“كنت أعتقد، بتكبُّر وسذاجة، أنني إذا ألّفتُ كتباً، وصرتُ كاتبةً -كاتبة من نسَب فلّاحين بلا أرض، وعمّال وأصحاب تجاراتٍ متواضعة، وناس يُحتَقَرون بسبب أسلوب عيشهم، ولهجتهم، وقلّة ثقافتهم- فذلك سيكفي لتعويض الظلم الاجتماعي الذي يولَد معنا”. هذه الكلمات قالتها آني إرنو في خِطاب تسلُّمها جائزة نوبل للأدب، في العاشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر 2022، في العاصمة السويدية ستوكهولم، خلال حفل تكريمها في مقرّ الأكاديمية.
صاحبة «المكان»، و«الاحتلال»، و«الحدث»، و«انظر إلى الأضواء يا حبيبي».. ــ المعروفة بالتزامها السياسي إلى جانب المهمّشين والقضايا العادلة ــ، ومناهضة إسرائيل ومناصرتها للحق الفلسطيني ــ أعادت للفن الروائي مهمة التأمل في الحياة والمجتمع والطبقات. وهي بفوزها بهذه الجائزة المرموقة تركت الأبواب مشرعة للكثير من الأسئلة.. التي وجّهت “رمان الثقافية” بعضاً منها لعدد من النقاد والكتّاب والكاتبات العرب، من تلك الأسئلة برأيك هل تستحق الفرنسية آني إرنو، جائزة نوبل للأدب للعام 2022؟ ولماذا؟ ومن بعد؛ هل يمكن تصنيف كتابات “النوبلية” الجديدة، في إطار جنس أدبي محدّد -رواية، سيرة روائية، رواية سِيرية، مذكرات، أو يوميات- هي التي تقول: “ما أكتبه ليس بحثاً استطلاعياً ولا تحرياً منهجياً إنما يوميات، مما ينسجم على الأكثر مع مزاجي الذي يميل إلى الالتقاط الانطباعي للأشياء والناس والأجواء، كتابة حرة في إبداء الملاحظات والمشاعر محاولة مني الإمساك بشيء ما من الحياة الدائرة هناك”؟ وهل لهذه التصنيفات الأدبية أهمية تذكر؟ وكيف لنا أن نفهم أنّ الأكاديمية السويدية اختارت في الأعوام الثلاثة الماضية إبراز مؤلّفين لم تترجم مؤلفاتهم كثيراً وغير معروفين حتى لدى دوائر قطاع النشر، بخاصة في عالمنا العربي؟ فكان هذا التحقيق..
محمد عبيد الله (كاتب وناقد أردني): جائزة نوبل وتقدير كتابة “الأنا”
يبدو لي أنّ جائزة نوبل 2022 بمنحها للكاتبة الفرنسية المعاصرة آني إرنو يمكن أن تُستقبل في إطار تقدير خاص لما يدعى بكتابة الأنا، التي تمثّل لوناً صاعداً في عصرنا يكاد يحلُّ محلّ الكتابة في القضايا العامة وقضايا المجتمع ككلّ. وبالرغم من أنّ الذات هي منبع مهم ومورد رئيس من موارد الكتابة منذ القديم، فإنّ اتّساع حضورها في ضوء شيوع اتّجاهات التحليل النفسي واكتشافات علم النفس ومدارسه المتشعبة بخصوص الذات الإنسانية والهوية الفردية وعلاقة الذات بالمجتمع، وإعادة النظر في علاقة الذات بالموضوع على المستوى الفلسفي، وصولاً إلى انتشار وسائل التواصل التي شجعت حضور الروح الفردية.. كلّ ذلك أسهم في أن تكتسب كتابة الأنا دفعات جديدة، وحضوراً لافتاً في الأدب العالمي، ولربما كانت مثل هذه الخلفية حاضرة في خيارات (نوبل) لتقدير هذا النوع من الأدب الذي أسهمت فيه آني إرنو بقوة منذ عدة عقود، بل إنّ مجمل تجربتها -كما يظهر لنا من أعمالها المترجمة إلى العربية- لا تبعد عنه، فهي تكتب ما كان يدعى قديماً بالمذكرات وأدب السيرة الذاتية، ولكنّه تطوّر تطوّراً واسعاً لا يقف عند ميثاق السيرة الذاتية كما قرره فيليب لوجون في تعريفه الشهير.
أما التساؤل حول مسألة استحقاق آني إرنو لجائزة بحجم جائزة نوبل، فمردّه نظرة القراء إلى نوعية إنتاجها؛ فإذا كنا ممن اعتادوا على الروايات الكبيرة التي تتناول قضايا مجتمعية وإنسانية كبرى، فقد يهولنا منحها لكاتبة سجلت في مختلف كتبها انطباعاتها وحكاياها الشخصية الهامشية وتجاربها العاطفية التي ربما تتشابه مع تجارب الآخرين، وليس فيها أية خصوصية فارقة، وليس فيها عبرة عامة يمكن الانتفاع بها، كما تبدو أنها بسيطة من ناحية الشكل والتعبير الفني فليس فيها بعض ما عرفه القارئ من تعقيد في التقنيات والأساليب مما شاع في الرواية والسرد المعاصر.
أما إذا كنا نقدر (كتابة الذات)، والأدب المعبّر عن الأنا فلربما يختلف الأمر، ونرى أن إنتاج إرنو أسهم في الإعلاء من شأن هذه الكتابة، ومن التحديق فيها ومن خلالها، لقراءة جوانب مؤثّرة من التجربة الإنسانية الأصيلة. أنا أقرب إلى الفريق الثاني الذي يرى في كتابة الذات والتعبير عن الأنا لوناً من ألوان التفكير الإنساني المشروع، وطريقاً موارباً نحو أسئلة الإنسان، حتى لو تظاهر هذا الأدب بأنه أدب شخصي يتعلق بذات الكاتب وتجربته المفردة، وأرى أنّ الأدب مرتبط أشدّ ارتباط بمثل هذه الروح البصيرة التي يمكن أن تتحرّر من أسر التجربة لتكتبها وتعاينها وتستخلص منها خلال ذلك أمارات القوة والضعف، والنجاح والإخفاق.
تقع كتابة إرنو في دائرة التخييل الذاتي، تتهرب من التصنيفات المألوفة، ومن الوقوع في دائرة الأجناس الكبرى، لصالح تطوير أنواع جديدة مشتقة من إعادة النظر في العلاقة بين الواقع والمتخيل، والأنا والجماعة، ذلك أن إدراك الواقع بوضوح ودقة مسألة نسبية، خاضعة لانطباعاتنا وخداع حواسّنا. أخيراً، يمكن أن نقرأ في واقعة فوز إرنو بجائزة نوبل إعلاناً رمزياً لنهاية هيمنة روائع الأدب التقليدية، وبدء مرحلة جديدة قد تولد فيها الروائع من ينابيع الذات والأنا الفردية، ومن تفاصيل سيرتها وتجاربها ووقائعها الهامشية.
سوسن جميل حسن (كاتبة وروائية سورية): انشغال بمفهوم الزمن برؤية خاصّة
عندما سُئلت الكاتبة إلين ماتسون، وهي عضو في الأكاديمية السويدية، ولجنة نوبل للآداب، عن المعايير التي تستند إليها اللجنة في اختيار الفائزين، قالت: الأمر كلّه يتعلّق بالجودة الأدبية، يجب أن يكون الشخص يكتب أدباً ممتازاً. أما ما يتمّم هذا الجواب، فكان، على لسانها أيضاً: لا يوجد حدّ للعمر، لكن الأمرـ تعني الجودة ـ يتطلّب الكثير من الوقت، أحياناً قد يستغرق الأمر حياتك كلّها كي تكون كاتباً جيداً.
تأسيساً على هذا التصريح، يمكن القول بداية إنّ آني إرنو كانت ضمن الدائرة التي تشمل المرشحين للجائزة، فهي كاتبة لديها رصيد كبير من الأعمال الأدبية، بعد عمر تخطّت فيه الثمانين، وهي من الكتّاب الذين شغلوا النقاد، ورسخّوا حضوراً مميزاً وكبيراً لدى القراء، لا أستطيع تبنّي حكم قيمة عن مدى جدارتها بالجائزة، فأوّلاً، أنا لم أقرأ لها إلّا ثلاثة أعمال، طبعاً بعد فوزها بالجائزة، أحدها كانت ترجمته سيئة، لكنّني قرأت حول بعض من أعمالها الأخرى، لقد انشغلت بمفهوم الزمن، قدّمت رؤيتها الخاصّة، الزمن الذي نمتلئ به، مهما قفزنا فوقه، ومهما ملأناه بالتجارب، فإننا نكتشف أنّ تفاصيله قابعة في تلك النقطة العميقة، العصيّة، تحتلّنا. ولها رؤيتها الخاصّة للعواطف الإنسانية، فهي بغوصها في أعماق نفسها تلتقط صلات ما، أو تصادياً بين تلك العواطف ومظاهر الطبيعة، مثلما لو أنها تريد أن تقول إنّ هناك وحدة ما في الوجود، ثم لها طريقتها الخاصّة في تفكيك العلاقة بين الداخل والخارج، الداخل الإنساني والمحيط الذي يعيش فيه، بل حتى المنظومة الحيوية التي ينتمي إليها، بارعة في التقاط المشاعر والعواطف وإزالة بعض القشور عنها، لنرى أنها تتجلّى بعدد لا نهائي من الأشكال والتعبيرات ضمن النفس، وهي جريئة في رفع الغطاء عن هذا كلّه، نظرتها المميزة للكتابة وفهمها لها ولدورها، كما في نصّ «الاحتلال» “كانت الكتابة بمثابة طريقة لأن أنقذ ذاك الذي لم يكن واقعي أبداً، أي ذاك الإحساس الذي كان يتملكني من رأسي حتى أخمص قدمي وأنا في الشارع، والذي أصبح “احتلالاً”، لفترة معينة، انتهتْ الآن”.
ما كتبت آني إرنو نصوص سردية إبداعية ممتعة وعميقة ومؤثّرة، فهل يجب حصر المنتج الإبداعي في قوالب نمطية متفق عليها، أم إنّ الإبداع، كمنتج غير مادي للحضارة الإنسانية، مفتوح على احتمالات لا تحدّ من الابتكار؟ هل من الضروري تصنيف كتاباتها على أنها نصوص سيرية، أو يوميات، أو روايات؟ أنا أراها سرديات بديعة، ربما تشبه اليوميات أحياناً، وأحياناً يمكن تسميتها رواية، أو مذكّرات.
أما السبب الثاني الذي يجعلني غير قادرة على الحكم بمدى جدارتها بالجائزة، فهو أنّ هذه الجائزة المهمة والمرموقة لها معاييرها الخاصّة، ولها أدوات الترشيح الخاصّة أيضاً، وهي ليست بسيطة، لذلك لا أظن أنها من الخفة بما يجعلها تمنح الجائزة لأدب قيمته متواضعة، وإذا كانت بعض الآراء ترى أنّ الأكاديمية اختارت في الأعوام الثلاثة الماضية إبراز مؤلفين لم تترجم مؤلفاتهم كثيراً، بخاصّة في عالمنا العربي، فهذا يحيل إلى قضية أخرى على علاقة بموضوع الترجمة والمقروئية في عالمنا العربي، فعندما فاز في العام الماضي الروائي عبد الرزاق قرنح، نفدت كتبه مباشرة من المكتبات الألمانية، هذا يشير إلى أنه كان مترجماً إلى هذه اللغة، بالإضافة إلى المشاكل الجذرية في موضوع المنتج الأدبي العربي وتعريفه وتصنيفه وتصديره إلى الآخر، وتأسيس جهات ثقافية يكون لها حضور مؤثّر، ودور في الترشيح لجوائز من هذا النوع. ولا بدّ من الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي معايير النقد في تقويم المنتج الأدبي، التي من المؤكّد أنها تلعب دوراً في تزكية الأعمال الفائزة، فنحن، فيما يتعلّق بالحركة النقدية، مازلنا مقصّرين وغير فاعلين في تطوير هذا الحقل، بل غالباً ما نتبنى النظريات التي نشأت وتطوّرت، وما زالت، في أوروبا وأمريكا وغيرهما.
إدريس الخضراوي (كاتب وباحث مغربي): عندما يكون المفهوم عن الأدب على المحكّ
يبدو لي أنّ السؤال الأساس في حالة الكاتبة الفرنسية آني إرنو التي توّجت هذا العام بجائزة نوبل، وهي أكبر جائزة أدبية عالمية تقول لمن نالها أنه قدّم الشيء الكثير للإنسانية، ليس هو ما إذا كانت هذه الكاتبة تستحقّ الجائزة أم لا، وإنما هو السؤال المتعلّق بالمكوّن الذي يرنّ بقوة في عملها، ويَجعلُ من مؤلّفة «انظر إلى الأضواء يا حبيبي»، مبدعةً مختلفة عن كتّاب قد يكونون أكثر شهرة منها، ولم يتمكّنوا من حصد هذه الجائزة. وهنا بالطبع تبرز من خلال التنشئة الاجتماعية لآني إرنو، ومن خلال نصوصها، بما في ذلك «الأعوام»، و«الاحتلال» و«شغف بسيط»… القدرة الرهيبة للأدب على التعبير عن التمزّق، بما في ذلك التمزّق الذي عاشته الكاتبة، وترميم العالم الذي يعرف تصدّعات عميقة في هذا العصر الذي هو عصرنا. وعلى هذا الأساس، يَتعينُ شعور المبدع بالمسؤولية الملقاة على عاتقه إزاء الشعوب التي تَتعرّضُ للقهر والاستغلالِ والحرمانِ من حقها في الوجود على أرضها، كالشعب الفلسطيني الذي لا يَزالُ يناضل من أجل التخلّص من نير الاحتلال الصهيوني، أو التمييز الذي تتعرّض له النساء في مناطق واسعة من العالم، أو الكراهيات ضدّ الأجانب، أو القهر الذي يكابده العمال، والناس البسطاء بحثاً عن لقمة العيش، بوصفها موضوعات تمنح أدب آني إرنو سمات الكتابة التي تدلّ على التحوّل الهائل الذي يشهده الأدب مع مطلع الألفية الثالثة بعد ضروب التحذير من نهايته التي كانت تأتي من كلّ مكان. ولنتذكّر ما كتبه عن هذه النهاية كلّ من جون ماري دوميناخ، وتودوروف، ووليام ماركس، ودومينيك مانغونو، وريشار ميي، وجون ماري شايفر، وجون كلود ماسرا، على سبيل المثال لا الحصر. إن ما يلفت النظر إلى عمل آني إرنو، في تقديري، هو هذه المادة التي تتخلّق من رحمها الكتابة، وبالتالي فإنّ ما هو أصيل في عملها، وما يعطيه قوته الضاربة هو هذا الاستعمال الخاصّ للغة أو القطع مع “الكتابة الجميلة”.
هل يُؤشرُ هذا التتويج على تحوّل في النّظرة إلى المعتمد المكرّس؟ أعتقد أنّ الناظر إلى الأسماء التي توّجت بجائزة نوبل، على الأقل منذ 2016 عندما نالها بوب ديلان، وهو مغنّ وكاتب كلمات أمريكي شهير، والمجادلات التي أثارها هذا التتويج، والانقسام الذي حدث بين النقاد والمهتمّين بالشأن الأدبي، بين من آخذوا على لجنة التحكيم انتهاكها لحدود الأدب، والمعايير التي تتأسّس عليها الأجناس الأدبية المعروفة، وبين من رحّبوا بهذا التتويج، وأبصروا فيه تكريماً للأغنية، معلّلين ذلك بأمثلة من تاريخ الأدب القديم كالشاعر الملحمي هوميروس الذي كان منشداً، إنّ الناظر، إذاً، إلى الأسماء المتوّجة خلال السنين الأخيرة، يلمس بقوّة أنّ المفهوم عن الأدب من جهة، والحدود بين ما هو أدبي وما ليس أدباً، باتت على المحكّ بشكل لاهب. فأن يتوّج بالجائزة كتّاب يستكشفون من خلال الكتابة في أشكال أخرى لا تحظى بالاعتراف الكامل من المؤسسة الأدبية، ككتابة الأغاني، والتقرير الصحفي، والشهادة، واليوميات، والمذكرات، والسيرة الذاتية، والتخييل الذاتي، أو مبدعون ينطوي عملهم على ضرب من الالتزام، حتى وإن كان ذلك مختلفاً عن الالتزام السارتري، مثلما يعكس ذلك أدب ما بعد الكولونيالية المسكون بالبحث عن قيم بديلة لنزعات الهيمنة الغربية التي تطمس ضروب الاختلاف والتنوع العالميين، وهنا يمكن أن نفكّر بالكاتب التنزاني عبد الرزاق قرنح، وقبله بالبيان الذي وقعه عام 2007 أربعة وأربعون كاتباً فرانكفونياً، فإنّ ذلك يعني أنّ زمن المفهوم عن الأدب حيث يُهيمنُ الشّعري على حساب القوّة المرجعية قد ولّى.
آمال مختار (كاتبة وروائية تونسية): البحث عن درر الإبداع في الزوايا المعتمة
يبدو أنّ الأكاديمية السويدية التي تمنح جائزة نوبل للآداب لا يعنيها في عملية منحها للجائزة للأسماء المكرّسة إعلامياً بقدر ما يعنيها تقديم أسماء كاكتشاف في عالم الأدب والرواية والكتابة عموماً. وشخصياً أساند هذا التوجّه في منح الجوائز لأني أرى في ذلك مكافأة للمبدع الذي يعمل في صمت وخارج مهرجانات الدعاية والتبجح وعرض ما يكتبه الكاتب للناس بأساليب غير بريئة بالمرّة.
من ناحية أخرى، أرى أنه من دور الجوائز الكبرى البحث عن درر الإبداع في الزوايا المعتمة، حيث هناك دائماً من يكتب لنفسه دون انتظار لأي مكافأة ما معتبراً متعة الكتابة مكافأة في حدّ ذاتها. إضافة إلى أنّ عملية الكتابة في هذه النوعية تعتبر نوعاً من “الثيرابي” أو عملية من عمليات الشفاء النفسي. خاصّة إذا ما كان ما يكتبه يندرج في باب اليوميات والسيرة الروائية كما هو حال الفائزة بجائزة نوبل للآداب لسنة 2022 الفرنسة آني إرنو، وهي التي اعترفت بلسانها أنّ ما تكتبه هو يومياتها، وهو يخصّ مشاعرها الشخصية نحو قضايا ومواقف عاشتها هي بنفسها. ولكن يظلّ الأهمّ واللافت في ما كتبته آني إرنو في مدونتها التي تخصّها وحدها كبطلة لهذه اليوميات أنّ ما كتبته هو مادة إنسانية صادقة تمس في العمق أياً كان من القرّاء. وهنا تكمن نقطة القوّة وبيت الإبداع الذي تفطنت له الأكاديمية السويدية ومنحت من أجله نوبل لهذه الكاتبة الفرنسية التي لامست في يومياتها الروائية ما يمكن أن تعيشه أي امرأة في الكون. وهنا سحر الأدب وقوّته، وهنا أيضاً شجاعة الكاتبة المرأة التي كتبت بجرأة آلامها وأحزانها دون تردّد ولا خجل من حقائق الحياة ومن الذين يقيمون محاكم التفتيش في نوايا الكتّاب رجالاً فما بالك بالنساء، وبامرأة جاهرت بشجاعة وجرأة على تعرية النفس بمثل ذلك الصدق. أما في ما يخصّ تصنيف النصوص فأنا مع حريّة الكاتب في الإبداع بالأسلوب الذي يناسب مزاجه مؤمنة بتداخل الفنون في الكتابة وبتعدد فروع الموهبة داخل نفس الكاتب المبدع، ومؤمنة أنّ المبدع هو من يخلق النصّ وأنّ على الناقد أن يبحث فيه ليخلق أدوات تشريحه وتصنيفه.
جودت هوشيار (كاتب ومترجم عراقي): اختيار ينطلق من القيمة الفكرية والفنية لأعمال إرنو
معظم التنبؤات حول من سينال جائزة نوبل لهذه السنة أو تلك، لا تتحقّق إلّا نادراً. ليس لأنّ من تروج له وسائل الإعلام، لا يستحقّ الجائزة، بل لأن عملية اختيار المرشح الأفضل للجائزة تخضع لعوامل كثيرة: القيمة الأدبية لنتاجات المرشح، ونظرة أعضاء الأكاديمية السويدية – مانحة الجائزة – إلى الثقافة المعاصرة عموماً، والتي هي أوسع بكثير من نظرتنا الشرقية. ويلعب التوازن بين الثقافات المختلفة دوراً مهماً في عملية الاختيار، ثم يأتي العامل السياسي أحياناً. وهذا لا يعني مطلقاً بأنّ الجائزة تمنح لأسباب سياسية محضة. هذا تفكير أحادي الجانب، ذلك لأنّ عملية الاختيار معقّدة تتداخل فيها في كلّ مرّة عوامل تختلف عن المرّات السابقة من حيث تأثيرها وأهمّيتها النسبية.
قالت الأكاديمية السويدية أنها منحت جائزة نوبل في الآداب لعام 2022 إلى آني إرنو “للشجاعة والدقة السريرية التي تكشف بها الجذور والاغتراب والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية”. آني إرنو تستحقّ تماماً جائزة نوبل في الأدب. وكان هذا خياراً جريئاً وصحيحاً للأكاديمية السويدية لأنه ينطلق من القيمة الفكرية والفنية لأعمالها، وهي الكاتبة الواقعية المعاصرة الأولى في فرنسا.
تستند معظم روايات آني إرنو إلى حقائق حياتها الشخصية. فقد عانت في سنوات شبابها من الاعتداء الجنسي وحتى الإجهاض غير القانوني. حول كلّ هذا كتبت أكثر من رواية سيرة ذاتية فكرية عميقة. لا تنسب آني أرنو أعمالها إلى جنس أدبي معين. وتقول إنها ابتكرت أسلوبها الخاصّ ولغتها. تثير رواياتها الاجتماعية المؤثّرة العديد من الموضوعات المعاصرة غير المريحة والمؤلمة. الشخصية الرئيسية في كلّ عمل من أعمالها هي امرأة ذات مصير معقّد وحتى مأساوي. وتكتب إرنو رواياتها بلغة بسيطة ومفهومة.
في عام 2020 فازت بجائزة نوبل في الأدب الشاعرة الأميركية الشهيرة لويز جلوك، التي حازت العديد من الجوائز الأدبية الرئيسية في الولايات المتحدة، ومنها جائزة بوليتزر الرفيعة. وفاز بالجائزة لعام 2021 الكاتب التنزاني عبد الرزاق قرنح. وكان ذلك مفاجأة للأوساط الأدبية في العالم، ليس لأنّ قرنح لا يستحقّ الجائزة فهو كاتب كبير، ولكنّه لم يكن معروفاً على نطاق واسع حتى في إنجلترا، التي يعيش فيها ويكتب بلغتها. ومع ذلك لم تخطئ الأكاديمية السويدية في منحه الجائزة الأدبية الأهمّ في العالم، لأنه يستحقّها فعلاً. أما آني إرنو الفائزة بالجائزة في عام 2022 فإنها معروفة على نطاق واسع في الدول الأوروبية والولايات المتحدة. ويبدو لي أنّ الأكاديمية السويدية أخذت تراعي في السنوات الأخيرة التوازن الجغرافي في منح جائزة الأدب. فالفائزون في السنوات الثلاث الأخيرة ينتمون إلى ثلاث قارات مختلفة.
إنّ ترجمة أعمال أي كاتب إلى اللغة العربية لا يمكن أن تعد معياراً لقيمتها الأدبية، لأنّ دور النشر العربية تنشر ترجمات – متسرّعة أحياناً – للكتب الرائجة في الآداب الغربية، بصرف النظر عن قيمتها الفكرية والفنية. ومع ذلك فإنّ ما يترجم إلى العربية من الأدب العالمي ضئيل جداً. ويكفي أن نقول إنّ إسبانيا وحدها تترجم من اللغات الأخرى أكثر من الدول العربية مجتمعة.
صابر رشدي (كاتب وقاص مصري): لماذا لا تتغيّر معايير جائزة نوبل؟
في السنوات الأخيرة، بدأ متابعي الأدب في كلّ مكان يستيقظون كلّ عام على مفاجآت من النوع المثير، فهناك عدد قليل من الأشخاص يتحكّمون في مسار الإبداع العالمي، عندما يضعون أحد الكتّاب على منصّة الكبار، متوجاً بأكبر جائزة دولية، مادياً ومعنوياً، هؤلاء هم أعضاء الأكاديمية السويدية، الستة، الذين قد ينتشلون من العدم كاتباً مجهولاً، ويكتبون له الخلود عن طريق منحه جائزة نوبل للآداب، أو يسبغون الحماية على كاتب مضطّهد من قبل النظام الذي يحكم بلاده، أو مستشعرين الحرج من عدم إدراج اسم كاتب حاصرهم بحضوره العالمي عبر ملايين النسخ من أعماله، وعشرات اللغات المترجم إليها، وعدد الكتب والدراسات التي كتبت عنه. أو الانحياز لنوع معين من الكتابات. نوبل، ضربة حظ، يوفرها القدر لأصدقاء الكواكب السعيدة: شهرة، إعادة طبع، مزيد من اللغات، دعوات، ندوات، محاضرات، حوارات صحافية وتلفزيونية. الأهمّ: التحوّل التاريخي، أن يكون شخصاً مبجلاً أينما حلّ، مسموعاً ومؤثّراً، يمثّل إضافة ثمينة لأي قضية يقوم بمساندتها، وخصماً أليماً من رصيد أي جهة يتم رفض تصرفاتها، والتنديد بها في السياسة تحديداً. لكلماته صدى وتأثير بالغين. كلّ هذا نتيجة هذا التكريم. في السابق، كانت التوقّعات تذهب إلى الكتّاب الكلاسيكيين، الذين أحرزوا مكانة راسخة، وأعمال شديدة الجودة، كنت أتوقّع دائماً فوز الكاتب الألباني إسماعيل كادريه، أو المكسيكي كارلوس فوينتس، أو الرجل الذي غير شكل الكتابة النثرية وغذى فن السرد بقواعد أسلوبية وجمالية مدهشة، دفعت بتذوقه حدّ السحر. تذهب توقّعاتي إلى بول اوستر، مرجريت آتوود، ميلان كونديرا.. لكني اُفاجأ بكتّاب لم أسمع بهم، ولم تترجم أعمالهم إلى العربية، تذهب الجائزة إلى موسيقي في المقام الأول ولكنّها تمنح له في الشعر، وهو كاتب الأغنيات والمؤلف الموسيقي، الأمريكي بوب ديلان، كما ذهبت إلى كاتبة استقصائية، تكتب ريبورتاجات أدبية، مستلهمة نمط السرد الروائي، وهي البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش.
تراجع الانحياز السابق إلى النوع الروائي أو الشعري الخالص. لم تعد المسألة إذن تدشين للنماذج الكلاسيكية القديمة والحفاظ على نقاء النوع الأدبي من الهجنة، لقد تغيّرت ذائقة العالم، وذائقة الأكاديمية السويدية؛ فهي أيضا جزء من هذا العالم، تحاول التعاطي مع متغيّراته، ضاربة بوصايا مؤسّسها الشهير ألفريد نوبل عرض الحائط. لقد كنت أتمنى، مع هذه السيولة، أن أرى أسماء كبرى في عالم الفكر والنقد. كإدوارد سعيد، تزفيتان تودوروف، ميشيل فوكو، رولان بارت، تيري ايجلتون، هارولد بلوم، عبدالله العروي، عبد الكبير الخطيبي في قائمة نوبل المبجلة، وأيضاً أسماء أخرى، في مجال آخر، وهو الصحافة العالمية لا تقلّ إبداعاً في كتابة السرد عن كبار الروائيين، مثل بوب ودورد، محمد حسنين هيكل، أريك رولو.. إنهم يرصدون حوادث العالم الكبرى على نحو مدهش، فائق الجاذبية والإثارة، دون أن تفقد الكتابة رصانتها، ونثرها اللامع المتألق.
نأتي إلى الفرنسية آني إرنو، صاحبة استحقاق نوبل ٢٠٢٢. الذي يؤكّد على تغيّر مزاج مانحي الجائزة، وانحيازهم لأشكال أدبية أخرى من الكتابة، كتابة الذات؛ التي تنعكس عليها الأحداث والتجارب، وتمارس حريتها في البوح الحميم، والسرد الذي يستبطن الاعترافات، ويعمل على الداخل. الأهمّ بالنسبة لي عدم انبهار الجائزة بـ”الروايات البدينة” حسب مصطلح الناقد المغربي د. سعيد يقطين. إرنو تخالف المتعارف عليه في كتابة الرواية، إنها تكتب نفسها فقط. رواياتها القصيرة هي سيرة ذاتية متعدّدة الأجزاء، سرد بسيط، لا يفتقر إلى العمق، فهي تعلم تماماً سر الصنعة، وتجيد ما تفعله. إنها تباري أمهر الكتّاب، عندما تسطر مشاعرها، مستعيدة تجاربها المريرة، دون أن تفقد وهج الإبداع.
لماذا أثيرت الضجة إذن؟ من حسن حظي أني قرأتها قبل حصولها على الجائزة. فقد ترجمت مبكراً في القاهرة. لقد توقفت عند صدقها، وهي تكتب عن أبيها، عن أمها، عن الطبقة الفقيرة القادمة منها، عن مآسي الحب والنزوات. هي لا تخجل من وضع كلّ حياتها أمام القارئ، لا تدّعي بطولات، لا تلتمس لنفسها أعذاراً، أو مبرّرات، حتى في أشدّ لحظاتها أخطاء. إنها تعيش فوق الأرض، ولا تخفي تحت ملابسها جناحي ملاك وتدّعي البطولة. إنها امتداد، أقلّ طبعاً، لسيدتين عظيمتين، سيمون دو بوفوار، ومارجريت دوراس. أخطأتهما نوبل، وأخطأهم التقدير الفرنسي أيضاً، عندما لم يضعهما في مرتبة تفوق معظم كتّاب فرنسا. إلّا إذا أستثنينا فرديناند سيلين وجان جينيه.
على أي حال، لقد دخل العالم منذ فترة في مرحلة كسر التوقّعات، في السياسة والاقتصاد والأدب وكرة القدم، تخلخلت البديهيات، ولم تعد الأفكار الراسخة تتحكّم في مجريات الأمور. على الكاتب أن يكتب ما يشاء، ولكن عليه أولاً أن يكتب جيداً.
محمد المسعودي (شاعر وناقد مغربي): كتابة تنتصر للكتابة في ذاتها وللواقع الإنساني
حسب رأيي، أنّ أي فائز بجائزة من الجوائز يستحقّها، وهذا الاستحقاق يتأتى من عملية اختياره وترجيح كفته من قبل لجنة مختصّة نظرت إلى ما أبدعه وقومته، ومن ثم منحته الجائزة من بين عشرات من المبدعين الآخرين. ومن هنا لا أعد فوز آني إرنو -التي لم تكن معروفة لدى كثيرين من المهتمّين بالأدب في العالم- نشازاً، أو أتى عن غير استحقاق، فهي كاتبة لها حضورها في فرنسا، وفي الغرب الأوروبي، ولها منحى خاصّ في كتابتها الأدبية سنقف عند بعض سماتها في إجابة لاحقة.
وفيما يتعلّق بتصنيف كتابات النوبيلية الجديدة في إطار جنس أدبي محدّد: (رواية-سيرة روائية-رواية سيرية-مذكرات-يوميات). فأظن أنّ أعمال آني إرنو لا يمكن تصنيفها في جنس واحد من هذه الأجناس الأدبية، فلكلّ عمل من أعمالها السردية شكل يختلف عن الآخر، ومن ثم فهي كتابة تنتصر للكتابة في ذاتها، وللواقع الإنساني في أدق تفاصيله، وأجلى مظاهر بشاعته وقباحته، وفي أرق لحظاته وأرقاها. وحسب ما قرأته للكاتبة من أعمال أجد أنها تمتاح من تجاربها الحياتية لتكتب نوعاً من السيرة الروائية، أحياناً، وأحياناً أخرى تكتب نوعاً من الرواية السيرية مشكّلة عوالمها السردية من خلال توظيف إمكانات أنواع أدبية مختلفة: المذكرات واليوميات وفنون السرد الروائي من تقطيع زماني وعودة إلى الوراء واستدعاء وغيرها من الصيغ الفنية. وبهذه الشاكلة فهي لا تكتب سيرة خالصة (أوتوبيوغرافيا)، كما لا تكتب مذكرات ولا يوميات، بقدر ما تكتب نصوصاً سردية منفتحة تنطلق من الذات لتشكّل رؤية لهذه الذات في تفاعلها مع العالم، ومع الآخر، ومع ذاتها. ولعل العناية بالأنا أكبر هم يشغل كتابة هذه المبدعة.
وهل لهذه التصنيفات الأدبية أهمّية تذكر؟ هذه تصنيفات نقدية تُسعف الدارس والقارئ على تمييز النصوص، ومعرفة الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا النصّ أو ذاك. وحسب وجهة نظري، أنّ النصوص الإبداعية ليست ملزمة بضوابط صارمة، وإلّا انتفى الإبداع الذي ينبغي أن يلتزم بتحقيق الجمال الفني، وأن ينقل رؤى الكاتب وأحاسيسه ومشاعره بدرجة أساس إلى المتلقّي.
أما عن اختيار الأكاديمية السويدية في الأعوام الثلاثة الماضية، إبراز مؤلفين لم تترجم مؤلفاتهم كثيراً وغير معروفين حتى لدى دوائر قطاع النشر، بخاصّة في عالمنا العربي. فحسب اطّلاعي على الأسماء الفائزة بجائزة نوبل، ومن خلال متابعتي لتاريخها في اختيار الفائزين لم أستغرب من هذا المنحى الذي دأبت عليه الأكاديمية. فأول فائز بالجائزة، وهو الفرنسي سوللي برودوم كان مجهولاً حتى في فرنسا ذاتها في زمن كان أدباء آخرون أكثر ترجمة وحضوراً وفي لغات عدة، مثل تولستوي وتشيخوف وطاغور (الذي فاز بها لاحقاً)، وغيرهم، ثم فاز بها في سنوات لاحقة يوسف عجنون الإسرائيلي، وهو مجهول ولم يترجم إلّا إلى الإنجليزية، حسب علمي. ولهذا فإنّ نوبل لا تهتم كثيراً، وفي بعض السنوات، بالأسماء الأكثر شهرة، والأشدّ تأثيراً، والأهمّ أدبياً، وإنما تكون لها أجندات خاصّة لإبراز أسماء معينة، وبالتأكيد أنّ الجائزة لا تقف عند ما هو أدبي، فحسب، وإنما تنطلق من رؤية سياسية توجهها ككلّ الجوائز في العالم، ومن ثم، فإنّ الأسماء التي تفوز قد لا تكون معروفة على نطاق واسع. وفيما يتعلق بالناشر العربي، فهو في الأعم تاجر، وتابع، لا رؤية إستراتيجية له، ولا يكتشف بذاته ما يوجد من أدب في ثقافات أخرى إلّا إذا مرّ من خلال الإعلام أو الدوائر الغربية، ولهذا سنرى القارئ والناشر العربيين يفاجآن دائماً بأسماء لا تخطر لهما على بال تفوز بنوبل وبالبوكر والبوليتزر وغيرها من الجوائز العالمية.