مدخل إلى السّياسات النّفسيّة: الذّات الإنجازيّة واستعبادُ الذّات

Hani Zurob, ZeftLand #03, detail, 2018 Tar, tree branches and mixed media on canvas, 240x100 cm

أنس إبراهيم

كاتب من فلسطين

كذلك لم يعد التمييز بين طبقة برجوازية وبروليتاريّة قائماً، فالبروليتاريا تعني حرفياً أنّ المرء لا يملك عدا أطفاله/ها: وهُنا ينسحبُ مفهوم إنتاج الذّات فقط على الوظيفة البيولوجيّة الإنجابيّة. لكنَّ الوهم القائم اليوم أنَّ الجميع – كمشارع حرّة لإعادة اختراع نفسها بإرادتها – قادرون على إعادة إنتاج أنفسهم بشكلٍ لانهائيّ. وذلك يعني أنّ ديكتاتوريّة البروليتاريا أصبحت مستحيلة عملياً وبنيوياً، ما يُفسِحُ المجال لديكتاتوريّة رأس المال بشكلٍ مُطلق. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

19/08/2021

تصوير: اسماء الغول

أنس إبراهيم

كاتب من فلسطين

أنس إبراهيم

وروائي، حاصل على ماجستير في الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بيرزيت.

“سيثبَتُ لاحقاً أنّ الحريّة كانت مجرّد “فاصل”؛ فالحريّة تحسُّ عند الانتقال من نمَطٍ حياتيّ إلى آخر، حتّى يتضح أنّ النمط الآخر هو شكلٌ من أشكال الإكراه، عندها يُفسحُ التحرّر مكاناً للإخضاع، ويكون التّلاشي مصير الذّات الحرفيّ”؛ بهذه الكلمات يفتتح بيونغ تشول-هان كتابه: “السّياسات النيوليبراليّة وتكنولوجيا القوّة الجديد Pychopolitics: Neoliberalism and New Technologies of Power”، الذي يتمحور حول مفهوم السّياسات النفسيّة Pychopolitics الذي يُشيرُ إلى مجموع ممارسات وسياسات السّيطرة التكنولوجيّة الذكيّة النيوليبراليّة على الجُموع البشريّة في المجتمعات النيوليبراليّة. وعلى النّقيض من مفهوم السّياسة الحيويّة Biopolitics الذي يُشيرُ إلى مجموع تقنيات الضّبط والسّيطرة التي تهدف إلى إخضاع الأجساد والسّيطرة على السكّان” لضمان “استدامة، استمراريّة ومُضاعفة الحياة لتطويعها مع النّظام القائم”، يدّعي هان أنّ السياسات النفسيّة هي النّقيضُ ظاهرياً لعصر السّلطة التأديبيّة والسياسة الحيويّة. 

فالصّفة الأساسيّة للسّلطة التأديبيّة هي القَمْع، قمع المُتعة والرّغبة، فحيثُما ظهرت الرّغبة تكون علاقات القوّة حاضرة لضَبْطِها، قمعها ومُلاءَمَتِها والحالة الاجتماعيّة المُهيمنة، من خلال مجموع القيم والتقاليد الاجتماعيّة المتّفق عليها. تنحَتُ السّلطة التأديبيّة الجسَدُ ليكون وحدة إنتاجيّة، تُنسِّقهُ عظمياً وبدنياً ليُصبِحَ آلَةً إنتاجيّة، وتكون آليّات الضّبط هي “الأساليب التي تجعل من الممكن التحكّم الدقيق في عمليّات الجسد، والتي تضمن خضوعه المستمرّ لقوّاتها، وتفرضُ عليه علاقات تجعله طيِّعاً وسهل الانقياد”

إنَّ السّلطة التأديبيَّة هي سُلطَةٌ قِيَمِيّة، فهِي تُخضِعُ الذّات لمجموعةٍ من القَواعد السّلوكيّة، القِيَمْ، الأوامر والمَوانع، وتُحيِّدُ أيَّ انحرافٍ أو شُذوذٍ، وهذا الطَّابعُ التدريبيِّ السّلبيِّ هو طابعٌ مؤسِّسٌ للسّلطة التأديبيّة؛ وفي سُلوكها السّلبيّ هذا تقتربُ من التّماثل مع السّلطة السياديّة التي تقوم على السّخرة والجِباية الضّريبيّة؛ فالسّلطتان السّيادية والتأديبيّة تستندانِ إلى منطقٍ الاستغلال الإجباريّ Allo-exploitation؛ أيّ استغلال السّلطة للأفرادِ غَصْباً، خالِقَةً بذلك الذّات الطَيِّعة Obedience-Subject. ورغم أنَّ التقنيّة التأديبيَّة تتجاوز التأديب الجسديّ المُباشر لتصل إلى التأديب الذهنيَّ، إلَّا أنَّها لا تُركِّزُ على النَّفْس، بقدَر ما يتركَّزُ قمعها على إجبار الأجسادِ على نَسَقٍ ثابِتٍ من العمَلِ الشاقِّ الدَّائم. لكنَّها لا تتمكَّنُ من اختِراقِ الطّبقاتِ المخفيَّة من الوعي النفسيّ لتتحكَّمَ بالرّغبات الداخليَّة، الحاجاتِ أو الأمنياتِ والاستيلاءِ عليها وتحويلِها، كما تفعلُ السّياسات النفسيَّة، لتعمَلَ لصالحها. فالأخُ الأكبَرُ الخاصَّ بجيريمي بِنثام، الذي يُراقبُ سجناء البانوبتيكون-السّجن، يتمكَّنُ فقط من مُراقبة السّجناء من الخارج، فهُو مجرَّدُ وسيط بصريَّ لا يُمكِّنُ الأخ الأكبر من الوُصول إلى أفكار السّجناء الدّاخليّة. 

لقد اكتشفَتْ السّلطة التأديبيَّة “السكَّان Population”، الذين كانوا في السَّابق مجرَّد رَعايا أو جزءاً من ملكيّات أرستقراطيَّة؛ وقد تحوَّلوا إلى قوَّة إنتاجيَّة يجبُ التَّعامل معها بحذَر. هُنا ظهرَتْ السّياسة الحيويَّة Biopolitics، التي تولَّت هذه المهمَّة من خلال عدد من الخطابات العموميّة والرّسميّة، الطبّيّة، الصحيّة، النّفسيّة والشُّرَطيَّة التي تدخَّلت في تنظيم الحياة البشريَّة والتدخّل في كلّ جانبٍ من جوانب الحياة البشريَّة بشكلٍ قمعيّ، تنظيميّ وتأديبيّ. تعاملت هذه الخطابات مع المُشكلة السكّانيّة بوصفها ثروة بشريّة أو قوّة عاملة، وجب إبقاؤها في حالة من التوازن ما بين الحفاظ على استمراريّتها وما بين ضرورة توفير الموارد اللازمة لإدامة هذا النموّ؛ وللحفاظ على هذا التّوازن كان من الضّروريّ الإحاطة الرقميّة والبيانيّة بالسكّان من خلال معدّلات الوفاة والولادة، معدّل الحياة المتوقّع، الخُصوبة، الحالة الصحّية والحالات المرضيّة، وغيرها من البيانات التي شكَّلت في مجملها ما يُسمِّيه فوكو بالسّياسة الحيويّة. السّياسة الحيويّة الجنسيَّة التي تقمع وتنظِّم العلاقات الجنسيَّة وتُحرِّمُ منطق المتعة وتحوّل الجنس إلى حيِّزٍ إنتاجيّ بشريّ؛ السّياسة الحيويّة النفسيَّة التي قمَعَت وأدّبت النّساء، المجانين، متعاطي المخدّرات والكحول، المرضى النفسيين بالاكتئاب أو الاحتراق النفسيّ أو الشيزوفرينيا، والتي حوّلت المشافي النفسيّة إلى مؤسسات تأديبيّة تهدف لإعادة تأهيل هذه القوّة البشرية العاطلة وغير الإنتاجيّة وإعادتها مرّة أخرى إلى السّوق، أو مواقعها الإنتاجية الأصليّة لتُساهم في الإبقاء على حالة التوازن الديمغرافية التي تخدِمُ نموّ الرّأسماليّة الصناعية – أو على الأقل، الحفاظ على هذه الفئة غير الصّالحة والعاطلة من النّاس معزولة عن الجُموع السكّانيّة العاملة. هكذا، أصبحَتْ السياسة الحيويّة هي التقنيَّة الحكوميَّة للسّلطة التأديبيّة.

إشكاليَّات السّياسة الحيويّة في تحليل العصر النيوليبراليّ 

يدَّعي هان أنَّ ثمَّة إشكاليّات نظريَّة في مفهوم السّياسة الحيويّة تجعلهُ غيرُ مُلائمٌ لتحليل ظواهِر السّيطرة والتأديب في العصر النّيوليبراليّ؛ فالسَّلطة في النّظام النّيوليبراليَّ تتراجَعُ مُتخلِّية عن حقِّها وممارساتها التأديبيَّة المُباشرة التي تتصِّفُ بالإجبارِ الخارجيّ، حيثُ ثمَّة سُلطة مُباشرة تستغلُ الإنسان وتؤدِّبُ جسَدهُ لجعلهِ طَيِّعاً مُلائِماً لأنماط الإنتاج، فِيما يُعرَفُ بالـ Allo-exploitation. فالسّلطة في النّظام النّيوليبراليّ هي السّلطة الذكيّة Smart Power والتي تعملُ بحسَبِ هان على استغلال الذّهن Pysche؛ لكنَّ السياسة الحيويَّة التي تشتغلُ على الإحصاءات السكّانية لا تتمكَّنُ من الولوج إلى مملكة الذّهن، وبالتّالي لا تتمكَّنُ من الإتيانِ ببياناتٍ ذهنيَّة Pyschogram سُكَّانيّة. فالدّيمغرافيا Demography، ليسَتْ نفسُها الـسايكوغرافيا Pyschography؛ فالدّيمغرافيا لا تعكِسُ الحالَة الذهنيَّة للسكّان؛ لكنَّ الـBigData، تستطيعُ فعل ذلك، وإنْ كانت الإحصاءات هِي الأداة القياسيَّة للسياسة الحيويّة، فالBigData هِي الأداة القياسيّة للسياسات النفسيّة Pyschopolitics. فالـBig Data قادرة لا فقط على تأسيس بياناتٍ ذهنيَّة فرديَّة، بل بإمكانِها تأسيس بياناتٍ ذهنيَّة جمعيَّة، بل “وربَّما تأسيس بياناتٍ ذهنيَّة للاوعيّ نفسه؛ وفي ذلك تكونُ قادرةً على الولوج إلى أعماقِ الذّهن واستغلال الوعي واللاوعي بكلِّيتهما”. 

من الذّات Subject إلى المّشروع Project

لا نُفكِّرُ اليوم بأنفسنا كذواتٍ خاضعة لبناء اجتماعيّ خارجيّ، بل نفكِّر بها كمشاريعٍ Projects لا كذوات Subjects؛ ذواتٌ دائماً ما تعيدُ اختراع ونمذجة نفسها. فثمّة شعورٌ بالحريّة في إمكانيّة التحوّل من ذاتٍ إلى مشروع، فالمشروع يُفكِّرُ بنفسهِ حرَّاً من العوائق والمحدَّات الخارجيّة. وهُنا، يتقاطع تحليلُ هان للذّات-المشروع مع تحليل باومانِ لسلوكِ الأفراد في عالم الحداثة السّائلة، وشعورهم بأنّهم يعيشون في عالمهم مليءٍ بالفرص، ما يخلُقُ شعوراً مسيطراً بالحريّة – والسّيولة المُطلقة – بسبب قدرتهم على الانتقال من فُرصةٍ إلى أخرى، مستمتعين بين الفرصة والأخرى بلذّة التحوّل والخفّة في تحقيقه، لكنّ زواله الحتميّ المرتبط بخفّته وبأنّ ثمّة فرصة أخرى تلوح في الأفق يولِّدُ بعض المرارة التي سُرعان ما تزول بلذّة التحوّل التالي. فيعيشُ الإنسانِ بَينَ لذّتَينِ بطعمِ المرارة، فالصَّيرورة المستمرّة النّاشئة عن الشّعور بالخفّة والقدرة على التحوّل، تعني في الآن ذاته، أن ما من شيءٍ نهائيّ وأنّ كلّ شيء يحدُثُ في المستقبل، بمعنى أنّ الحياة في هُنا والآن، ليست هي الحياة لا النهائية ولا الأكثر كَمالاً، وأنّ الحياة النهائية “في مكانٍ آخر”، ولا بدّ من الاستمرار في السّعي وراءها.

هنا تنتقلُ مهامّ السَّلطة التأديبيّة القَديمة إلى الذّات-المشروع التي تستبدلُ التقييدات والضّوابط الخارجيّة بتقييداتٍ وضوابطٍ سلوكيّة ذاتيّة تأخذُ نمطاً قهريّاً لتحسين الذّات – فتستبدلُ القمعَ الخارجيّ بقمع ذاتيٍّ تأديبيٍّ للجسَدِ وحركَتهِ للتمكَّن – أو إدامَةِ حالَةِ الخفَّة أو القُدرة على اغتنام الفُرصة التّالية. 

فإن كانت حرّية سارتر الوجوديّة تجلبُ الدّوار، فنحنُ الآن وفقاً لتشول هان، نعيشُ في مرحلة تاريخيّة تجلبُ فيها الحرية الإكراه والضّبط الذاتيّين. فحرّية الـ أستطيع Can، تولِّدُ إكراهاً أشدّ قمعاً وتأديباً من الـ يجب/عليك Should التي تصدُرُ عن السّلطة التأديبيّة كأوامرٍ وموانع. فالـ يجب لها حدودها – التي تعرِّفها السّلطة التأديبيّة – على العكس من الـ أستطيع Can اللامحدودة، ما يولِّدُ دورةً لانهائيّة من الإكراه القهريّ الذاتيّ. وهُنا تظهَرُ مُفارقَةُ السياسات النّفسيّة النيوليبراليّة التي تحُوِّلُ الشّعور بالحرّية الفرديَّة – التي يُفترَضُ بها أن تكون النّقيض من الإجبار والإكراه – إلى سوطِ الذّاتِ على نفسها لتحسينِها، تَجْمِيلِها وإعادة إنتاجها بشكلٍ دائمٍ، فإنْ كانَ من الممكنِ دائماً فعلُ ذلك – بِدايةً من التدخّلات الجراحيّة التَجْميليّة، مُروراً بدُروس التَنْمِية البشريّة والمُساعدة الذّاتيّة وليسَ انتهاءاً بالشّعور القهريّ بضرورة العمَلِ الدّائمِ وتحسينِ المهارات العمليّة – فلا بدّ إذنٍ من تحسِينِها بشكلٍ دائمٍ؛ لأنّ انعِدامِ النّسخة الأفضَل من الذّات، يعني أن ثمّة نسخة أفضلٌ في مكانٍ ما.

بهذه الكيفيّة تُنتِجُ السياسات النفسيّة النيوليبراليّة ما يُسمِّيه هان بالذّات الإنجازيّة Achievement-Subject؛ أيّ الذّات المشروع التي تفكِّر بنفسها كذاتٍ حرّة لشعورها بقدرتها اللامحدود على الصّيرورة؛ في حين أنَّها تعيشُ في حالةٍ مُطلقةٍ من العبوديّة فيها يُصبِحُ الفَردُ سيِّداً على نفسهِ وعَبدَاً في الآن ذاتهِ، ويعيشُ في حالة مُطلقةٍ من استعباد الذّات. فليسَ ثمّة سيِّدٌ خارجيّ يُجبِرُ الذّات الإنجازيّة على الانهِماكِ في العمَلِ الدّائم حدّ الاحتراق والاكتئاب النّفسيّ، وعلى الرّغم من ذلك، إلّا أنّها تستمرُّ في إرغام نفسِها على العيش في حالةٍ مُطلقةٍ من الحياة العارية والسّخرة، مستعبدةً بذلك نفسها ومتسيِّدَةً عليها.  

هُنا وكنُسخَةٍ متحوِّلة عن الرّأسمالية، تحوِّل النيوليبراليّة العمّال والقُوى الإنتاجيّة التقليديّة إلى رياديين؛ فاليَومُ الجميع مُستغِلٌ Exploiter لنفسه/ها في سياق الطّموح الذاتيّ لتحقيق مشروعه/ها الخاصّ؛ فالأفرادُ أسيادٌ وعَبيدٌ في الآن ذاته، وما كانَ في الماضي صراعاً طبقيّاً بين الطّبقة العاملة والطّبقة المالكة لوسائل الإنتاج، أصبحَ الآنَ صِراعاً ضدَّ الذّات؛ ضدَّ الخُمول، ضدَّ الكَسَل، ضدَّ أوقات الفِراغ، ضدَّ العلاقات غير النّفعيّة، ضدَّ الشّرود الذهنيّ، ضدّ المُتعة وضدِّ الآخَرين المُنافِسين ممَّن كانوا، أو يُفترَضُ بهِم أن يكونوا، أعضاء الطّبقة الاجتماعيّة ذاتها. 

يدَّعي هان أن ليسَ ثمَّة بروليتاريا في النّظام النيوليبراليّ على الإطلاق، فليسَ هناك طبقة عاملة تُستغلُّ من قبل أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج. فعندما يكون الإنتاج غير مادّيٍ أصلاً، فالجميع يملكون وسائل إنتاج أنفسهم. لم يعد النظام النيوليبراليّ نظاماً طبقياً بالمعنى الصّارم للكلمة، فهو لا ينطوي على طبقاتٍ تُظهِرُ عداءاً متبادلاً وذلك ما يُشكِّلُ دعامةً لاستقراره. فشُروط عمليّات الإنتاج المُعاصرة يمكن تعريفها بمبدأ عُزلة الرّياديَّ الذي يعزلُ نفسه ويُصارع نفسه ويُمارِسُ استغلال نفسهِ طواعيةً. 

كذلك لم يعد التمييز بين طبقة برجوازية وبروليتاريّة قائماً، فالبروليتاريا تعني حرفياً أنّ المرء لا يملك عدا أطفاله/ها: وهُنا ينسحبُ مفهوم إنتاج الذّات فقط على الوظيفة البيولوجيّة الإنجابيّة. لكنَّ الوهم القائم اليوم أنَّ الجميع – كمشارع حرّة لإعادة اختراع نفسها بإرادتها – قادرون على إعادة إنتاج أنفسهم بشكلٍ لانهائيّ. وذلك يعني أنّ ديكتاتوريّة البروليتاريا أصبحت مستحيلة عملياً وبنيوياً، ما يُفسِحُ المجال لديكتاتوريّة رأس المال بشكلٍ مُطلق. 

ديكتاتوريَّة الشَّفافيَّة والمعبَدُ الرّقميّ

“أينَ تُريدُ الذّهاب اليوم؟”؛ إلى أيِّ مكانٍ في العالِم، في لحظَةٍ واحدة، ستكون/ـين فِيه. ذلك كان شعار مايكروسوفت الأوّل، وكما تبيَن لاحقاً، تلك اليوفوريا كانت مُجرّد وهم، فلا أحدَ – بالكادِ فِيما عدا القلّة البرجوازية – يذهَبُ إلى أيِّ مكان والجَميعُ يجلِسُ بِلا حراكٍ أمام الشّاشات الإلكترونيَّة الصَّغيرة مِنها والكَبيرة. كذلك تحوَّلت الحُرِّية اللامحدودة والتّواصل الكُلِّي إلى مُراقبة وسيطرة شاملتَين، وتحوَّلت شبكات التّواصل إلى بانوبتيكون رقميَّ فيهِ تُراقَبُ المملكة الاجتِماعيَّة وتُستغلُّ بِلا رحمة؛ الجَميعُ يُراقِبُ الجَميع، والجَميعُ مُراقَبٌ من بُرجِ الحِراسة الرقميَّ. فِي البانوبتيكون الرّقميّ، ليسَ ثمَّة مُجرّد حارسٌ يرى السّجناء من الخارج، بل من الدّاخل، إنَّه الذِّهن وقد أصبَحَ مُخترَقاً والسُّلوك أصبحَ شَريطاً تسجيلياً للأفكار، الرّغبات والحاجات التي يتمَّ تخزينها في سايكوغرافيا Pyschography ضَخْمَة هائِلة تُمكِّنُ الشَبَكَةَ من الوُلوجِ إلى لاوعيِ المُستخدِمِ الذي لم يعُدْ ذاتاً حُرَّة، بل أصبحَ عَميلاً Costumer لكلِّ ما تتيحهُ لهُ الشّبكة. وفي البانوبتيكون الرّقميّ ثمَّة حُمَّى الرّغبة في أن نكون غيرنا؛ أن نكونهم [هم الآخرين، الذين كانوا ذاتَ مرَّة جحيماً] لأنَّهم يُتقنون تَجْميل أنفسهم بطَريقةٍ أفضَل منّا؛ نُريدُ تلك النسخة المُحسَّنة إلى أقصَى درجة ممكنة، حتَّى ولو ستدومُ للحظَةٍ واحدةٍ فقط تكفِي لالتقاطِ صورةٍ شخصيَّة لنضعها على الفيسبوك. 

“كنَّا لتوِّنا حرَّرنا أنفسنا من البانوبتيكون التأديبيّ، ولكنَّنا عُدنا ورمَينا بأنفسنا إلى بانوبتيكون جديد كلّياً، وأكثر كفاءةً من سابقه”، وفي البانوبتيكون الرّقميّ، ينهمك شاغلو هذا الفضاء الرّقميّ بالتّواصل بنشاطٍ مع بعضهم البعض وبطواعيةٍ يكشفون عن أنفسهم؛ أيّ أنهم متواطئون في عمليات البانوبتيكون الرقميّ وليسوا مجبرين على أيّ شيء؛ فالحرِّية اليوم هي مُرادفُ الفَضيحة، والرَّغبة في الانفضاحِ أمام الآخرين هي المُحرِّكُ الأوَّل للسلوك البشريّ على الشبكة الاجتماعيّة. هنا تستفيدُ السَّيطرة الرقميّة بشكلٍ كبير من الحريّة الفرديّة، وفي ذلك يعود الفضل إلى الرّغبة في كشف الذّات وفضحها الطّوعيّ من قبل المستخدمين. 

ندخلُ إذن، عصر السّياسات النفسيَّة الرّقميَّة؛ أي الدّخول من عصر المُراقبة السَّلبية إلى التّوجيه الفعّال للأفراد؛ وذلك ما يجعلُ الإرادة الحرّة نفسها على المحكّ، فكما اشتغلت السّياسة الحيويَّة من قبل كخادِمةٍ للسلطة التأديبيَّة وأداةٍ فعّالة في هندسة السكّان، تشتغلُ الـ Big Data كأداةٍ سياسيّة نفسيّة شديدة الفعالية بإمكانها تحقيقُ معرفةٍ دقيقة بديناميكيات التّواصل/التفاعل الاجتماعيّ، وهي المعرفة التي تُكرَّسُ لتحقيق الهيمنة والسَّيطرة، إذ تمكِّنُ السّلطة ورأسالمال من التدخّل في النّفس [الذّهن] والسّيطرة عليها سلوكياً على مستوى اللاوعي. 

وكما لكلِّ نظام، ولكلّ تقنية هيمنة، أدواتٌ طيِّعة تشتغلُ وظيفياً على الإخضاع وتُجسِّدُ وكذلك تُدعِّم الهيمنة، تظهر الهواتف الذكيَّة بوصفها أداة الطَّاعة في الحقبة الرّقمية. فالهاتفُ الذكيّ، بحسب هان، بوصفهِ أداة إخضاعٍ، يمكنُ مماثلته بالمسبحة؛ فكلاهُما، يخدِمان غاية مراقبة الذّات والسّيطرة عليها، وهنا، تفوِّضُ السّلطة للأفراد مهمّة مراقبة الذّات والبَقاء في عالَمِ الشّبكَة الافتراضيّ، ويُصبِحُ زرّ الإعجاب Like هو الـآمين Amen الرّقميّ:””فعندما نضغطُ زرّ الإعجاب نحنُ ننحني لنظام الهيمنة، فالهاتفُ الذكيّ ليس مجرّد جهاز مراقبة فعّالة، بل هو مقصورة اعتراف متنقّلة: ففيسبوك هو المعبَدُ العالميّ الرّقميّ”. 

الكاتب: أنس إبراهيم

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع