كتبها جون برجر ونشرت في London Review of Books في يوليو ٢٠٠٣، وهذه ترجمتنا لها.
ما زالت بعض الأشجار-لا سيما التوت والزعرور- تروي حكايةً عن زمنٍ بعيد، عن حياةٍ أخرى، قبل النكبة، عندما كانت رام الله مدينةً لميسوري الحال، مدينةً للترفيه والاسترخاء، مكاناً للابتعاد عن القدسِ المجاورة خلال فصول الصيف الحارَّة، منتجعاً. يُشير اصطلاح النكبة إلى “كارثة” سنة 1948، حينما قُتِل عشرة آلاف فلسطينيّ، وأُجبرَ سبعمائة ألفٍ على الرحيل عن بلادهم.
قبل فترةٍ طويلة، اعتادَ المتزوِّجون حديثاً على زراعة الورود في حدائق رام الله كبشارة خيرٍ على حياتهم المستقبليَّة معاً. وكانت تُربتها الطمييَّةُ ملائمةً لتلك الورود.
اليوم، ما من جدارٍ في مركز مدينة رام الله، التي أصبحت عاصمة السلطة الفلسطينيَّة، إلَّا وغطَّته صور الموتى حين كانوا لا يزالون على قيد الحياة، وذلك بعد أن أعيدَت طباعتها على هيئة ملصقاتٍ صغيرة الحجم. كان هؤلاء شهداء الانتفاضة الثانية التي اندلعَت في شهر أيلول من سنة 2000. ملصقاتٌ لمن قتلهم الجيشُ الإسرائيليُّ والمستوطنون، وللذين قرَّروا التضحية بحياتهم في هجماتٍ انتحاريَّةٍ مضادَّة. حوَّلَت وجوهُهم الجدرانَ العشوائيَّة في الأزَّقة والشوارع إلى شيءٍ حميميٍّ أشبه بمحفظةٍ تغصُّ بصورٍ وقصاصات ورقٍ شخصيَّة. لهذه المحفظة أيضاً جيبٌ لبطاقة الهويَّة الممغنطة التي تُصدِرها أجهزة الأمن الإسرائيليَّة، والتي لا يستطيع أيُّ فلسطينيٍّ من دونها أن يسافر حتَّى لبضعة كيلومترات. وثمَّ فيها جيبٌ آخرٌ للخلود. على الجدران، حول تلك الملصقات، آثارُ ندباتٍ خلَّفتها الشظايا والرصاص.
ثمَّة امرأةٌ عجوز في عدَّةٍ محافظ، لعلَّها كانت الجدَّة. وهنالك فتيةٌ أيضاً في أوائل سنِّ المراهقة، والعديد من الآباء. تحضرُني ماهيَّة الفقر كلَّما أصغيتُ إلى حكايات لحظاتهم الأخيرة. إنَّ الفقر يجبرنا على أشدِّ الخيارات قسوة؛ تلك التي لا تفضي إلى اللا شيء تقريباً. الفقر هو أن يعيش المرء مع تلك الـ “تقريباً”.
وُلِد معظم الفتية الذين كانت وجوههم على الجدران في مخيَّماتٍ للاجئين، فقيرةٍ على غرار مدن الصفيح. كانوا قد تركوا الدراسة في وقتٍ مبكِّرٍ بغية كسب المال لعائلاتهم، أو مساعدة آبائهم في أعمالهم إن كان لديهم عملٌ في الأصل. قلَّةٌ منهم حلموا بأن يصبحوا نجوماً في كرة القدم. في حين انشغلَ عددٌ لا بأس به منهم في صناعة المقاليع من الخشب المنحوت والحبال المبرومة والجلود المفتولة، وذلك من أجل رشق الحجارة على جيش الاحتلال. من شأنِ أيِّ مقارنةٍ ما بين الأسلحة المستخدمة في تلك المواجهات أن تحيلنا مجدَّداً إلى الحديث عن ماهيَّة الفقر. فمن جهة، هنالك مروحيَّات أباتشي وكوبرا، ومقاتلات إف-16، ودبَّابات، وعربات هامفي، وأنظمة مراقبةٍ إلكترونيَّة، وغازٌ مسيِّلٌ للدموع؛ وعلى الجانب المقابل، هنالك مقاليع، ونبال، وهواتف محمولة، وبنادق كلاشينكوف سيِّئة الاستخدام، وفي الغالب عبواتٌ ناسفةٌ يدويَّة الصنع. تفضَحُ شناعة التباين السابق عن شيءٍ بمقدوري أن أشعرَ به بين هذه الجدران المكلومة لكنَّني لا أستطيع وصفَه. لو كنتُ جنديَّاً إسرائيليَّاً، ومهما بلغ مستوى تسليحي من الجودة، فإنَّني قد أشعر بالخوف في نهاية المطاف من هذا الشيء. ولعلَّ هذا ما أدركَهُ الشاعر مريد البرغوثي حينما قال: “إذا كان الأحياء يشيخون، فإنَّ الشهداء يزدادون شباباً”.
ثلاثُ قصصٍ من الجدران.
حسني النجَّار، أربعة عشر عاماً. عمل حسني مساعداً لوالده الذي كان يعمل لحَّاماً. أثناء رشق الحجارة، أطلقوا عليه رصاصةً أصابته في رأسه وخرَّ قتيلاً. نراه في صورته مُحدِّقاً بهدوءٍ وثباتٍ إلى منتصف المسافة.
عبد الحميد الخرطي، أربعة وثلاثون عاماً. فنَّانٌ تشكيليٌّ وكاتب. في شبابه، تدَّرب عبد الحميد كممرِّض. وفي مرحلةٍ لاحقة، انضمَّ كمتطوِّعٍ في وحدة الطوارئ الطبِّيَّة من أجل إنقاذ الجرحى ورعايتهم. عُثِر على جثَّته على مقربةٍ من نقطة تفتيش، بعد ليلةٍ لم تشهَد أيَّ مواجهات. كانت أصابعه مقطوعة. إبهامُه مُدلَّى. ذراعه وفكُّه مكسوران. وفي جسِده عشرون رصاصة.
محمَّد الدرَّة، اثنا عشر عاماً، من سكَّان مخيَّم البريج. كان الصبيُّ في طريق العودة إلى منزله بصحبة والده، مروراً بنقطة تفتيش نتساريم في غزَّة، حينما أُمروا بالترجُّل من سيَّارتهم. كان الجنود يطلقون النيران بالفعل، فاختبأ الأبُ وابنه خلفَ جدارٍ إسمنتيّ على الفور. لوَّح الأبُ بيده ليشيرَ إلى موقعه، فتلقَّى رصاصةً في يده. بُعيدَ لحظات، أصيب محمَّد برصاصةٍ في قدمه. حينئذ، حوَّل الأب جسدَهُ درعاً لحماية صغيره. مزيدٌ من الأعيرة الناريَّة أصابت كلاهما، وأودَت بحياة الصبيّ. استخرَج الأطبَّاءُ من جسدِ الأب ثماني رصاصات، لكنَّه كان قد أصيب بالشلل من جرَّاء جراحه بالفعل ولم يعد قادراً على العمل. ولأنَّه صادفَ أن جرى تصوير تلك الحادثة، فقد انتشرَت قصَّة ما حدث في جميع أنحاء العالم.
أردتُ رسمَ لوحةٍ لعبد الحميد الخرطيّ، فتوجَّهتُ في الصباح الباكر إلى قرية عين قينيا. خلفَ القرية مخيَّمٌ للبدو على مقربةٍ من واد. كان الجوُّ لا يزال معتدلاً. وكانت الأغنام والماعز ترعى على مقربةٍ من الخيام. اخترتُ أن أرسم التلال التي تطلُّ شرقاً. جلستُ على صخرةٍ قريبةٍ من خيمةٍ لونها ضاربٌ إلى السواد. لم يكن لديَّ سوى دفتر ملاحظاتٍ وقلم. كوبٌ بلاستيكيٌّ ملقى على الأرض أوحى إليَّ بفكرة أن أجلب بعض الماء من النبع الربيعيِّ كي أمزجه مع الحبر.
بعد أن أمضيتُ فترةً في الرسم، اقتربَ منِّي شابٌّ (لا بدَّ أنَّ كلَّ من في الخيَّام قد انتبهوا لوجودي في ذلك الوقت)، وفتح باب الخيمة خلفي ودخل إليها، ثمَّ خرج يحملُ كرسيَّاً أبيض متهالكاً، ومن شأنه، كما أخبرَني، أن يكون أكثر راحةً من الجلوس على صخرة. أغلب الظنِّ أنَّ الكرسيَّ كان، قبل أن يعثُر عليه، ملقى في الشارع خارج متجر حلويَّاتٍ أو حافلةٍ لبيع المثلَّجات. شكرتُ الشابَّ على صنيعه.
جالساً على ذلك الكرسيِّ في المخيَّم البدويّ، في فترةٍ اشتَّد فيها حرُّ الشمس وبدأت الضفادعُ عند مجرى النهر شبه الجافِّ نقيقها، واصلتُ الرسم. على قمَّة تلٍ يَبعُد بضعة كيلومتراتٍ إلى جهة اليسار، هنالك مستوطنةٌ إسرائيليَّة. بدَت ذات طابعٍ عسكريّ، كما لو كانت جزءاً من سلاحٍ مُصمَّمٍ للاستجابةٍ العاجلة. ومع ذلك، كانت صغيرةً ونائية. قبالتي تلٌّ قريبٌ من الحجر الكلسيِّ له هيئة رأس حيوانٍ عملاقٍ نائم، وللصخور المتناثرة فوقَهُ شكلُ نتوءاتٍ في شعره الأشعث. انتابني شعورٌ مفاجئٌ بالإحباط إذ لم أكن أحمل معي ألواناً، فصببتُ ماءً من الكوب على التراب عند قدميّ، ثمَّ غمستُ أصبعي في الطين ومسحتُ اللون على امتداد لوحة رأس الحيوان. صار الطقس حارَّاً الآن. نهيق بغل. قلبتُ صفحةً من دفتر الملاحظات وشرعتُ أرسم لوحة تلو أخرى. لم تبدُ أيٌّ منها مكتملة. عندما عاد الشابُّ في نهاية المطاف، طلب منِّي أن يرى ما رسمت.
رفعتُ دفتر الملاحظات المفتوح باتِّجاهه. ارتسمَت على وجهه ابتسامة. قلبتُ الصفحة. قال: “هذا لنا! ترابُنا!”، مشيراً بأصبعه نحو أصبعي، لا الرسم.
ثمَّ نظر كلانا إلى التلّ.
لم أكن بين المحتلِّين، بل المهزومين؛ أولئك الذين يخشاهم المنتصرون. لطالما كان وقتُ المنتصرين قصيراً، في حين أنَّ وقت المهزومين لا حدَّ له. لكلٍّ منهم مساحةٌ مختلفةٌ أيضاً. كلُّ شيءٍ على هذي الأرض مسألةٌ تتعلَّق بالمساحة، وقد أدرك المنتصرون ذلك إلى حدٍّ بعيد، فقبضتهم الخانقة التي يُطبِقونها ذاتُ طابعٍ مكانيّ، وتظَهرُ، بصورةٍ غير قانونيَّةٍ وفي تحدٍّ للقانون الدوليّ، على هيئة نقاط التفتيش؛ وتدمير الطرق القديمة؛ وفتح معابر جديدةٍ مخصَّصةٍ حصراً للمستوطنين الإسرائيليِّين؛ وإنشاء مستوطناتٍ حصينة على قمم التلال، والتي تلعبُ في الحقيقة دور نقاطٍ لمراقبة الهضاب المحيطة بها والسيطرة عليها؛ وحظر التجوُّل الذي يجبر السكَّان على البقاء في منازلهم ليلاً ونهاراً حتَّى إعلان رفعه. إبَّان اجتياح رام الله في العام الفائت، استمرَّ حظر التجوُّل لمدَّة ستَّة أسابيع، مع “رفعه” لبضع ساعاتٍ في أيَّام محدَّدة من أجل التسوُّق. لم يكن لدى السكَّان ما يكفي من وقتٍ لدفن أولئك الذين ماتوا في أسِرَّتهم.
أشار المهندس الإسرائيليُّ المنشقُّ إيال وايزمان في دراسةٍ جريئةٍ إلى أنَّ هذه الهيمنة البرِّيَّة الشاملة قد بدأت من خلال مخطَّطاتٍ وضعها المهندسون والمعماريّون المسؤولون عن تنظيم الأحياء (أنظُر open democracy). ليس في تلك المخطَّطات أيُّ ذرَّةٍ من “تُرابنا”. لقد بدأ العنف قبل وقتٍ طويلٍ من وصول الدبَّابات والعربات المقاتلة. تحدَّث وايزمان عن “السياسات الرأسيَّة”، حيثُ يخضع المهزومين للمراقبة والإذلال حتَّى لو كانوا في “منازلهم”. يؤثِر هذا في الحياة اليوميَّة على نحوٍ لا هوادة فيه. فبمجرَّد أن يقول أحدهم لنفسه في الصباح: “سأخرجُ وأرى…”، سيكون عليه التوقُّف سريعاً والتحقُّق من عدد نقاط التفتيش التي سيتعيَّن عليه عبورها أثناء “خروجه”. وهكذا يُكبَّلُ أبسطُ ما في الحياة اليوميَّة من قرارات على نحوٍ يعوق أيَّ حركة.
يُضاف إلى ما سبق أنَّ الإحساس بالزمن، بسبب الحواجز التي تتغيَّر من يومٍ لآخر بصورةٍ لا يمكن التنبُّؤ بها، قد صار معوَّقاً أيضاً. لا يعلمُ أحدٌ كم من الوقت سيلزمه كي يصل إلى مكان عمله في هذا الصباح، أو يزور والدته، أو يحضر فصلاً دراسيَّاً، أو يستشير طبيباً؛ أو، في حين استطاع فعل هذه الأمور، فإنَّه لا يدري كم يلزمه من الوقت حتَّى يعود إلى منزله. قد تستغرقُ الرحلة، في أيٍّ من الاتّجاهين، ما بين ثلاثين دقيقةً إلى أربع ساعات؛ وهذا في حال لم يقطع الجنودُ الطريقَ تماماً برشَّاشاته الملقَّمة.
تزعم الحكومة الإسرائيليَّة أنَّها إنَّما تلجأ ملزمةً إلى هذه الممارسات بدافع مكافحة الإرهاب. لكن ليست هذه المزاعم سوى خدعة، فالهدف الحقيقيُّ وراء هذه القبضة الخانقة هو تدمير إحساس السكَّان الأصليِّين بالاستمراريَّة، على المستويين الزمانيِّ والمكانيِّ، بغاية دفعهم إلى الرحيل أو تحويلهم إلى عمَّال سخرة. هُنا، يساعد الموتى الأحياءَ على الصمود والمقاومة. هُنا، يتَّخذ الرجال والنساء قرار الاستشهاد. ما تفعله تلك القبضة الخانقة أنَّها تغذِّي الإرهاب الذين تزعم محاربته.
ثمَّ طريقٌ صغيرٌ مرصوفٌ بالحجارة، يمرُّ عبر جلاميد صخريَّة، وينحدر إلى وادٍ جنوبيّ رام الله. في بعض الأحيان، تعصفُ الريح بين بساتين أشجار الزيتون العتيقة، والتي ربَّما يعود تاريخ بعضها إلى زمن الرومان. يعتبرُ هذا المسارُ الصخريُّ (الذي يصعب على أيِّ سيَّارةٍ أن تقطعه) الوسيلة الوحيدة لوصول الفلسطينيِّين إلى قريتهم المجاورة. وأمَّا الطريق الأسفلتيُّ الأصليّ، فهو محظورٌ عليهم، وحكرٌ على الإسرائيليِّين في المستوطنات. أسيرُ بسرعةٍ إذ طالما وجدتُ المشي البطيء أكثر إرهاقاً. ألمحُ زهرةً حمراء بين الشجيرات، فأتوقَّفُ كي أقتطفها. عرفتُ في وقتٍ لاحقٍ أنَّها تُدعى زهرة الأدونيس الصيفيّ. يقول الكتاب إنَّ لها درجة احمرارٍ شديدة الكثافة، ودورةَ حياةٍ قصيرة.
يصيحُ بهاء إليَّ محذِّراً ألَّا أتَّجِه إلى التلِّ المرتفع إلى يساري. يقول لي إنَّه إذا ما تنبَّه أحدهم لاقترابي، فسيطلقُ النار عليّ. أحاول أن أُقدِّر المسافة: أقلّ من كيلومتر واحد. على بعد مئتي مترٍ تقريباً من المسار الذي أوصيت بالابتعاد عنه، ألمحُ بغلاً وحصاناً مُقيَّدين، ممَّا يمنحني الثقة بأنَّني أستطيع السير باتِّجاههما. أصل إلى المكان، فأرى صبيَّين- يبلغان من العمر ثمانية أعوامٍ وأحد عشر عاماً تقريباً- يعملان بمفردهما في الحقل. يملأ أحدهما الماء في صفائح سقيٍ من برميل مدفونٍ في الأرض. يفعل ذلك بعنايةٍ ودقَّة، دون إهدار قطرةَ ماءٍ واحدة، على نحوٍ يُظِهر مدى قيمة الماء بالنسبة إليه. يأخذ الصبيُّ الأكبر سنَّاً الصفائح الممتلئة، ويحملها نزولاً بحذرٍ نحو قطعة أرضٍ محروثة، حيثُ يشرع بسقي النباتات. كلاهما حافي القدمين.
يُلوِّح إليَّ الصبيِّ المسؤول عن مهمَّة السقي كي يريني بفخرٍ صفوفاً من عدَّةٍ مئاتٍ من النباتات المزروعة في قطعة الأرض. أعرفُ بعضاً منها: طماطم، وباذنجان، وخيار. لا بدَّ أنَّهم زرعوها خلال الأسبوع الفائت إذ لا تزال صغيرة الحجم، تنشُد مزيداً من الماء. يتنَّبه الصبيُّ إلى أنَّني لم أستطع معرفة إحدى النباتات، فيقول: “تلك التي تشبهُ مصباحاً كبيراً؟”. “بطِّيخ؟”. “شمَّام”. نضحكُ معاً. نتشاركُ، والربُّ وحده يعلم ما السبب، اللحظة نفسها معاً. يصطحبني إلى مكانٍ عند آخر صفوف النباتات كي يريني كميَّة الماء التي يستخدمها في السقي. بعد لحظات، نتوقَّف ونتلفَّت حولنا، ونلقي نظرةً خاطفةً على المستوطنة ذات الأسوار الدفاعيَّة والأسقف الحمراء. يشيرُ بذقنه صوبها، ثمَّة سخريةٌ في إيماءته؛ سخريةٌ يريدُ مشاركتها معي على غرار اعتزازه بمهمَّة السقي. تفسحُ السخرية مجالاً لابتسامة عرضة- وكأنَّنا اتَّفقنا أن نبول معاً في اللحظة نفسها، على المكان نفسه.
نعودُ في وقتٍ لاحقٍ إلى الطريق الصخريّ. يقطفُ بضعة غصان قصيرة من النعناع ويعطيني مقدار حفنةٍ منها. كانت طازجةً إلى درجة أنَّها بدَت مثل جرعةٍ من ماءٍ بارد، أبرد من الماء في صفيحة السقي. نتابع السير باتِّجاه الحصان والبغل. للحصان غير المسرَّج رسنٌ بزمام، لكن دون لجامٍ أو شكيمة. يرغبُ الصبيُّ أن يُظهر لي أمراً أكثر إثارةً للإعجاب من التبوُّل الخياليّ، فيمتطي الحصان قفزاً بينما يُطمئن شقيقُه البغل، ثمَّ ينطلق من فوره، على صهوة حصانٍ يعدو دون سرج، باتِّجاه نهاية الشارع الذي جئت منه. للحصان ستُّ أرجل؛ أربعٌ منها له، واثنتان لفارسه الذي تتحكَّمُ يداه بها جميعاً. أظهَر الصبيُّ خبرةً مذهلةً في امتطاء الحصان. كانت على وجهه ابتسامةُ عريضة عندما عاد، وللمرَّةِ الأولى، بدت عليه أمارات الخجل.
عدتُ مرَّةً أخرى إلى بهاء والآخرين الذين كانوا على بُعد كيلومترٍ واحد. كانوا يتحدَّثون إلى شخصٍ ما، تبيَّن لي أنَّه عمُّ الصبيَّين، والذي كان على غرارهما يسقي النباتات المزروعة حديثاً. تغربُ الشمس وتتغيَّر الألوان من حولي. أمسى لونُ الأرضِ الأصفر الضاربُ إلى البنِّيّ، والذي كان يبدو أغمق عند الأماكن المرويَّة، اللونَ الرئيسيَّ للمشهَد بأكمله. يستخدمُ العمُّ آخر ما تبقَّى من ماءٍ في قاع البرميل البلاستيكيِّ ذي اللون الأزرق الغامق والذي يتسَّع لخمسمائة لتر من الماء. على سطح البرميلِ، أُلصِقت بعنايةٍ إحدى عشرة رقعةً- على غرار تلك المستخدمة في إصلاح الثقوب، لكن أكبر حجماً. يُوضِّح الرجل أنَّ هذه هي طريقته لإصلاح البرميل بعد أن جاءت عصابةٌ من حلميش، المستوطنة ذات الأسقف الحمراء، ذات ليلةٍ عقب معرفتهم بأنَّ خزَّانات المياه ممتلئةُ بمياه الربيع، فعمدوا إلى ثقبها وتخريبها بسكاكينهم. ثمَّ برميل آخر، مُلقى على المصطبة في الأسفل، بدا أنَّه لا سبيل لإصلاحه. على المصطبة نفسها، على مسافةٍ أبعد، ينتصبُ ما تبقَّى من جذع شجرة زيتونٍ عتيقة، يبدو من حجمه أنّه عمرَه يتجاوز بضع مئاتٍ من السنين، وربَّما ألف سنة. يقول العمُّ إنَّهم جاؤوا قبل بضعِ ليالٍ، وقطعوا الشجرة بمنشار.
أقتبسُ من مريد البرغوثي مرَّةً أخرى: “زيت الزيتون بالنسبة للفلسطينيِّ هو هديَّة المسافر، اطمئنان العروس، مكافأة الخريف، ثروة العائلة عبر القرون، زهو الفلاحات في مساء السنة، وغرور الجرار”.
في وقتٍ لاحق، عثرتُ على قصيدةٍ لزكريَّا محمَّد عنوانها “اللجام”. يتحدَّثُ فيها عن حصانٍ أسود من دون لجامٍ والدمُّ يتقَّطر من شفتيه. في قصيدة زكريَّا هناك صبيٌّ أيضاً، مشدوهٌ من منظر الدم.
“قال الفتى خائفاً:
ما الذي يعلكه الحصان الأسود؟
ما الذي يعلكه الحصان؟
الحصان
كان يعلك لجام الذكرى
لجام الذكرى فولاذ لا يصدأ
يعلك ويعلك حتَّى الموت”.
لو أن الصبيُّ الذي أعطاني أغصان النعناع أكبر سنَّاً بسبع سنوات، لما كان من الصعب العثور على سببٍ قد يدفعه للانضمام إلى حماس والاستعداد للتضحية بحياته.
هناك حمولةٌ رمزيَّةٌ لثقل الألواحِ الخرسانيَّة المدمَّرة والمبنى المتداعي لمجمَّع عرفات المهدَّم في وسط رام الله. لكن ليس بالصورة التي كانت في ذهن القادة الإسرائيليّين؛ إذ كانوا يعتقدون أنَّ تدمير مبنى المقاطعة (مقرُّ الرئاسة الفلسطينيَّة)، في أثناء وجود عرفات ورفاقه في داخله، سيكون بمثابة إذلالٍ علنيٍّ له، مثلما كان اعتقادهم بصدد حملات المداهمة والتفتيش الممنهجة التي نفَّذها الجيش في الشقق الخاصَّة، ورافقها تلطيخ كلٍّ من الملابس والأثاث والجدران بصلصة الطماطم باعتبارها تحذيراً شخصِّياً مفاده أنَّ القادم أسوأ.
ما زال عرفات يُمثِّل الفلسطينيِّين بصورةٍ أكثر أمانةً ربَّما من أيِّ زعيمٍ عالميٍّ آخر يمثِّل شعبه. ولا أقصد هُنا تمثيلاً ديموقراطيَّاً، بل مأساويَّاً. ومن هنا تأتي خطورة الألواح المدمَّرة والمبنى المتداعي. لم تعد لعرفات، نتيجة الأخطاء العديدة التي ارتكبتها منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة في عهده، ومراوغات الدول العربيَّة المجاورة، أيُّ مساحةٍ للمناورة السياسيَّة. لم يعد الرجل زعيماً سياسيَّاً، بيد أنَّه ما زال هُنا بكلِّ تحدّ. لا أحد يؤمنُ به. ومع ذلك، سيُضحِّي الكثيرون بحياتهم من أجله. كيف نفهم هذا؟ لم يعد عرفات سياسيَّاً، بل تحوَّل، مع أنقاض المقاطعة، إلى مَعلم؛ معلمٍ بارزٍ للوطن.
ينزل الضوء من السماء بصورةٍ عاديَّةٍ إلى حدٍّ غريب، دون تمييزٍ ما بين بعيدٍ أو قريب؛ وحده الحجم ما يُبيِّن الاختلاف ما بينهما، وليس اللون أو القوام أو الدقَّة. يؤثِّر هذا على صورة المرء إزاء نفسه؛ يؤثِّر على طبيعة إحساسك إزاء وجودك في المكان. تُنظِّم الأرض نفسها برتابةٍ حولَك، بدلاً من أن تواجهك. وعلى عكس ولاية أريزونا، فإنَّها لا تغويك، بل توصيك بعدم الرحيل عنها أبداً.
وها أنا ذا، عن غير قصد، أحقِّق أحلام بعضٍ من أسلافي من بولندا وغاليسيا والإمبراطوريَّة النمساويَّة المجريَّة، والتي تعهَّدوها وتحدَّثوا عنها على امتداد قرنين من الزمن على الأقلّ. هُنا أجدُ نفسي مدافعاً عن عدالة القضيَّة الفلسطينيَّة ضدَّ أناسٍ ربَّما كانوا أبناء عمومتي، وبكلِّ الأحوال، ضدَّ دولة إسرائيل. لا ينفصم أولئك الذين طرِدوا، وأولئك الذين هناك مخطَّطاتٌ لطردهم، عن نبض الحياة على هذه الأرض. فمن دونهم، سيمسي هذا التراب بلا روح. وليس هذا تعبيراً مجازيَّاً، بل تحذيرٌ بخطرٍ فظيع.
ذهب رياض، الذي يعملُ مدرِّساً لحرفة النجارة، لإحضار رسوماته. كنَّا جالسين على الأرض في حديقة منزل والده. يحرثُ الأب بحصانه الأبيض الحقل على الجانب المقابل. يعود رياض، حاملاً الرسومات مثل ملفٍ أخرِج من خزانة ملفَّاتٍ معدنيَّةٍ قديمة الطراز. يسيرُ ببطءٍ ويبتعد الدجاج عن طريقه ببطءٍ أكبر. يجلس أمامي ويعطيني اللوحات واحدةً تلو أخرى. رسمها جميعاً بقلم رصاص، معتمداً على الذاكرة والكثير من الصبر. ضربةً فوق ضربة، في المساءات بعد العمل، إلى أن يبلغ اللونُ الأسود الدرجة التي يريدها، ويمسي الرماديُّ ضارباً إلى الفضِّيّ. كان يستخدمُ أوراقاً كبيرة جدَّاً. هناك رسمٌ لإبريق ماء. هناك رسمٌ لوالدته. هناك رسمٌ لمنزلٍ مدمَّر، للنوافذ التي تكشفُ عن غرفٍ لم يَعد لها وجود.
أفرغ من مشاهدة الرسومات. قبالتي يجلس رجلٌ مسنٌّ له ملامح فلَّاح. يقول لي: “يبدو لي أنَّك على درايةٍ بشؤون الدجاج. عندما تمرض دجاجة، فإنَّها تمتنع عن وضع البيض. ليس بمقدورنا فعل الكثير حينذاك. ثمَّ، في يومٍ من الأيَّام، تنهضُ الدجاجة وكأنَّها تشعر بدنوِّ أجلها. ماذا يحدثُ حينما تدركُ أنَّها ستموت عمَّا قريب؟ تعود إلى وضع البيض مرَّةً أخرى، ولا شيء يحول بينها وبين ذلك إلَّا الموت. ونحنُ، أيضاً، مثل تلك الدجاجة”.
تعملُ نقاط التفتيشِ بمثابة حدودٍ داخليَّةٍ مفروضةٍ على الأراضي المحتلَّة، بيد أنَّها لا تشبه أيَّ نقطةٍ حدوديَّةٍ عاديَّة، فآلياتُ بنائها وإدارتها مصمَّمةٌ ليشعر كلُّ من يمرُّ عبرها بأنَّه لاجئٍ غير مرحَّبٍ به. من المستحيل المبالغة في تقدير الدور البارز التي تمارسه القبضة الخانقة من خلال هذا التمظهر الذي يجري توظيفه كتذكيرٍ دائمٍ بهويَّة المنتصرين، ولأولئك الذين يجب أن يعترفوا بأنَّهم تحت الاحتلال. يتعيَّنُ على الفلسطينيِّين أن يتعرَّضوا، لمرَّاتٍ عديدةٍ في اليوم الواحد، إلى الإذلال الناجم عن معاملتهم كلاجئين في بلادهم. يتوجَّب على كلِّ من يريد عبور الحاجز أن يفعل ذلك سيراً على الأقدام، حيثُ ينتقي الجنود ذوو الأسلحة الملقَّمة من يريدون “تفتيشه” بصورةٍ عشوائيَّة. مرور المركبات ممنوع، والطريق التقليديَّة مدمَّرة. على “المسار” الإلزاميِّ الجديد، تتناثر عوائق من جلاميد وحجارة وغيرها. وبالتالي يتعيَّن على الجميع، حتَّى لو كانوا رشقاء القامة، أن يعرجوا طوال الطريق. يَحمل العجائزَ والمرضى شبَّانٌ يافعون في صناديق خشبيَّةٍ على أربع عجلات (صناديق مخصَّصة في الأصل لنقل الخضراوات إلى الأسواق)، تشكِّل هذه الممارسة مصدر رزقٍ شحيحٍ لهم. يُعطي الشبَّان كلَّ راكبٍ وسادةً لتخفيف المطبَّات. يصغون إلى حكاياتهم. يعرفون أحدث الأخبار على الدوام (تتغيَّر الحواجز بصورةٍ يوميَّة). يُقدِّمون النصيحة، ويندبون حظَّهم البائس، ويفخرون بالمساعدة القليلة التي يُوفِّرونها. لعلَّهم أقرب ما يكون إلى الجوقة التي ترافق المأساة. يستعين بعض “المسافرين” بعصا تساعدهم على المشي، وآخرون يستخدمون العكاكيز. كلُّ الأغراض التي من شأنها أن تكون عادةً داخل صندوق السيَّارة يجب أن تُحمَل كيفما اتَّفق على هيئة رُزم أثناء العبور، سواءٌ باليد أو على الظهر. وأمَّا بالنسبة إلى المسافة التي ينبغي قطعُها، فمن الممكن أن تتغيَّر بين عشيَّةٍ وضحاها ضمن نطاقٍ يتراوح ما بين ثلاثمائة مترٍ إلى ألفٍ وخمسمائة متر.
يحافظُ الأزواج الفلسطينيُّون في الأماكن العامَّة على لياقتهم الاجتماعيَّة التي تتضمَّن البقاء على بُعد مسافةٍ معيَّنة، وربَّما يستثنى من ذلك بعض الأزواج الأصغر سنَّاً. لكن، عند نقاط التفتيش، ترى الأزواج، على اختلاف أعمارهم، ممسكين بأيدي بعضهم بعضاً أثناء العبور، باحثين مع كلِّ خطوةٍ عن موطئ القدم التالي، ويترافق ذلك مع تقديرٍ دقيقٍ للسرعة الأنسب للمرور بجوار فوهات البنادق المصوَّبة باتِجاههم، فلا هم يسيرون بسرعةٍ كبيرة إذ من شأن التسرُّع أن يثير الريبة، ولا ببطءٍ شديدٍ لئلَّا يفضي التردُّد إلى انخراطهم في “لعبةٍ” يمارسها الحرَّاس للتخفيف من مللهم المزمن.
ليس للنزعة الانتقاميَّة لدى بعض الجنود الإسرائيليِّين علاقةٌ تُذكَر بصدد الوحشيَّة التي تحدَّث عنها يوربيديس وأبدى أسفه إزاءها؛ فالمواجهة القائمة هُنا ليست بين أنداد، وإنَّما بين أقوياء من جهةٍ، وأولئك الذين يبدو أنَّه لا حول لهم ولا قوَّة من جهةٍ أخرى. بيد أنَّ هناك إحباطاً عظيماً يُرافق قوَّةَ أولئك الأقوياء؛ هو إحباطٌ ناجمٌ عن معرفتهم أنَّ قوَّتهم، على الرغم من كلِّ ما يمتلكونه من أسلحة، محدودةٌ على نحوٍ يتعذَّرُ تفسيره.
أبحثُ عن صرَّافٍ لتحويل بعض اليوروهات إلى شواكل- إذ ليس للفلسطينيِّين عملةٌ خاصَّةٌ بهم. أسيرُ في الشارع الرئيسيِّ مروراً بالعديد من المحال الصغيرة، وألمحُ من حينٍ لآخر رجلاً يجلس على كرسيٍّ في مكانٍ كان ذات يومٍ رصيفاً قبل غزو الدبَّابات. أرى رجالاً يحملون في أيديهم لفائف من الأوراق النقديَّة. أقتربُ من شابٍّ وأخبره بأنَّني أريدُ تصريف مئة يورو. (يستطيع المرء مقابل مبلغٍ كهذا أن يشتري سواراً صغيراً لطفلةٍ من أحد متاجر الذهب). يُجري الشابُّ حساباته مستعيناً بآلةٍ حاسبةٍ صغيرة، ثمَّ يناولني بضع مئاتٍ من الشواكل.
أتابعُ السير. يمدُّ صبيٌّ يده إليَّ ببعض العلكة كي أشتريها. أعتقدُ أنَّه كان، من ناحية العمر، شقيقَ الطفلة ذات السوار الذهبيِّ المتخيَّل. كان الصبيُّ من سكَّان أحد مخيَّمَي اللاجئين في رام الله. أشتري منه. ألاحظُ أيضاً أنَّه يبيعُ الأغلفة البلاستيكيَّة لبطاقات الهويَّة الممغنطة. يوحي لي عبوسُه بأنَّه يريد مني أن أشتري كلَّ ما لديه من علكة. أحقِّقُ له ما يريد.
أقضي نصف ساعةٍ في سوق الخضار. ثَمَّ رجلٌ يبيع ثوماً بحجم مصابيح كهربائيَّة. هناك العديد من الأشخاص القريبين من بعضهم البعض. يُربِّت شخصٌ ما على كتفي. ألتفتُ فأجد الصرَّاف خلفي. “أعطيتُك مبلغاً أقلّ من اللازم بخمسين شيكل. ها هي نقودك”، يقول. يناولني خمس أوراق نقديَّة من فئة عشرة شيكل. “لم يكن من الصعب العثور عليك”، يضيف. أشكرُه. يُذكِّرني التعبير في عينيه وهو ينظرُ إليَّ بامرأةٍ عجوز كنت قد التقيتُ بها في اليوم السابق؛ تعبيرٌ ينمُّ عن اهتمامٍ عظيمٍ باللحظة الراهنة؛ هادئٌ وعميق، كما لو أنَّها قد تكون اللحظة الأخيرة. يستدير الصرّاف بعد ذلك، ويشرع بمسيرته الطويلة عائداً إلى كرسيه.
التقيتُ بالسيِّدة العجوز في قرية كوبر، في منزلٍ إسمنتيٍّ صغيرٍ غير مكتملِ البناء. عُلِّقت على جدران غرفة الضيوف الجرداء صورٌ مؤطَّرةٌ لابن شقيقها؛ مروان البرغوثي. ثمَّة صورٌ لمروان صبيَّاً، ومراهقاً، ورجلاً في الأربعين من عمره. هو الآن أسيرٌ في سجنٍ إسرائيليّ. إذا قُدِّرت له النجاة، فسيكون واحداً من الزعماء السياسيِّين القلائل في فتح الذين لا بدَّ من التشاور معهم بصدد أيِّ اتِّفاق سلامٍ متين.
نشرب عصير الليمون في حين تصنع العمَّة بعض القهوة. يخرجُ أحفادُها إلى الحديقة: صبيَّان؛ أحدهما في السابعة والثاني في التاسعة من عمره. يحملُ أصغرهما اسم “وطن”، وأكبرهما اسم “كفاح”. يركضُ الولدان في كلِّ الاتِّجاهات قبل أن يتوقَّفا فجأة. ينظُران إلى بعضهما بتركيزٍ بالغ، كما لو كانا مختبئَين وراء ساترٍ ما ويحاولُ كلٌّ منهما أن يستطلع ما إذا كان الآخر قد رصد وجوه أم ليس بعد. ينتقلُ الولدان بعد ذلك إلى مخبئٍ غير مرئيٍّ آخر. يبدو أنَّها لعبةٌ قد ابتكراها ولعباها معاً لمرَّاتٍ عديدة.
كان الطفل الثالث في الرابعة من عمره. وجهُه ملطَّخٌ ببقعٍ حمراء وبيضاء كما لو كان مهرِّجاً. ظلَّ واقفاً بعد مسافةٍ من الجميع، مثل مهرِّجٍ حزين، مضحك، غير واثقٍ متى سينتهي العرض. كان مصاباً بجدريّ الماء، ومدرِكاً أنَّه يجب ألَّا يقترب من الزوَّار.
حينما أزف الوداع، أمسكَت العمَّة بيدي. في عينيها التعبيرُ المميَّز نفسه الذي ينمُّ عن اهتمامٍ بالغٍ باللحظة الراهنة. أفكِّر أنَّه إذا ما مدَّ شخصان مفرشاً على طاولة، فسينظران إلى بعضهما كي يتأكَّدا من فعل ذلك على نحوٍ صحيح. والآن، تخيَّل أنَّ تلك الطاولة هي العالم، في حين يُجسِّدُ المفرشُ حياةَ أولئك الذين يتعيَّن علينا إنقاذهم. كذلك كان التعبيرُ الذي ارتسم على مُحيَّاها.