قبل بضع أعوام٬ اعتدت الذهاب إلى مقهى صغير بجانب بيتي٬ يقع على الشارع الرئيسي في باقة الغربية٬ “نابولي كافيه” الاسم الرسمي٬ ولكننا نسميه “عند أسعد”٬ أي أسعد دقة وهو صاحبها (وأخ الأسير الشهيد وليد دقة) نعتبر المقهى مضافة يفتحها لنا٬ كأننا نذهب للجلوس عنده٬ إذ أن ثقافتنا الشعبية ما زالت متمسكة في طابع المضافات والاستقبال. فور دخولك للمقهى٬ ستعلم أنك في مساحة مغايرة فيها شعارات وطنية٬ كتب عن فلسطين وتاريخها٬ مذكرات وأدب وشعر. أمامك طاولة “البار” من خشبٍ سميك مع كرسي طويل ومصنوع من الخشب ذاته٬ وكنت أجلس هناك٬ نتداول بعض الأحاديث مع صديق واعدته أو آخر تعرفت عليه “بالتساهيل”٬ وأحيانا يتواجد أسعد٬ كنت أنظر عن يميني دائمًا إلى اللوحة المعلقة٬ وقرأت كلمات أدهشتني٬ صراحةً لم أدرك من كتبها ولماذا؟ هي لوحة صغيرة فيها “أنا لا أعرف عمر أمي الحقيقيّ… لأمي عُمران. عمرها الزمانيّ الذي شاخ وعمرها الاعتقاليّ… أو قل عمر أمي في الزمن الموازي عشرين عاما”٬ قوة هذه الكلمات حملتني على التعرف عليهِ٬ البحث عنه٬ مسترسلًا “نحن لمن لا يعرف في الزمن الموازي! قابعون به قبل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي ومعسكره الاشتراكي نحن قبل انهيار سور برلين وحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة قبل مدريد وأوسلو وقبل اندلاع الانتفاضة الأولى والثانية” (من رسالة “الزمن الموازي”) تدور الأسئلة في رأسي لماذا لم أعرفه قبل اليوم٬ إذ أنني في تلك الأيام كنت في بدايات الاحتكاك السياسي والتعرف على الحركة الوطنية عمومًا٬ ولكنه ابن بلدي لماذا لم نعرفه من قبل٬ لماذا لا يوجد ندوات٬ صور٬ ملصقات٬ قصص.
بالتأكيد أصبحت هذه كلماته تلك٬ هي هاجس السلطات الإسرائيلية٬ كلما كتب وليد ازدادت الملاحقة والهواجس والخوف من حبرهِ وأفكارهِ؛ أينما حلت وتجسدت وظهرت سواء في مسرحية٬ محاضرة٬ أو في ندوة أدبية. مرة لاحقت وزارة الثقافة أو بالأحرى “وزارة الإرهاب الثقافي” ندوة في المركز الجماهيري داخل باقة تناقش حكاية الفتيان التي صدرت عام 2018 وأصرت على منعها٬ في بلدته نجد ذاكرة متقطعة لوليد٬ وليست مكتملة فلا يسعنا نضاله كله٬ بل فقط نحتمل القليل٬ مثلا سِرنا مرات إلى بيت أهله في مناسبات عدة٬ منها ليس إبان النضال الشعبي لإطلاق سراحهِ بسبب مرضه وإنهاء محكوميّته الفعلية٬ نتذكر أحداث اعتقاله في جلساتنا٬ أو ربما نناقش بعضا من أفكاره٬ وهذا هو حال المناضلين جميعا في باقة وغيرها من قرى وبلدات الداخل الـ٬48 قصص المناضلين والشهداء في الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 هل نعلم أسماءهم؟ من هم؟ أتذكر بيتًا من شعر درويش “أشلاؤنا أسماؤنا… أسماؤنا أشلاؤنا” في هذا البيت يوحي بأن الاسم أيضا هو أشلاء الفدائي٬ كيف يتذكر الواحد منا أشلاؤه؟
قرأتُ صهر الوعي
في أحد حواراتنا المتقطعة٬ أنا وأسعد٬ بينما أنا جالسٌ على طاولة البار وهو يعمل ويعد القهوة للزبائن نتحدث قليلا٬ ناقشنا مرة الحركة الوطنية٬ دائما يشدد على أهمية “الإنسان” في الحركة الوطنية موضحا لي ذلك بقصص مع وليد أو حتى اقتباسات أحيانا. وليد دقة مؤمن بأن نهوض الحركة الوطنية هو مرتبط في مهمتها وقضيتها المركزية٬ التي يجب أن تتمحور حول الإنسان الفلسطينيّ٬ فهو يكمل ما بدأه غسان كنفاني في أعماله الأدبية ومقولته الخالدة “الإنسان في نهاية الأمر٬ قضية”. في جميع أعمال ولية٬ من رسالة٬ قصة٬ حكاية٬ مقابلة٬ والدراسة الأكاديمية٬ قام وليد دقة في حياكة نواة جديدة٬ حول الإنسان الفلسطيني.
في اليوم التالي ربما٬ ناولني أسعد نسخة من دراسة أخيه التي حدثني عنها للقراءة والاستفادة٬ قبل ارتيادي مقاعد الجامعة فلم أكن أعلم بعد نظريات العلوم الاجتماعية والسياسية٬ لم أعلم من هو “فوكو” مثلا٬ أو ماذا يقصد وليد في “الحداثة السائلة” عن زيجمونت بويمن٬ تعرفت من خلال الكتاب على معارف ونظريات كثيرة. والأهم من ذلك استطاع وليد أن يبين لي٬ القارئ المبتدئ آنذاك٬ معاناة الأسرى٬ وحجم المخاطر التي تحيط بهم٬ ومهمتهم التاريخية٬ من خلال مناظير ومنهجيات اجتماعية ونظريات نقدية التي تميل إلى نزع الاستعمار عن المعرفة والمفاهيم مثل “الحداثة”٬ “الفردانية”٬ “السجن”٬ من خلال دراسة مقتضبة سرد لي قصة الأسرى٬ ومشروع ما يسميه “الإبادة السياسية” في السجن الصغير٬ ثم تطبيقه في السجن الكبير وهو الاحتلال في عموم البلاد.
شارحاً ذلك من خلال نظرية فوكو عن “البانبتيكون” ونظرية “الصدمة” لنعومي كلاين٬ بتسلسلٍ زمني وبنيوي لسياسات سلطة الاحتلال تجاه الأسرى٬ مع بدايات الانتفاضة الثانية٬ فهو يرى بأن الهدف الأساسي٬ وأقتبس من الدراسة: “إن السجون الإسرائيلية اليوم٬ هي بمثابة مؤسسات ضخمة لسحقِ جيل فلسطينيّ بكامله. بل هي أضخم مؤسسة عرفها التاريخ٬ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين” (صهر الوعي). غاية وليد في الدراسة هو التنبيه والتحذير لشعب كامل٬ إذ أن إنتاجهُ للمعرفة مرتبط عمليًا في وعيه السياسي الثاقب٬ والمخاطر والتحديات أمام الحركة الوطنية والشعب بأكمله٬ حيث إنه شاهد اختراق الأسرى عبر خلق مصالح مالية٬ وتحويلهم إلى “قطاع موظفين” لديهم مصالح مالية ومطلبية٬ ضمن سيرورة “الفردنة”٬ بالتالي اعتبر أن سياسات اختراق جيل من المناضلين تتم تدريجيا وعبر عملية “نزع التسييس”٬ ضمن ظروف معقدة من التعذيب والحرمان والعطاء. جرأة وليد في الاستنتاجات والتلميحات نحو المستقبل هي ما أعطت كلماته قوةً سياسية ومعرفية٬ ربما هي الدراسة الأولى التي أنهيتها على جلسة واحدة٬ لقدرته الاستثنائية الكتابة القصصية٬ التي تشد القارئ٬ ولا يملّ.
“لماذا ينتصرون ونحن نُهزم؟”
في الختام٬ قبل أشهر فقط٬ قبل الحرب٬ قبل الإبادة٬ قبل الطوفان. جلست هناك في ذات المجلس٬ مساء٬ بعدما تركته لأعوام٬ كان أسعد هناك٬ وشاب آخر لم أعرفه قبل ذلك٬ تحدثنا قليلا حول الحرب في روسيا٬ انتقلنا إلى من موضوع إلى موضوع٬ إلى أن وصلنا موضوع النصر والهزيمة والعرب٬ وحرب أكتوبر1973 تحدث الشاب عن شروط الانتصار بين الوحدة العربية بين الجبهات والتقنيات العسكرية.
ثم لمعَ وجه أسعد وتذكر كلمات أخيه في أحد المقابلات الماضية٬ حول موضوع النصر والهزيمة٬ مفسرًا وشارحاً لنا طرح وليد٬ ثم أسمعنا إياه بتسجيل صوتي٬ صاحب الصوت الهادئ اليقظ الواثق المتأمل وأيضا في كلماته قليلا من الورع والتزهد في اختيار الكلمات٬ هكذا هي حياة السجون تعلمك أخلاقا من زمنٍ موازي نفتقدها هنا في أزمنة العار والجبن والتسرع والتعجل٬ وأقتبس مما استمعنا إليه:
“منذ محمد علي باشا في مصر ونحن منشغلون في السؤال: لماذا ينتصرون ونحن نُهزم. اعتقدوا تارة أن سرّ قوة الغرب هو الإصلاح الزراعي، وتارة أخرى الاقتصادي، وأخرى امتلاك أسطول بحري من شأنه أن يضعنا في مصافّ الأمم القوية. أخيراً (في ذلك الوقت) أُرسِلَت مجموعة من العلماء إلى فرنسا لجلب العلم الذي يعتقدون أنه الأساس وسرّ قوة هذا الغرب الذي استعمر بلادنا لزمن طويل. اليوم ما زلنا نبحث ولم نتمكن خلال القرن العشرين من الإجابة عن هذا السؤال، بينما استطاعت الحركة الصهيونية أن تُجيب نظرياً وعملياً، وبقينا نناقش ولا نزال، وبعضنا يرى أن الإسلام هو الحل، والآخر الاشتراكية… والوحدة والعودة. الجدل رغم أهميته ليس بديلاً ممّا هو أساسي: بناء القدرة. لقد بنت الحركة الصهيونية قدرتها من قبل النكبة، وأنشأت الجامعة العبرية في القدس، والتخنيون في حيفا، ومحطة توليد الكهرباء «الريدنغ» في عشرينيات القرن الماضي، وامتلكت الحصة الأكبر من معامل الفوسفات في البحر الميت. بكلمات أخرى: أرادت الصهيونية أن تنهض في حلقات السلسلة الاقتصادية والعلمية السياسية كافة ثم العسكرية”.
ناقش وليد أن الشرط الأساسي لبدء عجلةِ النصر والتغلب على نفسيّات المهزومين٬ ومن المهم النظر إلى أن منابع فكر وليد دقة هي ذاتها التي نمت عند فرانز فانون أثناء تحليله للشعوب السوداء ومن يرتدي القناع الأبيض٬ وهذا القناع هو ما يجب أن نعترف بوجوده ونجتهد في تفكيكه. في هذه الفقرات القليلة بالمقابلة٬ التركيز على العمل الحقيقيّ٬ الجهد وإنتاج القدرة عند وهذا ما يجعلنا نعيد الثقة بأنفسنا٬ ونتقدم خطوات نحو الحل٬ فالحل لا يمتلك طابع أيديولوجي هو يمتلك طابع عملي٬ مرتبط في الجهد المبذول٬ أتذكر هنا ثورية ماركس في اكتشاف سر فائض القيمة وارتباطه في “العمل”٬ وليد هنا يحطم أساطير المثالية التي تحوم حول مفهومنا “للحل” ويعيدنا إلى نقطة البداية علينا العمل وبذل الطاقة بغض النظر عن كونك جزء من الحركة الإسلامية٬ أو الحزب الشيوعي وهلّم جرا. ويعتمد هذا الشرط على معرفة نفسك٬ قائلا “أمة لا تعرف نفسها ستبقى ميّتة” إذ أن إنتاج المعرفة والتقدم العلمي هو يحتاج أن تنظر الأمة إلى ذاتها بشجاعة وصدق٬ وترى بموضوعية موقعها في العالم الراهن٬ معرفة الذات هي الضامن الوحيد لإنتاج معرفة حقيقية وتقدم حضاري والتمكن من توفير حاجات الناس الأولية٬ لأنه متيقن أن دون ذلك لن تستطيع من تعبئة الجماهير للفعل القومي الشامل. هنا ترتبط رؤيته٬ وسؤاله المطروح علينا جميعًا دون الاعتناء وتلبية حاجات الإنسان الروحية والمادية٬ هل سيصمد في المعركة؟ هكذا بإمكاننا أن نفهم٬ نتصور نتأمل خيوط هذه الذاكرة المتقطعة٬ في بلدته٬ ومقهى يخلد ذكراه٬ فهو الآن ومنذ اليوم شهيد وحرٌ.