كتبها بانكاج ميشرا*، نشرتها مجلّة The New Yorker في ١٩ إبريل ٢٠٢١.
“بروفيسور الإرهاب”؛ ذلك كان عنوان عدد مجلّة Commentary الصّادر في أغسطس عام 1989، وداخله كانت هناك مقالة تصفُ إدوارد سعيد، أستاذ الأدب المقارن واللغة الإنجليزية آنذاك في جامعة كولومبيا، بأنّه أمين سرّ ياسر عرفات والنّاطق باسم الإرهابيين الفلسطينيين. “إدواردو سعيد Edurdo Said”؛ هكذا أشير إليه في ملفّه لدى الـ F.B.I، مكتب التحقيقات الفيدرالية، البالغ عدد صفحاته 238 صفحة، ربّما كان ذلك عائداً إلى ظنّ المكتب أنّه لتكون إرهابياً فلا بدّ من امتلاكك اسماً لاتينياً. كذلك كان يتهجّأ الروائيّ البريطانيّ من أصولٍ هنديّة، فيديار سوراجيراساد نيبول، اسم سعيد Said بشكل خاطئ متعمّد ليُماثل إيقاع كلمة Head، مؤكّداً أنّه، أي سعيد، “كان مصرياً ضائعاً في العالم”. أدرك سعيد، وهو العربي المسيحيّ الذي اعتُقِدَ خطأ أنّه مسلمٍ بشكل متكرّر، خُطورة أن تكون في موضع خطأ التعريف أو إساءة الفهم. وفي “الاستشراق” (1978)، الكتاب الذي جلب له الشهرة، كان قد عزم كما بيَّن في المقدّمة على الإجابة عن سؤال ما يكون المرء حقاً: “?What one really is”. وذلك كان سؤالاً ملحّاً بالنّسبة لرجل كان في الوقت ذاته ناقداً أدبياً، رسّاماً كلاسيكياً، ناقداً موسيقياً، وفي تقدير البعض، الشخصيّة الثقافية الأشهر في نيويورك آنذاك بعد حنّة آرندت وسوزان سونتاج، وكذلك أبرزُ المُدافعين عن الحقوق الفلسطينيّة في الولايات المتحدة الأمريكية.
منذُ لحظة ولادته في غربيّ القدس عام 1935، ومنذُ غنّت له القابلة بقُربه بالعربية والعبريّة معاً، منذُ تلك اللحظة وإرثُ سعيد هو إرث الذّوات المتصارعة في تعددها. كانت عائلته غنية وأسقفيّة، وقد سمّاه والده الذي أمضى أعواماً طويلة متفاخراً ببشرته الفاتحة، سمّاه إدوارد تيمّناً بإدوارد ويلز البريطانيّة. لطالما مقت سعيد اسمه، خاصّة عند اختصاره لـ إد، وعندما أرسِلَ كمراهق إلى مدرسة داخلية أمريكية، وجد التّجربة “مركبة ومحطِّمة”. كان قد أصبح متعصّباً لميشيل فوكو ومتحمّساً للنظرية الفرنسيّة بعد دراسته في جامعتيّ برينستون وهارفارد كطالبٍ أدبيّ ضمن التقليد الأوروبيّ الأمريكيّ الإنسانيّ. ولكن، في “الاستشراق”، الذي نُشرَ بعد عقدين من مسار مهنيّ تقليديّ، وصفَ سعيد نفسه بشكلٍ مفاجئ بـ”الذّات الشرقية”، متُهتماً تقريباً كلّ التقليد الغربيّ من دانتي إلى ماركس بالتورّط بالتحقير المنهجيّ للشرق.
تمكّن كتاب “الاستشراق” من أن يكون، ربّما، من أكثر الكتب الأكاديمية تأثيراً مع نهاية القرن العشرين، فقد ساعدت حُججه على توسيع دراسات ما بعد الاستعمار وكذلك الدراسات النّاقدة للاستعمار. لكنّ سعيد أخذَ يشعُرُ بوضوحٍ أكبر أنّ “النظرية” تُشكِّلُ خطراً على الطلبة، مُستهزئاً من الإطناب اللغويّ ما بعد الحداثيّ المتشظِّي “لمنظّرين أمثال جاك دريدا الذي اعتبره مجرّد “غندور يعبثُ هنا وهناك”. وقبل موته بقليل، تعاون المُشارُ إليه ببروفيسور الإرهاب، مع المايسترو الإسرائيليّ دانييل بارينباوم، لإنشاء أوركسترا تضمّ موسيقيين عرباً وإسرائيليين، مثيراً بذلك غضب الكثير من الفلسطينيين من ضمنهم أفراد عائلته، الذين دعموا حملة المقاطعة وفرض العقوبات ضدّ إسرائيل. ورغم ظهور وجهه الوسيم مطبوعاً على قُمصان ولافتات المُتظاهرين اليساريين في الشّوارع حول العالم، إلّا أنّ سعيد حتّى النّهاية كان قد حافظ على ذوقٍ لساعات الروليكس، وبدلات Burberry، وأحذية Jermyn Street، حتّى وفاته عام 2003 جرّاء اللوكيميا.
“أن تكون شامياً، يعني أن تعيش في عالمَين أو عدّة عوالمٍ في الآن ذاته دون الانتماء لأيٍّ منها”، هكذا كتب سعيد مرّة مقتبساً المؤرّخ آلبرت حوراني، “وذلك يتمهظر في الضّياع، في التّظاهر، في السّخرية السوداء وفي اليأس”. كما شكّلت مذكّراته الميلانخوليّة عن الاجتثاث والفقد دعوةً لكُتّاب السيّرة المُستقبليين لسبر الصّلة بين حياتيّ الشخصيّة موضوع الكتابة الذهنيّة والشّعوريّة. والآن، بحذَر يقبلُ تيموثي برينان، صديقُ سعيد وطالب دراسات عليا سابق لديه، بحذَرٍ يقبل تلك الدّعوة في كتابته لسيرة سعيد الذاتيّة “Places of the Mind” عن دار Farrar, Straus & Giroux. موجزاً في تتبع حياة سعيد الخاصّة، بما في ذلك علاقاته الزوجيّة والرومانسيّة، ركَّز برينان عمله في مسار سعيد الفكريّ والسياسيّ. ومن الاكتشافات نصف المجهولة الواردة في الكتاب، هو كم كان سعيد قريباً، مُستفيداً من ثروته الشاميّة وتعليمه الراقي، من أن يكون نوعاً من الفتى الرّاقي اللعوب الذي يُطارد النّساء على طول السّاحل الشرقيّ بسيّارته الألفا روميو. ففي القُدس، ذهب سعيد إلى مدرسة سان جورج للأولاد الخاصّة بأبناء الجماعات الحاكمة في المنطقة، وفي القاهرة التي انتقلت العائلة إليها عام 1947، قبل وقتٍ قصير من احتلال الميليشيات اليهودية للقدس الغربية، ذهب إلى الكلّية البريطانيّة الفكتوريّة. وهناك كان معروفاً بشكل رئيسيّ بعلاماته المتوسّطة وكذلك بسلوكه التمرّديّ، وهناك أيضاً درس برفقة من سيكون لاحقاً الملك الأردنيّ، الملك الحُسين، وكذلك الممثّل عمر الشريف.
كانت القاهرة آنذاك المدينة الرئيسيّة في عالمٍ عربيّ يخرُجُ بشكلٍ مُتسارع من الحقبة الاستعماريّة إلى حقبة مشحونة سياسياً؛ فقد كان إنشاء دولة إسرائيل الذي تبع قرار الأمم المتحدة على أرض فلسطين وما خلّفته من كارثة اللاجئين والحُروبُ الوشيكة، كلّ ذلك كان حاضراً في ذهن الجميع. لكنّ سعيد كان يعيشُ في فقاعة للأثرياء العالميين؛ كان يتحدّث الإنجليزيّة والفرنسيّة بشكل أفضل من العربيّة ويذهبُ إلى الأوبرا المحلّية. وعندما كان في السادسة من العمر بدأ يعزف على بيانو من نوع Blüthner للأطفال، أتِي به خصيصاً من لايبزيج، ولاحقاً بدأ بتلقّي دروس خاصّة في العزف من قبل Ignace Tiegerman، اليهوديّ البولنديّ المشهور بتفسيراته لكلّ من شوبن وبرامز. آنذاك، كان والد سعيد الذي أدار عملاً ناجحاً في توريد المنتجات المكتبيّة يملكُ طموحاً اجتماعياً، وكان قد طوّر إعجاباً شديداً بالغرب خلال الوقت الذي قضاه في أمريكا إلى الحدّ الذي دفعه إلى التّفكير بالاستقرار نهائياً في الولايات المتحدة. ولكن، وبدلاً من ذلك، اكتَفَى بإرسال ابنه عام 1951 إلى مدرسة نورثفيلد ماونت هيرمون في ريف ماساشوسيتش.
يُظهرُ برينان كيف كان سعيد في بداياته، كما اعترف سعيد مرّة، “صنيعة تعليم أمريكي، بل وحتّى صنيعة تعليم الطبقة العُليا البيضاء الأنجلو ساكسونيّة البروتستانتية”، على مسافةٍ بعيدة من “المصير العقابيّ الاستثنائيّ” الذي لحق بالعربيّ الفلسطينيّ في الغرب. إذ بدا أنّه كان على صلة أكبر بحفلات عازف البيانو غلين غولد في بوسطن، من صلته بالزلازل التي كانت تُشقِّقُ أرض العالم ما بعد الكولونياليّ مثل مشروع القفزة العظيمة إلى الأمام [الصّينيّ]، وكذلك اندلاع التمرّد الجزائريّ ضدّ فرنسا. وكانت الثّورة المصرية قد انفجرت بعد وقت قصير من رحيله إلى الولايات المتحدة، وتلاها إحراق عُصبة من المتظاهرين لمتجر والده للأدوات المكتبية، وخلال عقدٍ من الزّمان كانت العائلة بأكملها انتقلت إلى لبنان. ومع ذلك، بدا أنّ تأثير هذه الأحداث على سعيد كان أقلّ بالمقارنة مع تأثير التيارات السياسيّة في دولته الجديدة. فقد كتب برينان أنّ “مجيء سعيد إلى الولايات المتحدة في ذروة الحرب الباردة سيصبُغُ مشاعر سعيد تجاه الدّولة حتّى نهاية حياته”.
في عام 1955، كتبَ النّاقد والكاتب الأمريكي ألفريد كازين معبّراً عن قلقه من أنّ المثقفين كانوا قد وجدوا في أمريكا مبدأ “أرثوذكسيّة” جديد؛ أيّ التّفكير في البلاد بوصفها “روح العالم وأمل العالم”. وكان هذا الإجماعُ مُدعَّماً من قبل نمَطِ حرفَنَة professionalization الحياة الثقافيّة من خلال الوظائف في الجامعات، والإعلام ومؤسسات النشر، ومَنحِ مراكز البحوث الكُبرى للبوهيميين السابقين والكادحين البؤساء [المثقّفين] المال والمكانة الاجتماعيّة. وفي هذه اللحظة بالذّات كان سعيد قد بدأ مساره المهنيّ، في اللحظة التي أصبحَ فيها عديد المثقّفين الأمريكيين الصاعدين وفقاً لتحليله الصّارم، بمثابة “أبطالٍ للقويّ”.
ومع ذلك، فإنّ دافعه الأوّلي كمهاجر قلق كان، كما وصف لاحقاً، أن يجعل من نفسه الشّيء الذي تطلَّبَهُ النّظام منه أن يكونه. وكان معلّموه الأوائل بمثابة رموز في الثقافة الأدبيّة الأمريكيّة مثل ر. بي. بلاكمور وليونيل تيريلينج. وقد كتب أطروحة نالت جائزة عن كونراد، وكذلك قرأ سارتر ولوكاش، واستوعب في كتاباته الأولى وبصدقٍ كلّ الاتجاهات المهيمنة آنذاك في دوائر اللغة الإنجليزيّة، من الوجوديّة إلى البنيويّة. وقد جعله إخلاصه لشوبان وشومان يبدُو غير مُكترثٍ بالجاز والبلوز تماماً مثلما كان غير مكترث بالموسيقى العربيّة. كان يعشقُ هوليوود، ولكن ليس هناك دليل على انخراطه في تلك الفترة في أعمال جيمس بولدويس أو رالف أليسون، أو أنّه كان مهتماً كبيراً بحركة الحقوق المدنية؛ فكان أن اتّصل بحرس الحرم الجامعيّ عندما اقتحمت مجموعة من الطلّاب المحتجّين ضدّ الحرب على فيتنام قاعة محاضراته.
يلحظُ برينان لما سيكونُ ملاحظة خاصّة بسعيد عن الذّات المزدوجة عند كونراد: “الأوّل، الصّبور النّسّاخ الرّاغب المُهذّبُ الذي يسعى إلى الإرضاء، والآخرُ شيطانٌ غير مُتعاون”. ويبدو أنّه كان هناك الكثير من الغضَبِ المُحبَط الذي كان يغلي لوقتٍ طويلٍ داخل سعيد وهو يشهدُ على تشكّل “شبكة العنصرية العرقية، والتنميطات الثقافية، والإمبريالية السياسيّة، وأيديولوجيا اللاأنسنية المُتحكِّمةُ في العربيّ أو المُسلم”. إذ يدّعي سعيد في مقابلة صوّرتها القناة البريطانيّة الرّابعة، أنّ الكثير من أبطاله الثقافيين أمثال الفيلسوف والمؤرخ الروسيّ البريطانيّ إشعيا برلين واللاهوتيّ الأخلاقيّ الأمريكيّ رينهولد نيبوهر كانوا متحيّزين ضدّ العرب. “كلّ ما استطعت فعله”، يقول سعيد: “هو ملاحظة ذلك فقط”. وكذلك كان يُتابع بدهشة الاحتفاء النقديّ بكتاب “العقل العربيّ The Arab Mind”، الذي صدَرَ عام 1973 للمؤلّف الهنغاري اليهوديّ رفائيل باتاي والذي وصفَ فيه العرب بأنّهم في تكوينهم هم أناسٌ مضطربون.
ليس صعباً رؤية كيف كان سعيد الذي كان داعماً لمقترح مساقات “الكتب العظيمة” – والتي كانت فكرتها تحسين المستوى المعرفيّ والأكاديميّ للطلبة عموماً بإعادتهم إلى منابع التقليد الثقافيّ الغربيّ من خلال قراءة ودراسة مجموعة من الكتب الغربيّة العظيمة – في جامعة كولومبيا؛ كيف كان سيشعُرُ بالإحباط الذي سبق لمثقّفين وكُتّاب من الدول الخاضعة للولايات المتحدة وأوروبا أن شعروا به قبل وقتٍ طويل: وذلك أنّ الرموز المؤسّسة للتقليد الغربيّ الليبراليّ والديمقراطيّ بدءاً بجون ستيوارت ميل إلى ونستون تشرتشل كانوا يكنّون الاحتقار لغير البيض. كان الشّعور بالمرارة عميقاً بشكل خاصّ بين المثقّفين الطموحين الذين جاؤوا إلى الولايات المتحدة وأوروبا من آسيا، إفريقيا وأمريكا اللاتينية، ذلك أنّهم أدركوا بعد استماتتهم في محاكاة النخبة الثقافية الغربيّة من خلال اكتساب المعرفة بآدابها وفلسفتها، أنّ من كانوا قدوة لهم لا زالوا جاهلين بالأمكنة التي أتوا منها، وما زادَ الأمر سوءاً أنّ ذلك الجهل كان، في أغلب الأوقات، يُدفعُ ثمنه دماً من قبل النّاس في أوطانهم.
ثمّ كانت حرب الأيّام الستّة عام 1967، والتغطية الإعلاميّة الأمريكيّة المبتهجة بالنصر الإسرائيليّ الساحق على الدّول العربية ما قتل رغبة سعيد في إرضاء معلّميه البيض. فبدأ التّواصل مع عرب آخرين وشرع في دراسة منهجيّة للكتابات الغربية عن الشّرق الأوسط. ثمّ أتى اللقاء بعرفات عام 1970 ليبدأ علاقة طويلة مُضطّربة والتي أوجبت على سعيد تولّي أمر مهمّتين عديمتي الجدوى بالتّساوي: الأولى تقديم النّصح للراديكاليّ الذي كان يحملُ مسدّسه أينما ذهب عن كيفيّة صنع صداقات والتأثير على النّاس في الغرب، والثانية، هي إقناع عرفات أنّه هو، سعيد، لم يكن ممثّلاً للولايات المتّحدة الأمريكية.
وفي “الاستشراق” ظهر أخيراً شيطان سعيد غير المُتعاون، وبجرأة وصف نفسه على أنّه “نتاج العملية التاريخية” للاستعمار، وشرع في “جرد آثار الثقافة المهيمنة والتي كانت عاملاً قويّاً في حياة جميع الشرقيين”. كان دافع الكتاب الرئيسيّ هو نقد الثقافة الفكرية الغربيّة؛ أي كما يوصّف برينان في قوله بأنّ الإعلام ومراكز البحوث الكُبرى والجامعات كانوا متعاونين عن قصدٍ أو غير قصدٍ بمغامرات السياسة الخارجيّة لدولهم. وبالنّظر إلى كون الكتاب، أي “الاستشراق”، قد خلق ألف وظيفة جامعيّة واجترَّ الكثير من الرّطانة المعقّدة، فتلك النّقطة، أي تورّط الجامعات والإعلام، كانت في غاية الوُضوح. ولكنّها لم تكن نقطة أصيلةٍ بأيّ معنى، فناعوم تشومسكي كان يطرح مجادلاتٍ من هذا النوع منذُ الستينات، وكان المفكّرون والنّشطاء المعادين للإمبرياليّة قد أدركوا قبل وقتٍ طويلٍ العلاقة ما بين المعرفة والسّلطة في الدول الإمبرياليّة. ففي نهايات القرن التاسع عشر أدان جمال الدين الأفغانيّ تغطية رويترز المتحيّزة لبريطانيا في مواجهتها الاحتجاجات الإيرانيّة، وكذلك دعت الفيلسوفة والناشطة الفرنسيّة سيمون فايل من قبل إلى مراجعة مستمرّة ومُطوَّلة لتجربة المستعمَر [لتجربته كذات ممثَّلة]. وفي جامعة سعيد نفسها، هاجم الأنثروبولوجيّ الألمانيّ فرانز بواس النظريات العرقيّة العلميّة المزيّفة التي استخدمت لتبرير تفوق العرق الأبيض.
لكنّ ما جعل “الاستشراق” مختلفاً كان معالجته لكمّية هائلة من العُلوم الغربيّة التي تمكَّن سعيد من استيعابها بسبب تعليمه النخبويّ، وكذلك بسبب جرأته في عُبور الحقول المتعدّدة كالتّاريخ، الفيلولوجيا، الأنثروبولوجيا والدّراسات الأدبيّة. وكان أيضاً صادماً أنّ اهتمام سعيد انصبَّ على التمثيلات بدلاً من الذّوات المُمثّلة، في تأثّرٍ واضحٍ بفوكو؛ أي بالخطاب الإمبرياليّ بدلاً من تمظهراته في اللاعدالة الاجتماعية أو الاقتصاديّة.
لم يتطرّق “الاستشراق” كثيراً إلى مصالح الطبقة الذكورية الهائلة في الغزو الإمبرياليّ والتوسّع الصناعي الرأسماليّ، أو إلى مصائر النّساء، الفلاحين والعمال. ولم يشتمل إطار عمل سعيد على القرنين الماضيين اللذين شهدا صيرورة إمبرياليّة أوروبيّة وأمريكيّة تتشكَّلُ في قوّة عالميّة هيأت لانتشار معرفة واسعة معيبةٍ عن الشرقيين. لكنّه أصرّ على أنّ التفكير الاستشراقيّ لم يكن لاحقاً على الحُكم الاستعماريّ كمبرر له، بل كان سابقاً عليه، مُتقرحاً وجود نزعة غربية متواصلة لتمثيل الشرقيين كدنيئين بدءاً من الإغريق القدامى مروراً بعصر النّهضة في إيطاليا وصولاً إلى النيويورك تايمز الأمريكيّة.
ربّما كان ذلك بعكس ما تمنَّى سعيد، لكنّ “الاستشراق” انتهى ليوصَّف شرخاً أبداً لا يمكن ردمه بين المجتمعات الغربية وغير الغربيّة. وعلى الرغم من تقويضه لأكثر من ألفيّ عام من المعرفة المنتجة أوروبياً وأمريكياً، إلّا أنّ الكتاب لم يُظهر أيّ وعي بأرشيف الفكر الآسيويّ، الإفريقيّ واللاتيني الهائل الذي سبق المعرفة الغربيّة، وذلك يشمل نظرية النخبة الهندية البراهمانية التي وُظِّفَت لجعل حُكم السلالة يبدو طبيعياً وشرعياً. وليس مفاجئاً أن يستشهد منظّرو أيديولوجيا التفوّق الهندوسيّ في الطبقات العُليا عند نقدهم العلماء الغربيين المتخصّصين في الدين والتاريخ الهنديّ. ومن المثير للفضول أنّ نقد الكتاب للمركزيّة الأوروبيّة هو بطريقةٍ أو بأخرى يتّصف، أو ينطلِقُ، من المركزيّة الأوروبيّة ذاتها؛ إذ تُشبه رؤيته للغرب على أنّه ذلك الغرب المتّسق والمتماسك داخلياً، الرّؤية الجينيالوجيّة للغرب على أنّه امتداد [متّسق] من أفلاطون حتّى النّاتو: From Plato to Nato، التي كانت شائعة في العالم الحرّ خلال الحرب الباردة. في كلتا الروايتين، يظهر وكأنّ الإغريق القدامى، وإيطاليو عصر النهضة وحُكماء عصر التنوير الفرنسيين قد ساهموا مجتمعين في تشكيل “الحضارة الغربية”.
لم يُعانِ سعيد كثيراً في الدّفاع عن نفسه عندما هُوجِمَ من قبل المُستشرقين القُدامى أمثال برنارد لويس، الذي راح يُشكِّكُ في معرفة المؤلّف الوثيقة بالعرب وبالتاريخ الإسلاميّ. لويس نفسه كان دليلاً دامغاً على فرضيّة سعيد وهو الذي كان المؤرّخ المفضّل للسياسيّ الأمريكيّ اليمينيّ ديك تشيني وصاحب نظرية “الغضب الإسلامي”. لكنّ سعيد كان أكثر ضعفاً أمام النقد الموجّه له من الذوات الشرقيّة التي كان بالأصل قد كرَّس عمله لكشف تمثيلاتها القبيحة. ومن أشدّ تلك الانتقادات كانت انتقادات الهنديّ إيجاي أحمد الذي كتب بعد أربعة عشر عاماً على نشر “الاستشراق”، مُتسائلاً لماذا وكيف أصبح كتابٌ مليء بكلّ هذه العيوب الهائلة أشبه بتقليد كلاسيكيّ في الأوساط الأكاديميّة. إذ رأى إيجاي أنّ انشغال سعيد بالتمثيل عوضاً عن الاهتمامات العينيّة وتقديمه للمظالم المعرفيّة على الظّلم الجندريّ والطبقيّ قد انعكس إيجاباً فقط على الأكاديميين النخبويين من العالم الثالث في الجامعات الأمريكيّة. وغالباً ما كان هؤلاء المثقّفين المهاجرين، ومعظمهم من الذكور، ينتمون إلى الطبقات الحاكمة في دولهم وحتّى من إلى طبقات ازدهرت خلال الحكم الكولونياليّ. ومع ذلك، كَتَبَ أحمد، فإنّ كتاب سعيد زوّدهم بسرديّات المظلوميّة التي ضمنت لهم معاملة تفضيلية، كوتات وظيفيّة ورواتب أعلى، وبذلك أصبح انتقاد الغرب بالنسبة لذاتٍ شرقية راقية طريقة من طرق إيجاد وظيفة جامعيّة أو فكرية مرموقة فيه.
كذلك أشار أحمد إلى أنّ سعيد في نقده لتقليد إنسانيّ فاسد بشكل واضح، قدَّم، كترياق، بالكاد نسخةً من نقد أدبيّ إنسانيّ بوصفها: “موقفاً شديد النصّية تجاه تاريخ الاستعمار والإمبرياليّة”. ففي ثمانينات القرن الماضي ساعد “الاستشراق” على ظهور نوع جديد من النّشاطِ الداخليّ الذي يقعُ في إطار قاعة المحاضرات؛ وذلك يظهرُ في قول الفيلسوف الأمريكيّ ريتشارد روتي عام 1992، وهو القول الذي يعكسُ نمطاً نشاطياً شائعاً: “كانت إحدى مساهمات اليسار الجديد هي تمكين الأساتذة الجامعيين المدفوعين بالقليل من الذّنب بسبب نمط حياتهم الآمن والمريح، من خلال الأنشطة السياسيّة الإضافية [داخل قاعة المحاضرات] إلى القول: “أنا آسف، لقد أعطيتُ في المكتب Sorry, I gave at the office” – كردٍّ آليّ على أيّ دعوة خارجيّة للمشاركة في أيّ عمل سياسيّ أو احتجاجيّ أو المُساهمة في أيّ قضية اجتماعيّة”. ويبدو “الاستشراق” الآن، عند استرجاعه، ككتُبٍ استشراقيّة أخرى عن الغضب الإسلاميّ وصراع الحضارات، يبدو أنّه ينتمي لحقبة زمنية ضيقة الأفق سياسياً. فمن المُستبعد أن يحصر الشّباب المسيّس اليوم أنفسهم في تحليل يستند إلى نموذج فوكو الخطابيّ لدى مواجهتهم للواقع الساحق المتمثّل في انعدام المساواة، والخدمات العامة البائسة، والعنصرية السائدة والكارثة البيئية.
سعيد نفسهُ تجاوز كتابه بالسّرعة نفسها التي كان تجاوز فيها من قبل الاتّجاهات التي كانت سائدة في أقسام اللغة الإنجليزيّة التي كان قد اعتنقها مرّة. وقد كتب برينان أنّه وعلى الرغم من تقديره لمساعي “تنويع الكلّيات من ناحية الأصول العرقية والقوميّة”، إلّا أنّ سعيد كان مستاءً من الطّريقة التي شجّع بها “الاستشراق” على “التركيز على الهوية الشخصيّة” في الأكاديميا. فبعد أن ساعد في خلق حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية، بدأ سعيد بالتساؤل عمّا إن كان تصنيف ما بعد الكولونياليّ تصنيفاً صحيحاً بالنّظر إلى استمرار عمليات النهب الكولونيالية في أجزاء كبيرة من العالم. وكما لو كان يسخرُ من نمط التخصص الأكاديمي، رح يمتدح وبوضوح شخصيّة المثقّف الهاوي والمثقّف المستقلّ. بدأ يقرأ بشكل موسّع في الآداب غير الغربية، أحياناً بشكل عشوائيّ للغاية، لكتّاب ومفكّرين آسيويين وأفارقة لم يتطرّق إليهم في كتابه “الاستشراق”. وبدعم من جاكلين كينيدي أوناسيس التي كانت آنذاك محرّرة في دار النشر الأمريكية Doubleday، ساعد على ترجمة أدب نجيب محفوظ إلى الإنجليزيّة، والأكثر أهمّية كان توليه المهمّة الصعبة عبر سلسلة من الكتب، المقالات والظهور التلفزيوني، لتعليم الأمريكيين عن فلسطين.
إلّا أنّ كتابه الأوّل عن فلسطين: The Question of Palestine، كان قد قُوبِلَ بالرّفض من قبل ناشره Pantheon، وهو الكتاب الأول من بين كتب أخرى كثيرة كُتبَت كمحاولة لإفاهم الأمريكيين ما حلَّ بالشعب الفلسطيني. في النّهاية نشر الكتاب من قبل Times Books، وقد حوّله الكتاب كما يكتب برينان إلى “منبوذٍ في أوساط النشر النيويوركيّة الداعمة لإسرائيل”. وفي الأثناء، طلب منه ناشر بيروتي حذف النقد الوارد في الكتاب لكلّ من المملكة العربيّة السعودية وسوريا، ليتمكّن من نشره بالعربيّة. وكان هناك كوارث سياسية في الشرق الأوسط تقوّض قضيّته، كدعم رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، مناحيم بيغن، والذي كان متعنّتناً في موقفه الرافض لإقامة دولة فلسطينيّة، للمستوطنين اليهود في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، الأراضي التي احتلّتها إسرائيل عام 1967. وفي حزيران عام 1982 كان الاجتياح الإسرائيليّ المُصادق عليه للبنان الذي كان ملجأً لعدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين، بحجّة سطحيّة هي إخراج عرفات والميليشيات الفلسطينيّة، ما أدّى إلى موت آلاف المدنيين وتدميرٍ هائل للبنى التحتيّة.
أمّا في الوطن، فقد وجد سعيد نفسه في مواجهة مع يمين رجعيّ كان قد مكَّن لنفسه من خلال قاعدة جماهيريّة أقوى بكثير من قاعدة اليسار الأكاديميّ بعد تمكّنه من دحر مكتسبات حركة الستّينيات التقدّمية. يمينٌ وصفه كازين عام 1983، بأنّه متغلغلٌ بعمق في إدارة الرئيس الأمريكيّ رونالد ريغان، و”دائماً ما تمّ التعويل عليه لدعم رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن”. وكان لشبكة الجناح اليميني تأثيراً ضخماً، فسول بيلو، الكاتب الأمريكيّ الكنديّ الحاصل على نوبل، وعلى الرّغم من ارتداده عن دعمه لبيغن، بدا أنّه صدّق وصف مجلّة Commentary لسعيد بأنّه بروفيسور الإرهاب، وأعجبِبَ بكتاب جوان بيتر الأكثر مبيعاً عام 1984 المعنون بـ “From Time Immemorial”، والذي أنكر فيه وجود الفلسطينيين في فلسطين قبل وصول الصهاينة. وفي عام 1999 ظهرت مقالة في مجلّة Wall Street Journal بعنوان: “نبيّ فلسطين الكاذب”، تدّعي أنّ سعيد زيّف طفولته في القدس، وهي التّهمة التشهيرية التي ظهرت مرّة أخرى في عام 2003 في مقالة في مجلّة Time. وفي عام 2003، شكّلت شهادة زميل سابق لسعيد في معهد هوفر ضدّه محور جلسات في مجلس النواب لإقرار قانون يقيّد المنح الدراسية في حقول الدراسة ما بعد الكولونيالية.
مُكافحاً لتقديم “الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها” في تلك الظّروف، لم يهمل سعيد شيئاً في بحثه رغم تألّمه من تهجّم الجميع عليه. لم يكن الفلسطينيون، مثلهم مثل شعوب أخرى في أفريقيا وآسيا، على اطّلاع معمّق بالهولوكوست، ورأوا إسرائيل مجرّد قوّة كولونيالية بيضاء أخرى من نوع القوى التي ولقرونٍ مضت كانت تسرق وتحتل أراضي الشعوب ذات البشرة الداكنة. لكنّ سعيد أضفى تعقيداً أخلاقياً على ما وصفه بسياسات الطرد، واصفاً الفلسطينيين، غالباً رغم امتعاضهم من التوصيف، بأنهم ضحايا غير مباشرين لجرائم أوروبيّة غير مسبوقة ضدّ اليهود: “ضحايا الضحايا”. وعلى النّقيض، كان يقول لجمهوره الأمريكي أنّ نقد الصهيونيّة لا يجبُ مساواته بمعاداة السامية، ولا يجبُ الخلط بين دعم الحقوق الفلسطينيّة ودعم العائلة السعوديّة المالكة أو أيّ أنظمة عربية استبدادية أخرى.
كان سعيد قد دفع باتّجاه المفاوضات مع إسرائيل لغاية الوصول إلى حلّ الدولتين قبل وقتٍ طويل من قبول عرفات بالأمرين عام 1988. وتضمّنت تلك المساومة الهامّة من قبل القائد الفلسطينيّ، والتي ساهم سعيد في صياغتها في الجزائر، اعترافاً ضمنياً بحقّ إسرائيل في الوجود وأفسحت المجال لعمليّة سلامٍ أفضت في النّهاية عام 1993 إلى توقيع اتفاق أوسلو المبدأيّ. ولكن، في الوقت الذي كان فيه عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيليّ آنذاك إسحاق رابين يتصافحات بتردد في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، كان سعيد يشجُبُ الاتفاق بوصفه “مطيّة استسلام فلسطينيّة؛ فرساي فلسطينيّة”. فمن وجهة نظره، كانت المسألة تتعلّق بقيادة فلسطينيّة مهترئة، فارغة وفاسدة قد استسلمت للنفاق والضغط الأمريكيّ الإسرائيليّ. وكان القادة الفلسطينيون، ومن ضمنهم عرفات الذي لم يكن قد رأى الأراضي المحتلّة منذ رحيله عام 1967، كانوا جاهلين بالوقائع التي فرضها الاستيطان الصهيوني على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وباتفاقهم ذاك كانوا يوافقون على شكل جديد من الاحتلال شبه الدائم. أمّا ردّ القيادة الفلسطينيّة على نقد سعيد فكان منع كتبه، وكذلك كتب برينان أنّ العديد من المثقّفين الفلسطينيين كانوا مستائين من إشارات سعيد إلى “معاناة اليهود”، معتبرينه شخصيّة مؤمركة أكثر من اللازم. لكنّ سعيد لم يستسلم، ومقتنعاً أنّ مشروع الدولة الفلسطينيّة قد أصبح مستحيلاً، بدأ ينظِّرُ بجرأة – وبالنّظر إلى الوضع الحاليّ يمكنُ القول ببصيرةٍ ثاقبة أيضاً – لحلّ الدولة الواحدة؛ أي ديمقراطية علمانية تضمن حقوقاً متساوية لكلّ من العرب واليهود.
عوَّضَ سعيد عن سنوات تردد في إعلان مواقفه السياسية خلال عقده الأخير، فكان نقده لاذعاً ومتكرراً لأمثال الأكاديمي اللبناني الأمريكي فؤاد عجمي، والمؤرخ الأمريكي دانييل بابيس، والأكاديمي العراقي الأمريكيّ كنعان مكّية وآخرين كانوا قد عُيِّنوا من قبل وسائل الإعلام ومراكز البحوث الكبرى المتحيِّزة بوصفهم خبراء في الشرق الأوسط. كذلك اعتاد على مهاجمه الأديب نيبول الذي كان قوياً في الأدب ولكنّ ضعفه الفكري عن المجتمعات الإسلامية تمّ توظيفه من قبل المؤسسات الليبراليّة والمحافظة. من وجهة نظر سعيد، كان نيبول قد اكتسب سمعة في الغرب بوصفه يقول الحقيقة عن العالم النّامي لأنّه غضّ النظر عن الوجود التدميريّ للقوى الغربية فيه، وفي الوقت نفسه لتصويره الأفارقة والآسيويين بوصفهم عاجزين فكرياً ومشوّشين سياسياً. وبفظاظة رفض سعيد عدداً من المفكرين اليساريين كذلك، واصفاً كتابات يورغن هابرماس بـ”مجرد الكلام الفارغ”، وكذلك كان خائب الأمل بكلّ من فوكو وسارتر، وحتّى توبيخه للناقد الماركسيّ فريدريك جيمسون بقوله له: “كنت أتمنّى لو كنت أكثر نشاطاً سياسياً… هناك الكثير ليُفعل”. وكان قد تخلّى قبل موته بقليل عن صنَمٍ آخر من أصنامه، ثيودور أدورنو، واصفاً موقف الناقد الألمانيّ من المراجعات الفكريّة النّابعة من خيبة الأملّ بالموقف الاستعلائيّ.
يُشيرُ برينان إلى أنّ “معركة سعيد لجعل الرواية الفلسطينيّة معقّدة ومُقنعة كتلك الإسرائيلية”، قد لاقت بعض النجاحات الصغيرة. فماري كاري فيلمر، مؤسِّسة ومحرّرة مجلة The London Review of Books، والتي كانت داعمة عفويّة لإسرائيل، توصّلت إلى الاعتقاد بأنّ “القضية الفلسطينيّة قضية بحاجة إلى إجاباتٍ بشكلٍ أو بآخر”. كذلك تلقّى سعيد رسائل داعمة من شخصيّات مثل الكاتبة الحقوقية الجنوب أفريقيّة نادين غورديمير، والأديب اليابانيّ الحاصل على نوبل للآداب كينزابورو أوري، والممثّلة الأمريكيّة جودي فوستر وكذلك الممثّلة البريطانيّة إيما ثومبسون. وليس واضحاً ما الذي فعله سعيد برسالة إعجابٍ من قبل الروائية الأمريكية باتريشيا هايسميث، التي من الممكن القول أنّها كانت أكثر اهتماماً بإبداء الانتباه لمعاداة السامية من اهتمامها بتقديم أيّ دعم للفلسطينيين. والأرجح أنّه كان مسروراً بملاحظة الصحفيّ اليهوديّ إيزيدور فينشتاين ستون، التي امتدحت قدرته على “إظهار ملكات وجدارة شعبك المُضطهد المرفوض”، خاتماً بالقول: “لقد أصبح شعبك هم “اليهود” الحسّاسون، بينما أصبح شعبي هُم “الأغيار””. وفي سنواته الأخيرة التي كانت مليئة بالاستعراض البلاغيّ، بدأ سعيد يُسمِّي نفسه بـ”المثقّف اليهودي الأخير”، معتقداً أنّ داعمي إسرائيل ليس لديهم أدنى فكرة عن “معنى أن تكون مثقفاً يهودياً، وأن تكون مخلِصاً لمبدأ العدالة الكونية العالمية”، مفكِّراً بنفسه كأخٍ روحيّ لكلّ من الناشط الحقوقيّ والأديب جيمس بالدوين والقائد الثوريّ مالكوم إكس.
في الآن ذاته، كان سعيد قد بدأ يدرك كم كان تأثيره محدوداً. فقد ظهر خصمه القديم، برنارد لويس، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بوصفه رئيس المنظّرين للحروب الأمريكيّة في العالم الإسلامي، وكذلك أصبح كتاب “العقل العربيّ” كتاباً إرشادياً للضبّاط الأمريكيين في العراق. “يجب أن تفهموا العقل العربي”، هكذا قال أحد الجنود للمراسل الصحفيّ قرب قرية كان قد أحاطها هو وآخرون بالأسلاك الشائكة: “الشّيء الوحيد الذي يفهمونه هو القوّة”. ولم تكن معاملة دونالد ترامب التفضيليّة للزعماء العرب القتلة لتفاجئ سعيد، ولا تصميم الحكومة الإسرائيليّة الأخير على ضمّ الأراضي الفلسطينيّة. كتب برينان أنّ سعيد كان محاصراً طوال حياته بـ”القوة الهائلة للأكاذيب المعادة باستمرار، وكان يعرف أنّه لن يفوز”.
مع حلول نهاية التسعينات كان سعيد متهالكاً جسدياً من اللوكيميا، ومع ذلك كان لا يزال بهمّة يحارب ضدّ أبطال القويّ. “فيما يتعلّق بالقسوة والظلم”، كتب لأحد المواسين: “اليأس هو الخضوع، وهو ما أعتقد أنّه غير أخلاقيّ”. هناك شيءٌ آسرٌ في نمط وجود سعيد الأخير في العالم؛ فهو يقرّ بالهزيمة بوضوح، ومع ذلك لا يزال مصمماً على الوقوف بصلابةٍ مع شعبـ[هِ] المرفوض. وفي إجابته عن سؤال عمَّن يكونُ حقاً، أعطى في النهاية ردّاً متحدِّياً قائلاً: “أنا فلسطينيّ”. وذلك مقياسٌ لنبل روحه؛ فمن بين عديد الذّوات التي كان بإمكانه أن يكونها في تلك اللحظة، كان سعيد تلك الذّات التي سبَّبتُ له أشدّ الآلام.
*كتب بانكاج ميشرا عدداً من الكتب، من بينها: “From the Ruins of Empire”، “Age of Anger” و “Blind Fanatics” الذي صدر عام 2020.