ليست مهمة الأفلام تشويه نضال أو تطهير آخر، هذا ما فكرت به حين رأيت واحداً من المواقع الإخبارية يضع عنوانًا “صالون هدى.. يُفجر غضبًا واسعًا لتشويهه النضال الفلسطيني” إنه فيلم يا سادة وليس خطاب الرئيس، بل لأقول أبعد من ذلك ليست مهمة السينما أن تنقل النضالات على حقيقتها وإلا ما لزوم الخيال، والكتابة، والسينما والتمثيل.
فكرت كيف حكم ذاك الموقع أن الفيلم مُشوّه، وكيف فعل كثيرون مثله وشتموه ولعنوا المخرج والممثلة، في الوقت الذي لا تستطيع الأغلبية مشاهدة الفيلم بعد؟! بل انتشرت لقطة تظهر فيها الممثلة المبدعة ميساء عبد الهادي عارية، التي هي حرة بأدوات عملها كممثلة، ثم حرة بجسدها كامرأة ثانيًا، أما ثالثًا فيجب التنويه أن هذا العري دراميًا ليس بإرادتها بل تمت تعريتها لتصويرها في أوضاع مخلة مع رجل آخر “عارٍ أيضًا بالمناسبة”، بغرض إسقاطها كي تصبح عميلة مع الاستخبارات الإسرائيلية، فلماذا لم يعذرها أحد؟ هل يا ترى لأنها ممثلة فلسطينية عرّت جسدها، أم أن كل فيلم فلسطيني يجب أن يكون مستور العورة؟ فهذا ما يحدث كل فترة إذا ما كان هناك مشهد في رواية فلسطينية ما أو فيلم فلسطيني لم يعجب الحشود، تقام الدنيا ولا تقعد، باسم الفضيلة وتطهير القضية والنضال الفلسطيني، فلا يجب أن يقترب أحد منه بأي فكرة تخدشه أو مشهد يمس حياءه، كما حدث في فيلم «غزة مونامور» فثارت الأقلام “هذا لا يحدث في غزة”، ثم في فيلم «أميرة» ثارت وسائل التواصل الاجتماعي بأنه تشويه للأسرى، ومنعوه من في كل مكان، بعد أن نصبنا أنفسنا قضاة على بناء قوالب للأفلام والروايات والكتب التي يجب أن تتناول قضيتنا كيف ومتى ومن.
ولا أذكر في تاريخ الأدب العربي في الستينات والسبعينات كان هناك أكثر صراحة من رواياتنا، كذلك في السينما، حتى اللبنانية لم تكن بوضوح وجرأة أقلامنا التي تأسست على مفهوم فلسفي دعم تلك الجرأة في أنه لا يوجد تناقض بين ثورة الجسد والقضية. فالتجريد الذي يطالب به الجمهور المحافظ من الجنس والحب، وحتى المشاهد الأمنية القاسية كالإسقاط والخيانة، هو تجريد يناسب جمهور لا يُريد أن يرى نفسه، ورغباته، وعيوبه، حتى لو تخيلًا.
ولا أظن كان هناك جمهور بمحافظة جمهور الثمانينات خلال الانتفاضة الأولى، ومع ذلك كانت أدبيات حركة حماس من مسرح وأدب وكتيبات تعج بروايات وقصص الإسقاط، والإغراء والجنس الحرام، في قصص ذات خيال فرويدي عجيب. ولم يكن وقتها ممنوعًا أو عيبًا طالما هدفه التوعية، وهذه كانت رسالة الفيلم، مع أنني كما ذكرت في البداية لا أؤمن برسائل التوعية والتشويه والتطهير، لكن على الأقل أحاول أن أجد مبررًا لكاره المشهد، لقد ضحّت ميساء عبد الهادي بعري جسدها أمام الكاميرات ولفحتوه جميعًا بنظراتكم كي تعبر عن مئات الفتيات اللواتي يتعرضن يوميًا للابتزاز.
أدعوكم لمشاهدة الفيلم حتى النهاية، وليس ذاك المشهد المبتسر فقط، وأراهنك أن تشعر بالاختناق مع بطلته، بل تريد أن تمد يدك لترفعها من الظلم الواقع عليها؛ ظلم المجتمع والزوج والمقاومة والاحتلال. كله بسبب الخوف والحياء، وكم أوقع هذا الخوف آلاف العملاء في بلدنا، بسبب صورة عارية، لأنه خشي من المجتمع، وكان أسهل عليه أن يكون عميلًا على أن يُفضح أمام عائلته، وفهم الاحتلال هذا الحياء جيدًا واستغله أكبر استغلال.
ربما صدم العري المُشاهد، لكننا نحتاج إلى نكئ الجروح لنقاش هذه الآفة وربما التحدث بهذا الوضوح عن المشكلة في ظل عالم اليوم الأسرع والأسهل في الابتزاز والإسقاط، عالم الصور ومقاطع الفيديو الذي نعيشه. قضينا حياتنا نقرأ ونسمع عن الإسقاط لكننا نراه اليوم فقط في فيلم «صالون هدى»، بوحشيته وعريه وغدره، أمامنا كما يجب بالضبط أن يظهر في السينما، دون رتوش واختباء.
قرأتُ تعليق أحد المنتجين الفلسطينيين، كتب أنه كان يتمنى أن يكون المشهد مفبركًا فالممثلة صديقة يحترمها، يكتب عنها بالوصاية وكأن الممثلة تم إسقاطها من قبل المخرج، وهوليود ويشعر الرجل بالمسؤولية عن سترها. إذا كانت هذه عقلية الطبقة الواعية التي تشتغل بالأفلام والإنتاج فكيف عامة المجتمع! إنهم سيرجمون ميساء في الشارع لو أتيح لهم ذلك.
أمرٌ عجيب، ألم يرَ الشعب الفلسطيني امرأة عارية في حياته، وممثل أو ممثلة اختار مشهدًا خارجًا عن المألوف، الممثلة ميساء اختارت أن تمثل المشهد عارية كذلك الممثل الذي بصحبتها. ماذا نفعل بعدها؟ إما أن نشاهد الفيلم أو لا نشاهده، ببساطة. وليس أن نتصرف وكأن جسد الممثلة يمثلنا ويعنينا، ما يجب أن يعنينا جسد البطلة في الفيلم وكيف يستغله الاحتلال.
قرأت منشوراً لأحد الفنانين يريد من المخرج ألا يصنع مزيدًا من الأفلام عن قضايا أمنية. بحجة أن اختصار قضيتنا بالأمنيّات يظلمنا. كيف وكل قضيتنا محركها الأمن، بل تكاد تتلخص بتحريم الجسد. ألم تكتب سحر خليفة في واحدة من رواياتها حين حاول الجندي الإسرائيلي ابتزاز فتاة مناضلة فخلعت له قميصها وظهرت بصدريتها وقالت “أتقصد أنني يجب أن أكف بسبب هذين؟”.
هناك مشاكل بالفيلم، بل مشاكل كثيرة، وليس أحدها المشهد العاري، بل أساسها الكتابة السطحية، التي كانت يجب أن تتعمق في نقل مشاكل هؤلاء الفتيات اللواتي يتم إسقاطهن، فالأمر أبعد من “تقوية شخصياتهن أمام أزواجهن” كما تدعي صاحبة الصالون هدى أمام رجل المقاومة، حين يسألها عن سبب ما تفعله، فالعمالة لا تقوي شخصياتهن، بل تدمرها إلى الأبد، ويوصمن وتوصم عائلاتهن بالعار، ولو مرّ مائة عام على دفن المرأة العميلة، خاصة لو كانت الأم، أما لو أخت عميل أو زوجته فينالها الفقر ومطامع الرجال.
كما أن الكتابة قديمة والقصة وتفاصيلها، لم يخرج هاني أبو أسعد من أحابيل فيلمه «الجنة الآن»، وحتى ديكور الممرات والجدران المعتمة، ذاته، مسكون ولا يزال بأنجح أفلامه، ويعيد تكراره بشكلٍ أو بآخر، لكن «صالون هدى» لم يكن بحيويته بالتأكيد أو في يناعة فيلم «عمر». إشكالية كبيرة في أن القضية قديمة “حكايات إسقاط فترة الثمانينيات”، كذلك الخطاب الخشبي الذي يُلقيه مسؤول المقاومة، الذي بالتأكيد لن يجلس مع عميلة بهذا الشكل سوى في فانتازيات المخرج أبو أسعد، ومع ذلك لم يكن الحوار قويًا كما متوقع.
بل كان خطابيًا يحاول أن يرتدي الفلسفة، فمثلا تقول العميلة هدى “المجتمع اللي بمارس الظلم على حاله سهل يحتلوه”. هنا يأتي بما يشبه خطاب الروايات اليسارية التي اشتهرت بنقد الذات كما روايات غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا في الستينيات والسبعينيات، ولكن دون حتى أن يقترب من ذكاء تلك الحوارات، وكان بالإمكان أن يستخدم عبارات أبسط وأعمق تظهر بالفعل واقعية إسقاط الفتيات في الضفة وغزة والذي أصبح مختلفًا تمامًا عن وضع مخدر في فنجان القهوة. كما كان من المهم لهاني أبو أسعد الذي يبدو أنه كتب الفيلم من ذاكرته القديمة، ألا يربط بين حرية المرأة ووقوعها في العمالة، وهو ذاته ما فعلته أدبيات الإخوان المسلمين على مر الأعوام الفائتة، إلى درجة أنه كان لفظ كوافير في الانتفاضة الأولى “عيبة كبيرة”، ومرتبط فورًا بنساء “مردوعات” بالضرب أو “مية النار”.
كنت أنتظر رؤية أقوى لهاني أبو أسعد، إلا أن الممثلة ميساء عبد الهادي حملت الفيلم على أكتافها وقدمت أداءً مذهلًا، ومشت بنا من عري الجسد حتى رغبتها في حرقه والتخلص منه، فهذا العري لم يلاحق المُشاهد وحده، بل سكن عقلها ودمر حياتها وجلب العار إلى تفاصيلها وهو ما أوصلته لنا بكل شجاعة واحتراف.