بتول أبو عقلين
الجحيم عند الله لمن يعصيه، والجحيم هنا لمن يُغضب السلطة أو يعبّر عن سخطه من الظلم. تزاح المصداقية جانباً للبقاء على قيد الحياة حتى وإن كان البقاء في ذاته جحيماً؛ احتلال أو حرب أو انهيار اقتصاد. إما أن نواجه هذا الجحيم أو نهرب منه إلى أمانٍ يلتف حول أعناقنا كحبل مشنقة نتدلى منه إلى الأبد؛ عذاب في الحالتين بلا مقارنة: كلاهما خانق وموجع. سيجد الجميع سبيلًا للتخفيف من وطأة هذه المعضلة والحديث عنها؛ البعض سيكتب، وسيكون الفن ملاذًا لآخرين.
تخلق الأماكن الكثيرة حالة من الضياع وتشوش معنى الأمان؛ جحيم عقلي ومادي والفرق بينهما، لكنها تصبح فيما بعد السبيل الوحيد لإيجاد التوازن، فتتداخل اللغات والثقافات وتعرض على الفنان أشكالاً عديدة من الفن ليجلس في المنتصف محاولاً البحث عن شكل يتآلف معه، ثم يبحث في هويته وجذوره عمّا يصب في أعماله. اختارت رندا مدّاح أن تري الجحيم في أعمال نحتية ولوحات مرسومة بالرصاص ترتكز على واقع فرض عليها وخصوصية المكان الذي أتت منه. درست الفن في دمشق، فكانت محاولة لترسيخ سوريّتها التي سعى الاحتلال لطمسها بمناهج دراسية مفروضة تجمّله وتبرؤه، وكانت كذلك فرصة لإزالة قشرة الفصل القسري للجولان لتبصر سوريا وتتفحصها عن كثب. هُجّرت من دمشق فأصبحت فلسطين ملاذاً ومكاناً تعرض فيه أعمالها، أما فرنسا فكانت نقلة نوعية؛ بلاد جميلة بلا نظام ديكتاتوري مستبد ومكان للقاء أصدقاء كثر تركوا سوريا عام 2006.
تعدّ رندا انطلاقة الثورة أملًا لتعود وبقية أهل الجولان جزءاً طبيعيًا من سوريا. لم تكن رماديّة، بل اتخذت موقفاً واضحاً. نظام الحكم بقي وأخذت الثورة أرواح الكثيرين ممن تضامنوا معها، وتشتت السوريون في العالم، وزادت مخاوف فقدان جزء من التراث السوري بعد أن أصبحت الأماكن الأثرية مأوى للهاربين من الحرب. ابتعد الجولان عن سوريا أكثر وأصبحت الدراسة في جامعة دمشق لمواطني الجولان مستحيلة، فأجبرت مداح كغيرها من المفكرين والمبدعين السوريين على التعامل مع واقع لا يمكن الفكاك منه، فأمسكت دفترها ووثقت انطباعاتها عن تفاعل الناس مع الظروف التي غيرت حياتهم.
ربما جاءت النحت ودرجات الرصاص في فنها محاكاة لحالات فردية مختصة بمآسي أسر معينة، وربما لتحاكي حالة مجتمعية، فالطريقة التي نقلت بها ذلك الوجع وشعوري الإرهاق واللاجدوى المربكين كانت كفيلة لتوضح الارتباط الوثيق بين الذاكرة والمكان. في لوحتها المريرة “نقلاً عما قالته زوجة أحد الشهداء” التي أصبحت فيما بعد جزء من معرضها “رصاص على ورق”، سلّطت رندا الضوء على شخصية يغفل الكثير عن دورها في الثورات والحروب، وجسّدت حالة البؤس التي تعيشها في سبيل المضي بحياة شاقّة. النظرات الناعسة وجوه شخوص لوحتها أشبه بمسوخ تعكس فقدان الأمل بعودة الحياة إلى مسارها الاعتيادي، فمن يدخل الثورة لا يعود نفسه بعد انتهائها، هذا إن بقي على قيد الحياة أصلاً. وجوه بأنوف مطموسة تحقق أماني إغفال رائحة الحرب والأسلحة الكيميائية؛ أم تغطي وجه طفلها حاجبة عنه سوداوية العالم وتضع اصبعها في فمه لتسكت معدته الجائعة أو لأنها تخاف أن ينطق فجأة فتسمعه الحيطان و تشي به؛ شفاه أقرب لأن تكون غير مرئية بابتسامات باهتة ومتعبة تحاول تصديق أن كل هذا الوجع سينتهي بخلاصٍ أو راحة؛ الأقدام كبيرة و شديدة الوضوح، حتى لدى ذلك الطفل كأنها تكبر فجأة دونًا عن باقي الجسد لتركض في سبيل مطالب الشعب؛ وعلى الأطراف أناس مقموعون لم يبقى منهم إلا رؤوس معلقة ونظرات هلعة مليئة بالتحدي؛ وثلاثة أموات: ميت تكفِّنه أيدٍ مبتورة يحركها شخص منهك، وميتين تخترق رأس أحدهم طاولة يجلس عليها شخص ينظر باطمئنان دون البقية ظناً منه أن الستارة تستره لكنه لم ينتبه أن ريح الزمن أزاحتها لتكشف خبث نواياه.
أعمالها مرعبة. تقلب صفحات الذاكرة وتعود بي إلى الحلقة المفرغة ذاتها، فأتأكد أن المآسي تصب في البئر نفسها وإن اختلفت مسبباتها، وأن الفن يشبهنا وسنعثر دائماً على أشلائنا فيه. تعتصر مشاعري وتلغي أي احتمال للعودة إلى الحياة العادية التي أحب. تذكرني بجحيمي وتعيد مأساة أربع حروب ومناوشات لا أستطيع عدها. كل من في اللوحة أعرفهم؛ المرأة التي تضع إصبعها في فم طفلها هي أمي، والرأس المتدلي من أعلى اللوحة هو رأسي، والفتاة التي تحمل أيد وتحاول أن تكفن أحد أحبتها هي فاطمة صديقتي التي تحاول النهوض لتودع الاثنين وعشرين شهيداً من عائلتها، والبقية هم من علقوا تحت الركام واستقروا بين الحياة والموت؛ البقية هم خوفي.
يظهر الفن المبطَّن ويتكلم بما يقوله الشعب أو يخاف قوله وفيريه للعالم بأكمله. فكما تحدثت غرنيكا بيكاسو عن جشع ومأساة الحرب الأهلية الاسبانية، ونقل حنظلة ناجي العلي صورة الفلسطيني، تحدثت “نقلاً عما قالته زوجة أحد الشهداء” عن مأساة الحرب الأهلية السورية.
هل هذه نهاية الثورة؟ كل الآمال التي قامت لأجلها والنكبات التي تعرض لها المدنيين لم تفلح بإسقاط النظام المتعسف. أعلن فوز بشار الأسد بانتخابات أشك بمصداقيتها. النظام الذي كان يفترض أن يرحل بقي ولم يرحل سوى أهل البلاد ولم يتدمر سواها.
العالم جحيم مغطّى. لكل جحيمه، لكن حكامنا يسترقون النظر إليه ولا يغطونه ولو ثانية فتحل اللعنة علينا. في سوريا استبدلوا الغطاء الحريري المطرز بالذهب، فظل يتكشّف إلى أن أودى بالبلاد وأهلها. عرّت رندا مداح الوجود من مثاليته؛ أمسكت بالجحيم ووضعته نصب الأعين فأربكت وأخافت ولم تترك مجالاً لتجاهل آلام الواقع والذاكرة. أعمالها ساحرة؟ لا أظن. أعمالها موجعة، مربكة، تيقظنا من سكرة السحر الذي وضعنا أنفسنا تحته كي لا نرى العالم، تنبهنا من تجاهل المعاناة ورتابتها. رندا تجعلني أرى الواقع الذي لم أغفل عنه للحظة رغم أني كنت أحاول نسيانه.