تعيش إيران حاليًا احتجاجاتٍ كبيرة، بعد مقتل الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أميني، إذ تحولت إلى رمز للحرية وعناد الدولة والبطولة في أيام قليلة، ودون حتى أن تقصد ذلك، وبالطبع هذا النوع من الأبطال غير مفضل إطلاقًا لحكم آية الله الخميني، إلّا أن هناك نوعًا آخر من البطولة قد تفضلها إيران، وهي بطولة تشبه ما في فيلم أصغر فرهادي الأخير “قهرمان” أو “البطل”، فالبطولة هنا تُريدها الحكومة وتدافع عنها بل تُروّج لها.
هي بطولة من نوع مختلف، مسالم، ليست رمزًا للحرية أو التمرد بل تكاد تكون وجهًا آخر للعبودية، هي قصة سجين لدى الحكومة الإيرانية يتحول بين ليلة وضحاها إلى رمزٍ قوميّ للأخلاق والشرف والنزاهة.
إلا أن المخرج فرهادي لن يترك الأمور على تلك الشاكلة من السهولة والرضا، ففي تفاصيل أفلامه دائمًا ما يقاتل فرهادي هذه الدولة، ويبين مدى عنفها وعنصريتها في الإجراءات اليومية، وسلوكيات الأمن ورجال الدين، ونرى ذلك في كل أفلامه حين يُصوّر الإدارات العامة والسجون والشرطة والوزارات وتمييزها ضد النساء وضد كل ليبرالي يعيش هناك.
وهكذا فإن كل شيء لدى فرهادي يكمن في التفاصيل، ليس بالضرورة الشيطان، فأفلامه مثل أحجية ضخمة من البازل، ليس هناك مشهد رئيسي، بل جميعها مشاهد مركبة بجانب بعضها البعض، وهذا ما يجعل أفلامه شديدة الواقعية وتشبه الحياة اليومية. وفي الوقت نفسه إن هذه التفاصيل والوعي بها طوال الفيلم يكاد يفسده.
وقد رشحت إيران الفيلم رسميًا باسمها إلى جائزة الأوسكار 2021، لكن ذلك الفوز لم يحدث، وقد علق وقتها فرهادي الترشيح أنه لا يريد أن تعتقد الحكومة الإيرانية أنه مدين لها لتقديم فيلمه لتمثيل البلاد في حفل توزيع جوائز الأوسكار. وأضاف أنه إذا كان الأمر كذلك، فعليهم عكس هذا القرار.
وعلى الرغم من جمال القصة وجاذبيتها والتي تُبقي رأسك مشدوهًا إلى الأحداث، لكن الاهتمام الكبير بهذه التفاصيل يجعلك تشعر أنه أصبح بمثابة هوس في رأس المخرج، ما يُذكّرك فجأة أن هذا تمثيل، فلماذا قد يركض طفل يرتدي روبًا ورديًا من الحمام خلال أحد المشاهد الدرامية المتوترة؟، كي نقول إن هذا يحدث بالفعل على أرض الواقع، فقد يخرج طفلًا مستحمًا وسط شجار الغرباء.
إن هذه القصدية تفسد كل شيء، ولن تكون طبيعية من وفرة طبيعتها، وربما هذا ما جعل فيلم “البطل” يحصل على مكانة نقدية أضعف من فيلميه السابقين “الانفصال” عام 2011 و”رجل المبيعات” عام 2016، كلاهما حصل على جائزة أوسكار فئة أفضل فيلم أجنبي.
ربما لأنه لا يقدم الثقافة الإسلامية بكثير من “الأوكزتيك” الذي يفضله الغرب، كما في الفيلمين السابقين، كما لم يظهر فيه ممثلون عالميون كما فيلم “الماضي” عام 2013 وفيلم “الكل يعرف” عام 2018، إلا أن المفاجأة أنه حظي بالجائزة الكبرى في مهرجان كان عام 2021 النسخة الـ74 من المهرجان العالمي، وذلك مناصفة مع الفيلم الفنلندي “Compartment No. 6” للمخرج جوهو كوسمانين. لذلك فإن العادية والتفاصيل اليومية هي السهل الممتنع ومكمن العبقرية عند فرهادي والتي تجعله مخرجًا يتربّع على قمم السينما العالمية في سنوات معدودة ومتتالية.
ويتحدث فيلم “البطل” عن سجين اسمه رحيم سلطاني ويلعب دوره الممثل أمير جديدي، يخرج أيام معدودة كاستراحة على أن يعود للسجن، ويقصد منزل شقيقته التي تُربّي ابنه، إذ إنه محبوس على ذمة مالية، ومطلق ودون منزل، ويقابل بالسر حبيبته فارخوندة وتلعب دورها الممثلة سحر جولدوست التي تعرض عليه المساعدة بتقديم حقيبة تحوي عملات ذهبية وجدتها ملقاة على الطريق بالصدفة.
ويكون رحيم سجينًا بسبب رجل اقترض منه المال لإقامة مشروع في الخط لكنه يعلن إفلاسه، فيقدّم الرجل السندات المالية إلى الشرطة ويحبسه، وحين يخرج في إجازة، يتوجه إليه عن طريق زوج شقيقته كوسيط ليدفع العملات الذهبية لكن الرجل يرفض فهو لا يصدقهما.
وبعد تفكير يقرر سلطاني البحث عن صاحب العملات الذهبية، ويكتب إعلانًا بمساعدة فرع البنك في الشارع الذي وجدت به حبيبته العملات الذهبية ويعلقه هناك، ويضع رقم السجن، وبالفعل تتصل به سيدة، ولأنه نشيط في السجن ويخطط اللافتات للإدارة، ينادونه ببساطة للرد على المكالمات من مكتب الإدارة، ويسمع العاملين فيه قصة إرجاعه للعملات، ويعجبون به، فعلى الرغم من كونه مديون إلا أنه يُعيد المال لأصحابه ويطلب من شقيقته أن تسلم العملات للسيدة التي وصفت الحقيبة ومحتوياتها.
وهنا تتصل إدارة السجن بالمجلات والصحف والقنوات ويتحول السجين البسيط إلى بطلٍ قومي، إلا أن القصة لا تنتهي إلى هذا الحد، بل تتحول دراماتيكيًا وبسبب مجموعة من الصدف التي لا تكون صدفًا بأسلوب فرهادي المبدع، إلى فضيحة لهذا الفقير الخلوق، “ولن أقول المزيد، كي لا أحرق الأحداث”، لكن أؤكد لك أن الفيلم سيؤدي بك للاختناق إلى درجة تتمنى أن تدخل الفيلم إلى رحيم وتحل أزمته، وتربت على كتفه.
وإذا كنتَ فُتنت سابقًا بوجوه الممثلين والممثلات في أفلام فرهادي، فلن تقاوم الوقوع في غرام رحيم سلطاني ليس لأنه وسيم، بل لأنه يشبه كل المطحونين الصادقين الذين يمروا في الحياة، بل هو ابن كل حارة غلبان يتفق عليه رجال الأمن وشيوخ السلطة.
إن فتنة الواقعية المنقولة للسينما في الملامح والملابس والبيوت هي السحر، ولا يعرف فرهادي أن يتركنا دون ألغاز لا تُحل ونبقى نتساءل عنها عقب كل فيلم من أيقوناته، كأننا ننتظر أن يكتبها أحدهم في الخاتمة، لكن هذا لا يحدث أبدًا، وفي فيلم البطل سيكون السؤال “من هي المرأة التي استلمت الأمانة؟”.
إن رجوع المخرج دائمًا إلى إيران وحلمه أن يبقى يصنع أفلامه فيها، ليس حلمه وحده، بل تمنيات الجمهور أيضًا، فهو صنع أفضل أفلامه الحقيقية في تلك الحواري وفوق هذه التلال، وليس في فرنسا أو أسبانيا أو أميركا على الرغم أنه أبدع هناك، لكنه إبداع لا ينتمي إليه بمقدار ما ينتمي إلى قصة مشوقة وكفى.
يقول فرهادي عن ذلك “ولدت وتربيت هناك. من وجهة نظر عاطفية لدي صلات بالدولة. إن مكونات عقلي الباطن من هناك. وتمنيت دائمًا أن أصنع معظم أفلامي هناك أيضًا. لكنني لست متأكدًا مما إذا كان الحال سيبقى هو نفسه في المستقبل”.
بالتأكيد لا يجب أن تعتقل إيران فرهادي ويُمنع من صناعة أفلامه كي يكون مبدعًا، إلا أنه ثائر في كل أحواله فحين فاز بجائزة الأوسكار عن فيلم “رجل المبيعات” عام 2016، رفض حضور حفل توزيع جوائز الأوسكار احتجاجًا على حظر السفر الذي استهدف دولًا ذات غالبية مسلمة، بما في ذلك إيران بقرار من الرئيس الأميركي وقتها دونالد ترامب، وتسلّمت عنه الجائزة رائدة الفضاء الإيرانية أنوشة أنصاري، ليحقق موقفًا سياسيًا مدويًا. وقال وقتها ” اعتبر أن المتشددين في إيران والولايات المتحدة يتصرفون بالعقلية نفسها”.
والآن بانتظار موقفه مما يحدث في إيران من حركة تمرد واسعة بدأت بمقتل الكردية الإيرانية الفتاة مهسا أميني تحت الاعتقال والتعذيب، فهل سيكون هناك أخيرًا فيلمًا سياسيًا مباشرًا، غارقًا أو لا بالتفاصيل يخرجه لنا فرهادي؟