مدخل
في النظرية الاجتماعية الغربية الحديثة يمكننا أن نرى سطوة المعالجات النقدية للجغرافيا، وخاصة في ما يتعلق بالدراسات المكانية، من حيث فرادة تلك المعالجات ومخرجاتها وحداثتها ونقديتها؛ فمع انحسار المنهجيات الوضعية، وبزوغ المَيل الراديكالي والإنسانوي في سبعينيات القرن الماضي، من حيث مفهوم الدراسات الاجتماعية وبنيتها، اكتسبت الدراسات المكانية والجغرافية زخمًا مختلفًا وتحوّلًا نحو ما بعد الحداثة، وذلك بالتركيز المتزايد على الأطراف والهوامش والآخر، كذلك طرائق رؤية مغايرة، فأنتجت منظّرين جغرافيين وحضريين، يصاحبهم النقاد الأدبيون والمنظرون الثقافيون، منطلقين من مقاربات العلوم الإنسانية والاجتماعية في فهم العلوم والفنون، ومنها الجغرافيا والتاريخ.
دفع هذا التحوّل باتجاه النظر إلى المكان والمجتمع باعتبارهما ظاهرتين لا يمكن الفصل بينهما، إذ ما عاد يُنظر إلى المكان باعتباره عرضيًا أو سياقيًا فحسب، بل باعتباره الإطار الذي تتشابك فيه تلك الظواهر وتتعاضد، على تنوّعها واختلافها، وفي أساسها الظواهر الاجتماعية والمجتمعية، فتشكله وتتشكل به. هنا بدأت حساسيتنا الجغرافية في التحوّل؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الجغرافيا تتعلق بالمكان والفضاء باعتبارهما يتبعان الظواهر، أصبحا ظاهرتين في حدّ ذاتهما، بل أبعد منذ ذلك في بعض الأحيان، إذ أمسيا منهجية بحثية. هنا يمكننا أن نقترح أن التفكير في المكان و/أو الفضاء، وبتأثر من مساهمات نقدية لجغرافيين ودارسي المكان والفضاء، ومنهم إدوارد سوجا -أو سويا- (1989) ونيل سميث (1990) وديريك غريغوري (1994)، وهنري لوفيفر (1994)، وغيرهم، إنما مرّ من خلال مسارين أساسيين:
الأول من خلال تجديد المفاهيم القديمة والتقليدية للفضاء والجغرافيا بما هي تكوينات أو شبكات أو أطر خاملة/ساكنة، تحتوي العلاقات الاجتماعية وشبكاتها، والنظر إليها باعتبارها كيانات فاعلة وديناميكية، متحركة ومتغيرة، تؤثر في العلاقات الاجتماعية وتتأثر بها. ونتيجة للمسار الأول، يأتي الثاني الذي أدى إلى توسّع مجال الدراسات الجغرافية لتشمل ليس الأمكنة المرتبطة بالأنماط والعمليات المادية، باعتبارها بذلك تصبح موضوعية، فحسب، وإنما أُعطيت الأمكنة قدراتها المجازية والفكرية والأدائية.
تأتي مساهمات إدوارد سعيد وتنظيراته في طليعة الوعي النقدي بالأمكنة والجغرافيا في العلاقة بالفكر والنقد الأدبي، وحتى التنظير السياسي المعتمد بالأساس على مقاربات ما سيعُرف لاحقًا بالجغرافيا النقدية؛ إذ حمل مشروعه النقدي طويل الأمد معوّلات على إعادة تشكيل حساسياتنا المكانية، ليس من الناحية الجغرافية النقدية التقليدية فحسب، وإنما في مستوى فتْح إمكانيات تلك الممارسات على ممكناتها العابرة والمتداخلة الحقول والتخصصات، بما يدفع الجغرافيا التقليدية في هذا الموقع من العالم، وفي السياق الاستعماري الكولونيالي، إلى إمكانات مغايرة، والأهم كونها عابرة للحدود.
بدأ الأمر مع كتابه الرائد “الاستشراق”، وصولًا إلى كتابه “الثقافة والإمبريالية”، حين حاول سعيد تحقيق هدفين متعاضدين: الأول محاولته الربط بين الأشياء والأشخاص والظواهر، ووضعها جنبًا إلى جنب ضمن علاقات نقدية قابلة للمقارنة والتفكيك، وبالتالي بناء شبكات مغايرة من العلاقات والقوى، ما يمكّننا أن نعزو إلى مساهمات سعيد أنها أدخلت مقولات نقدية، على شاكلة المركز والأطراف، في مجال النقد الفكري والاجتماعي الفلسطيني، من أجل فهم البنية الكولونيالية والإمبريالية وسياقهما. أما الهدف الثاني، فهو تأسيسه للمارسات المنفكّة عن الكولونيالية Decolonial والمضادة للكولونيالية Anti-Colonial على صعيد المعارف (Epistemology) والفاعلية (Agency) وموقعية استقبال المعارف، أو حساسية المعرفة (Sensibility)، وبالتالي تفكيك البنية الهيراركية التي فصلت الحالة الكولونيالية عن الممارسات المعرفية المختلفة، واختزالها في الاقتصاد، لتبدأ أدبيات أخرى، مثل الاقتصاد الاجتماعي والسياسي والثقافي والفكري.
“الجغرافيا المتخيلة”
شجّع منعطف ما بعد الحداثة The Post Modern Turn وما صاحبه من إعادة تصوّر للفضاء في النظرية الاجتماعية العديد من الباحثين، وعلى وجه الخصوص المنظرون الثقافيون، على الحفر في مفهوم المكان والفضاء وتداعياتهما المجازية والاستعارية والرمزية. وقد كان للـ “تخيلات الجغرافية” دور أساسي ومركزي في تأسيس العلاقة التبادلية والتأثيرية بين الفضاء والمجتمع، وإدوارد سعيد كان أحد المساهمين المركزيين في هذا التوجّه – تنبّه إليه فوكو في آخر أيامه – الذي يهدف إلى إعادة تشكيل الحساسيات والخبرات المكانية، ليس من الناحية “الجغرافية” التقليدية فحسب، ولكن أيضًا بالمعنى المعرفي الأوسع والأكثر تشابكًا بين الحقول والتخصصات. يدعونا سعيد، الملتزم بتجاوز الحدود الثنائية القائمة للحداثة، إلى تخيّل طوبوغرافيات وإيكولوجيات جديدة، تصبح فيها الوحدات التي تعتبر حتى الآن منفصلة – الثقافات والمهن والتجارب والخبرات -، هجينةً ومتداخلةً بشكل لا مفر منه، والأهم أنها قادرة على توليد توليفات مختلفة ومركبة للأماكن والجغرافيات، أو ما أسماه سعيد عنوانًا للفصل الأول من كتابه “الثقافة والإمبريالية”: “تواريخ متشابكة وأحياز متداخلة”.
تجدر الإشارة إلى أن التاريخ بالنسبة إلى سعيد ليس “محتومًا”، كما تفترض الأرشيفات وحمّى الأرشفة الحالية، إذ إنه متأثرٌ بالأفكار، وليس بالاقتصاد السياسي وحده، كما يؤكد الماركسيون (هنري لوفيفر نموذجًا). وهو يعتقد أن جميع الأحداث والأفكار تاريخية وموضوعة في سياقها في الزمان والمكان، والأفكار العالمية هي جزء من الاستبعاد المهيمن الذي كانت فيه الجغرافيا الخيالية عاملًا رئيسًا. وهذا ما يفسر اعتباره لحيوية اللغة بناءً اجتماعيًا دراميًا نشطًا، يؤدي دورًا ماديًا في خلق التاريخ الاجتماعي للعالم. في هذا الصدد ، تُعتبر الثقافة والإمبريالية مهمة لنطاقها العالمي ومراجعها العلمية التي تمنح القارئ تاريخًا مدروسًا جيدًا، معاد إنشاؤه بشكل خيالي للقرنين الأخيرين من الإمبريالية الأوروبية، يمتد من الرومانسية إلى سيناريو ما بعد الاستعمار / ما بعد الحداثة المعاصر، مع الفترة الفاصلة للنضالات القومية للحداثة.
يطرح إدوارد سعيد مفهوم “الجغرافيا المتخيلة”، في كتابه الرائد “الاستشراق”، ومن ثم يعيد التأسيس للمفهوم في كتابه “الثقافة والإمبريالية”. وما تحاول هذه المداخلة طرحه هو الربط بين أطروحات سعيد والمقاربات الجغرافية النقدية في الدراسات المكانية. ففي كتابه “الثقافة والإمبريالية”، يشير سعيد إلى أنه ما من أحد منّا تُكتب له النجاة من الصراع على الجغرافيا والأرض والفضاء والمكان، حيث عمل سعيد على ربط المتخيّل بالسياسي والسردي، لفهم إمكانية التأسيس لمخيال خاص عن الأمكنة والخوض فيه. بالنظر إلى الخرائط الاستعمارية والإمبريالية وأدوارها الكولونيالية، في ما يتعلق بإنتاج المكان والجسد والحيّز، يمكننا فهم كيفية تداخل تخيّل الأمكنة مع ماديتها وحيّزيّتها؛ إذ عمِل الخطاب الاستشراقي والاستعماري على تقديم هذه الخريطة مؤسسيًا، وجعلها تمرَّر بفعل ديناميات الحداثة، لإتمام عملية غرسها وقوننتها وتحويلها إلى مدرك مادي ورمزي معًا.
“لقد كان الشعور بالوجود بين الثقافات قويًا للغاية بالنسبة إلي. أود أن أقول إنه كان أقوى خيط ناظم يمر عبر حياتي: حقيقة أنني على الدوام داخل وخارج الأشياء في الوقت نفسه، ولست أبدًا منفصلًا عن الأشياء طيلة الوقت”1. يحتفي مفهوم سعيد للجغرافيا المتخيلة بمقبولية ما بعد الحداثة، بمعنى أنه يرفض فكرة وجود مساحة مغلقة، موضوعية ومفهومة ضمنًا. يقول سعيد: “لقد وضعت في اعتباري فكرة أن الأرض هي في الواقع عالمنا الذي لا توجد فيه مساحات فارغة وغير مأهولة تقريبًا. لا أحد منا خارج الجغرافيا أو متجاوز لها، لا أحد منا حر بشكل كامل من الصراع على الجغرافيا. هذا الصراع معقد ومحفز للانتباه لأنه لا يتعلق بالجنود والمدافع فحسب، ولكن أيضًا بالأفكار والأشكال والصور والتخيلات”2.
ومع وجود إمكانيات لا حصر لها للمعنى المقصود هنا، يكاد يكون من المؤكد أن الواقع يبدأ في الانهيار، بمنطقه الحداثي المعلقن والمادي المقاس. ومع ذلك، فإن القول بأن وجهات نظر ما بعد الحداثة للتاريخ عدمية، هو تفويت للحجة الرئيسة: لم ينكر أحد أبدًا أن التاريخ يمكن كتابته. لا تتجاهل ما بعد الحداثة الحجج المنطقية والتحقق والبحث الأرشيفي، ولكنها كذلك لا تؤكد أن جميع التفسيرات صحيحة؛ إذ لا يوجد أبدًا معنى واحد فحسب. يشكك أنصار ما بعد الحداثة في فعالية الحقيقة، لأنهم يعتقدون أن الواقع ليس إلا تلفيقًا تاريخيًا وثقافيًا، لكنهم لا يرون أن التاريخ هو مجرد خيال إبداعي، كما يفترض عادة، أو أن كل منظور للماضي صحيح مثل الآخر، وهذا “نوع من البحث والاستقصاء الجغرافي في التجربة التاريخية”3.
إن “الحقيقة” و “التمثيل” هما شاغلا ما بعد الحداثة الأساسيان اللذان ظهرا في أعمال سعيد النقدية والنظرية، فيظهر باستمرار تنصله من التمثيل الاستشراقي (الخاطئ) والمفهوم (الخاطئ) للشعوب والمناطق والثقافات الأخرى. وعليه، فقد خُلق تمييز مكاني وثقافي متخيّل من خلال خطاب استشراقي اختزل الجغرافيا البشرية في مساحة من عدم المساواة والاختلاف، بدلًا من مساحة من التهجين والشراكة المتشابكة والمتقاطعة. يقول سعيد في الاستشراق في هذا الصدد:
“هذه الممارسة العالمية المتمثلة في تعيين مساحة مألوفة في ذهن المرء “لنا”، ومساحة غير مألوفة تتجاوز “لنا” هي تلك التي “ملكهم”، هي طريقة للتمييز الجغرافي الذي يمكن أن يكون تعسفيًا تمامًا. أستخدم كلمة “تعسفي” هنا لأن الجغرافيا المتخيلة لتنوع وغنى ثنائية “أرضنا – الأرض البربرية”، لا تتطلب أن يعترف البرابرة بالتمييز. يكفي أن نضع “نحن” هذه الحدود في أذهاننا. “هم” يصبحون “هم” وفقًا لذلك، ويُصنّف كل من أرضهم وعقليتهم على أنها مختلفة عن “منطقتنا”. ترافق الحدود الجغرافية الحدود الاجتماعية والعرقية والثقافية بطرق متوقعة. ومع ذلك، غالبًا ما يعتمد الشعور الذي يشعر به شخص ما بأنه ليس أجنبيًا على فكرة غير محددة بشكل محسوم ومعرّف عما هو “موجود” خارج أراضي المرء. يبدو أن جميع أنواع الافتراضات والروايات تزاحم المساحة غير المألوفة خارج مساحة المرء”4.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة نظرية (ما) للعلاقة بين الذاتية القومية والمناطق الجغرافية المتخيلة بطريقة تجعل من الجغرافيا أدوات ومناهج تفكير، تنتج المساحات القومية بما هي نصوص جغرافية، في سياقات قومية متباينة. في الواقع، اجتذب مفهوم سعيد عددًا من منظري ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة، ممن يدرسون العلاقة بين السلطة والفضاء والمكان والجغرافيا، في خلق الهوية القومية أو عبر القومية، من خلال التركيز بشكل خاص على البعد (عبر الوطني Transnational) للجغرافيا المتخيلة، وجعله أشبه ما يكون ببؤرة متغيرة في إنتاج المعاني. يصبح هذا أكثر وضوحًا عندما نتفكر في التالي: أولًا فكرة سعيد عن إنتاج المسافة من خلال مناطق جغرافية متخيلة، ولننظر حتى لإدراكنا المتباين لفلسطين المتخيلة في جغرافيا متعددة ومتراكبة في مصطلح “البلاد”، أو بين منطقتين سلطويتين: غزة والضفة الغربية. كيف تدخل المسافة والاختلاف والتماثل في إنتاج المكان، أو كيف يصبح فضاء معيّن مرتبطًا بمفاهيم الانتماء أو عدمه. وعلى مستوى ثانٍ، يمكن النظر إليها من خلال العلاقة بين أفكار الفضاء وإنتاج الهويات، وثالثٍ بتتبع ذلك من خلال موضعة فكرة رؤية/ التحديق الجغرافي باعتباره أداءً (Performance) تبادليًا، بمنزلة شيء “يفعله” الأشخاص في الحياة اليومية. وعلينا هنا أن نفهم ونستوعب كيف أن الفضاء والذاتية يشكّلان بعضهما البعض.
الممارسة النقدية بما هي وعي جغرافي ومكاني وحيّزي
في مقالته “النظريات المسافرة”، حيث يطرح إدوارد سعيد نقده الدقيق للنظرية الأدبية، يشير بإصبع التوجس والقلق إلى أن النظرية يمكن أن تأخذ دورًا دينيًا إلى حد ما، لتصبح “فخًا أيديولوجيًا”، “يعلق به كل من مستخدميها والغاية من استخدام النظرية”، ما يعني أن “النقد لن يكون ممكنًا بعد الآن”5. يجادل سعيد بأنه بدلًا من النظرية، يجب أن نسعى جاهدين لما يسميه “الوعي النقدي” الذي يفهمه بطريقة مكانية محددة ومعرّفة. يقول سعيد:
“لا توجد قراءة محايدة أو بريئة على الإطلاق، وعلى المنوال نفسه، فإن كل نص، وكل قارئ، هو إلى حد ما نتاج وجهة نظر نظرية (ما)، مهما كانت وجهة النظر هذه ضمنية أو غير واعية. ومع ذلك، فأنا أجادل بأننا نميّز النظرية عن الوعي النقدي بالقول إن الأخير هو نوع من الحس، الإدراك المكاني، وهو نوع من القدرة على قياس موقع النظرية ووضعها، وهذا يعني أنه يجب فهم النظرية في المكان والزمان الذي تظهر فيه بما هي جزء من زمانها، العمل فيه، ومن أجله ، والاستجابة له؛ ثم، نتيجة لذلك، يمكن قياس هذا المركز الأول لبزوغ النظرية مقابل الأماكن اللاحقة التي ترتحل إليها النظرية، حيث تظهر النظرية للاستخدام. الوعي النقدي هو الوعي بالاختلافات بين المواقف والأماكن، وهو أيضًا الوعي بحقيقة أنه لا يوجد نظام أو نظرية تستنفد الموقف والمكان الذي ينطلق منه أو ينتقل إليه. وقبل كل شيء، الوعي النقدي هو الوعي بمقاومات النظرية، وردات الفعل تجاهها، التي تثيرها تلك التجارب أو التفسيرات الملموسة المتعارضة معها”6.
في التمييز بين الوعي النقدي والنظرية، يجادل سعيد بنهج يعتمد توجهًا مكانيًا بشكلٍ أكبر، نهج يولي اهتمامًا خاصًا للوضع أو موقع أو مواقع الصراع، وبالتالي للعلاقات المكانية بين المواقف والأماكن والظروف المختلفة. وعليه، فإن نقد سعيد لنظرية نقدية محددة الهوية، ينطوي على منعطف مكاني (Spatial Turn).
أصبحت مفاهيم الفضاء والمكان ورسم الخرائط والممارسات المتعلقة بها عناصر أساسية للدراسات الأدبية والثقافية على مدى العقود القليلة الماضية. ما يسمى بالمنعطف المكاني في النظرية النقدية الحديثة، سلّط الضوء على أهمية المكانية في الأدب المقارن والعالمي، من بين مجالات أخرى، فخضعت العلاقات بين المعرفة الجغرافية والإنتاج الثقافي لمزيد من التدقيق من الباحثين في مختلف المجالات التخصصية. أدخلت مقاربات النقد الجغرافي والجغرافيا النقدية والتصوير الأدبي، والعلوم الإنسانية المكانية بشكل عام، مناهج وتفسيرات جديدة للأدب، مع الاستفادة من التدخلات الموجهة مكانيًا للباحثين الذين لا يرتبطون بالضرورة بهذه الخطابات الناشئة.
سعيد هو قوة كبيرة في تطوير نوع من الدراسات الثقافية أو الأدبية المكانية. على سبيل المثال، كان قادرًا على ربط التمثيل السردي في رواية القرن التاسع عشر بالألغاز الأكثر تعقيدًا في السياسة المعاصرة، وتوسيع مشروع مثل مشروع الناقد الإنجليزي رايموند ويليامز “الريف والمدينة” (The Country and the City) إلى نهج متعدد الثيمات للأدب. في أعمال مثل “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”، يُجري سعيد ما يشير إليه على أنه “تحقيق جغرافي في التجربة التاريخية”.7.
ولكن حتى نصوصه الجغرافية أو السياسية الأقل صراحة، مثل كتابه الفذ والأهم “البدايات”، كذلك “عن الأسلوب المتأخر”، تثير أسئلة قيّمة تتعلق بالعلاقة بين الفضاء والجغرافيا والثقافة. في مثل هذه الكتابات، يوضّح سعيد باستمرار الحاجة البشرية (أو كما يضيف نيتشه: “البشرية للغاية”) إلى نوع من رسم الخرائط التصورية، ولا سيما في شكل إنتاج جمالي، للمساحات الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي نعيش فيها ونكافح من أجلها. من كتاباته الأولى عن جوزيف كونراد والنظرية الأدبية، إلى دراساته الضخمة للاستشراق والنقد ما بعد الاستعماري، اهتم سعيد دائمًا بالسجلات المكانية والجغرافية للفن الأدبي والتاريخ والتمثيل.
ولعل هذا ما نفتقده في ممارساتنا اليومية الفكرية، والأهم مساحات النضال والإنتاج المعرفي الحالية.
الإحالات:
1. مقابلة إدوارد سعيد مع إمير سالوزنسكي في العام 1987.