادل فيها أنّ هناك معياريّة معيّنة تطبّق عند التطرّق إلى فلسطين، لماذا اعتقد ذلك؟
لقد حاول سعيد إقناع النّاس أنّ المشروع الصهيوني موضوعياً كان مشروع إبادة جماعيّة قام على أساس تفكيك وإنكار وجود شعبٍ معيّن، إضافة إلى منعه من الارتباط ذاتيّاً بنفسه ومنعه من رواية قصته. وهكذا تمّ تحريم أيّ شيء (في الإعلام) قد يخلُقُ الانطباع بأنّه كان هناك شعبٌ بتاريخ وإرث ثقافي وكان واعياً لنفسه كجماعة وطنيّة.
من المثير للاهتمام أن تقول ذلك، هل سبق لسعيد وصف ما تفعله وفعلته إسرائيل للفلسطينيين كإبادة جماعية Genocide؟
بحسب ما أعرف، كلّا، لم يستخدم تلك الكلمة من قبل، رغم أنّها بالنسبة لي هي الكلمة الملائمة ولكنّي لا أعتقد أنّه استخدمها من قبل. برأيي اعتقد سعيد أنّها كلمة إشكاليّة تثير الاستقطاب وسط النّاس الذين كان يحاول الوصول إليهم، ولكنّ كتب العديد من المقالات التي وضَّحت ممارسات التفكيك، الإبادة والإنكار الذي تعرّض له الوجود الجمعيّ الفلسطينيّ وهو ما كان يتلاءم وتعريف الأمم المتحدة الرسميّ لماهيّة الإبادة الجماعية.
ذلك ما لا أفهمه، بالنّسبة لي هذا نوع من التهرّب وأعداء الفلسطينيين يفهمون ذلك بعمق ويفرضون مراقبة على معايير اللغة المعقولة وغير المعقولة. ذلك شيء نراه فيما يتعلّق بحركة المقاطعة، سحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، والتي حوّلتها المجموعات الصهيونية إلى موضوع لا يليق الخوض فيها في المجتمعات النخبوية.
ذلك صحيح.
أريد الحديث عن حركة المقاطعة للحظة؛ لقد مات سعيد عام 2003 وتأسست حركة المقاطعة عام 2005، ولاحقاً أصبح برنامج الأوركسترا ديفان الشرقيّة الغربيّة الذي أسسه سعيد بالاشتراك مع الإسرائيلي دانيال بيرنباوم مستهدفاً من قبل مؤسس حركة المقاطعة عمر البرغوثيّ. وأيضاً كان هناك مآخذ من قبل بعض أفراد أسرة سعيد، مثل أخته غريس، على البرنامج بسبب دوره في تطبيع دولة إسرائيل. ومع ذلك، فهي وآخرون قالوا أنّه لو ظلّ سعيد حيّاً حتّى تأسيس حركة المقاطعة لكان داعماً لها اليوم.
أتّفق مع غريس، فسعيد نفسه كان فاعلاً ناشطاً في مقاطعة الشركات الإسرائيليّة قبل عام 2003، وكان غاضباً جداً على زملائه وأصدقائه في جامعة كولومبيا لعدم التزامهم بمقاطعة أيّ شركة إسرائيليّة تستثمر في الأراضي المحتلة. وربّما كان سيكون موقفه، وهو موقف حركة المقاطعة، أنّ المقاطعة ليست مسألة أفراد بل هي مسألة مؤسسات، وأن هذه المؤسسات يجب معاقبتها على ما تفعله.
لقد أهديت كتابك للشعب الفلسطيني، لماذا؟
أعتقد أنّ قربي من إداورد علّمني أن أكرّس طاقتي لمحاولة فعل شيءٍ ما للقضيّة، لقد علّمني عدم التّفكير بالمخاطر المهنيّة المترتّبة على موقفي من فلسطين. بالنّسبة لي فلسطين هي الاختبار الحاسم لصدق أيّ سياسة شخصيّة مناهضة للاستعمار، وإن كان المرء مستعدّاً للحديث عن الظلم الهائل الذي أوقعته الصهيونية على الشعب الفلسطيني أم لا. أعتقد أنّ هذا السؤال هو أحد أكبر الأسئلة الأخلاقية في عصرنا.
تستضيف “مكتبة الأرشيف” تيموثي برينان عبر زوم في حوار خاص عن إرث إدوارد سعيد، غداً السبت وفي هذه الصفحة.