في الخامس والعشرين من مارس آذار 2024، في مظاهرة حاشدة لحصار السفارة الإسرائيلية في عمّان، على خلفية المجازر وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وأهله، والتي شهدت عنفًا مفرطًا من قوات الأمن الأردنية، هتف المتظاهرون والمتظاهرات، موجهين ندائهم إلى الشعب المصري، متسائلين: “الشعب المصري عامل إيه؟ معبر رفح مسكِّر ليه؟”. ليرد المصريون والمصريات في اليوم التالي في مظاهرة على سلم نقابة الصحفيين في القاهرة، هاتفين: “قول للرفاق في عمّان، مصر لسه حيّة كمان”، وتنتشر صورة من تطبيق خرائط غوغل توضح أن المجاعة على بعد 400 كلم من القاهرة، في محاولة مغايرة لتأمل المسافة.
وأخيرًا، يعلق أهل غزة في خضم كل هذا الموت الأسود والتواطؤ العربي الرسمي، موجهين خطابهم لمتظاهري عمان: “صوتكم وصل”، و”عمان أقرب من رام الله”، في عتبة أخرى من التأويل. هذا الهتاف الذي أعطى للمسافات بين المدن والجغرافيا العربية (أو كما يحب دارسو العلوم السياسية والعلاقات الدولية تسميتها: الجيو-استراتيجيا) بعدًا مسافاتيًا رمزيًا، هدد الكثير من الأنظمة المتواطئة في هذه الحرب، حتى أن بعضهم جند منصاته الإعلامية لمهاجمة المتظاهرين والمتظاهرات في عمان ومصر، بدعوى أنهم “مؤامرة على الاستقرار”.
هذا الأمر وغيره من الشواهد والأحداث، يمثل تأويلًا مغايرًا للمسافة التي أورثتنا إياها الخرائط الرسمية والحديثة في السنوات المائة الأخيرة (على الأقل) للمنطقة، بمعنييها المادي (400 كلم)، والرمزي (رام الله – أوسلو). ما يستدعي شكلًا من أشكال المعرفة المناهضة للاستعمار في إدراك المسافة بما هي معادلة مركبة من الموقعية والمكانية والحداثية وغيرها، والذي بدأت شواهده في الظهور تراكميًا في الوعي الجمعي العربي، في السنوات والعقود الأخيرة (كانت 2011 إحدى ذُرى هذا التحول)، بشكل -نراه- بات منذرًا بتحول نقدي جذري، يهدد شكل الدولة الحديثة (المسماة) “ما بعد استعمارية” في العالم العربي، أو “القومية” في أدبيات استعمارية أخرى. ولعل هذا هو ما يفسر سلوك أجهزة الأمن العربية (في الأردن ومصر والمغرب وغيرها)، لا باعتبارها تعبر عن موقف علاقاتي اقتصادي وسياسي وتاريخي براغماتي اللبوس، إنما هي دفاعًا مقولة وجودها الأساسية(2).
مفهوم المسافة
إن المسافة، بما هي كيانية مادية مقاسة (في العتبة الأولى لفهمها: بما هي الامتداد بين نقطتين)، قامت على سياسات إنتاج حداثية تضمنت القياس، الخريطة، الحد، وهو البناء الذي يطمس المضمون الرمزي والتركيبي للمسافة ويقتصرها على محمولاتها المادية. والمسافة في هذا السياق تتضمن شكلًا أدائيًا Performative من الإدراك: القرب – البعد، بما هو علاقة بين الذات ومكانها، موقعها في العالم، والذات وما ترغب أن تكونه، أو تصله، كتعبير عن نفسها.
وعليه فإن أشكال إدراكنا للمسافة في العالم العربي، الحداثي لا يمكن أن تستوعبه المنظومة الحداثية الجغرافية ذات الجذور الاستعمارية، إلا من خلال علاقات الإنتاج: إنتاج المسافة رقميًا، إنتاج المسافة كبنية تحتية، إنتاج المسافة كخطاب سياسي. بكلمات أخرى، لا يمكن للخرائط الحديثة والمسافة المقاسة بالكيلومترات فيها، والحدود الدولانية الحد(ا)يثة (أيضًا) أن تشرح شكل العلاقات بين الجماعات والقوميات والهويات حولها، والتي تتشكل من خلال العناصر التالية: القرب – الحدّ – البعد.
في كل أشكال الإدراك التي في المشاهد السابقة وغيرها، المسافة بيننا كمتظاهرين أو أفراد وجماعات وشعوب على أطراف الإبادة (غير ناجين منها بمفهوم الألم)، تضمنت شكلًا من أشكال الحدود، سواءً حدًا دولانيًا كحدود الدولة الحديثة، أو حدًا مجاليًا، بمعنى “المدينة”، القبيلة، الجماعة، وغيرها. وإذ ثمة تعاضد بين شكلي الحدود هذين، يمكننا فهم خطاب الحملات الالكترونية (الذباب الالكتروني) الرافض للمظاهرات من حيث التركيز على ترسيم حدود الجماعات القومية، والقبائلية وغيرها، في الأردن ومصر وبعض دول الخليج، نموذجًا لهذا التعاضد(3).
هنا وجبت الإشارة إلى “عمل الحد”(4)، وليس الحد باعتباره أداة لفهم المسافة بيننا وبين غزة. فالحد هنا هو العتبة التي تنبني عليها مدركاتنا للمسافة في المخيال الحداثي، وهي أيضًا مفتاح تفكيك هذا المخيال الاستعماري الرأسمالي الجذور، بما هو أداة لأرضنة الحداثة/الرأسمالية/الاستعمار. وهو ما طرحه ديفيد هارفي في كتابه “حالة ما بعد الحداثة” (2005)، من حيث كون الحد أداة تنظيم المادة والفضاء والزمن، في الحداثة وما بعدها، وهو الأساس في تكوين الدولة الحديثة. إلا أننا نطرح هنا “المسافة” بما هي مكون مجالي يضم المادة والفضاء والزمن، والحد، والأخير هو نقطة التكثيف التي يجب تفكيكها لمناهضة دورها الاستعماري.
إن هذه المقاربة المكانية و/أو الفضائية Spatial، هي الأساسية لإحداث هذا الفهم المناهض للاستعمار. وهنا نطرح ثيمات محددة لتفكيك مفهوم المسافة، ومحمولاته من العسف المعرفي ذو الجذور الكولونيالية الحداثية، وهي الجسد/الألم والمدينة والفرح والزمن والبحر، والهدم (إبادة المدن) والكتابة بالمحو.
أولًا: البحر:
كان اقتراح العالم الإنجليزي هالفورد ماكيندر بشأن الفرق ما بين المجال البري والبحري، هو الأطروحة الأساسية للمقاربات الجيوسياسية المعاصرة(5). ومن بعده قام كارل شميت، بالتأسيس الفكري والثقافي والفلسفي لتلك الثنائية(6). ولأن الحدود بين البر والبحر تبدو وكأنها ثابتة لا تتغير، فقد شكلت المجالات البحرية مساحات مطمئنة وخاملة، في ما يتعلق بسياسات الحدود بين البلدان، والسرديات الدولانية، في البر والبحر، بالنسبة للدولة الحديثة. أي أننا قلما ما نسائل البحار بما هي مساحات لتكوين سرديات الدولة، هي بدورها، إنما نعتبرها وكأنها أمر مسلم به، تابع للسياسية الدولانية البرية. وعليه فإن تاريخ البلدان الحديث (أو الحداثي) يتكون بالأساس بحسب العالم البري أكثر من البحري. (لا يمكننا أن نتخيل جماعات بدوية تعتاش مرتحلة على شطآن البحار، وتعتمد على صيد السمك، مثلًا! أو بدو رحل يعيشون في البحر، والصورة الأقرب لهذه الحالة كان القراصنة في القرنين الثامن والتاسع عشر، الذين كانوا مادة ثرية للشيطنة الخطابية الحداثية، قدمتهم باعتبارهم جماعة قذرة، ماديًا ورمزيًا، بلا أخلاق، وليسوا جماعات من الرحالة البحريين الثوريين. وحتى عندما نفكر في مساحات مائية أثرت على تاريخ الحضارة، يحضر في عقلنا الحداثي الأنهار والموانئ، لا البحار ولا المحيطات).
إن ما يفعله اليمن السعيد في مضيق باب المندب، يجب أن يدفعنا إلى فهم المجال الدولاني من خلال الطرف الأخفض صوتًا وهو البحر، لا باعتباره ابتعادًأ مسافاتيًا، بقدر ما هو مجال قرب، ودوره في تشكيل تاريخ معاصر مضاد للتاريخ والتأريخ الحداثي، الذي طمس التاريخ البحري للعرب، وسياسات انتاج المكان والفضاء الاجتماعي. ولو عدنا قليلًا إلى تاريخ البحر الأحمر، أو بحر الحميرين نسبة إلى الدولة الحميرية (115 قبل الميلاد – 525 ميلادية)، لوجدناه ضاجًا بالحياة في التاريخ العربي(7)، حتى أن ذكره يرد في كتابات عدد من الرحالة العرب والأجانب، مثل ناصر خسرو وإبن جبير وابن بطوطة وجون لويس بوركهارت، وسارل ديدييه.
إن العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بما هي علوم الحداثة وأدوات خطابها الاستعماري، ستقتصر الدور اليمني المساند، في شبكة العلاقات الجيوسياسية، دون أن تعي الدور التاريخي للبحر الأحمر في إنتاج وترسيم حدود الجماعة العربية التاريخية، تمامًا كما صدرت لنا صورة الصوماليين باعتبارهم قراصنة يسعون للمكاسب، متعامية عن دور القراصنة في مقاومة الاحتلال الأمريكي خلال تسعينيات القرن الماضي. وعليه يمكننا القول أن الحد الجنوبي لفلسطين هو باب المندب، وأن هناك تدور رحى حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأمريكية الغربية، على غزة واليمن معًا.
ثانيًا: الزمن – التاريخ:
في النظر إلى المسافة بما هي معرفة، يقول المنظر الماركسي الفرنسي هنري ليفيفر(8):
“يعود الديالكتيك على جدول أعمالنا، لكنه ليس الديالكتيك الماركسي، كما كان هو الحال مع الديالكتيك الماركسي باعتباره لم يكن هو الهيغلي … الديالكتيك اليوم لم يعد متعلقًا بالتأريخ والزمن التاريخي، أو بآلية زمنية كتلك: “فرضية Thesis – فرضية مضادة Antithesis – تأليف Synthesis”، أو “برهان Affirmation – نفي Negation – ونفي النفي Negation of the Negation” … أن ندرك المكان، وما “وقع” فيه، وفيما وجد له، هو أن نستكمل الديالكتيك أنه من خلال التحليل ليظهر التراكب في المكان”(9).
إن الحدث الأساسي في غزة، بما هو إبادة ومحو، يتضمن في بنيته الوجود من خلال هذا المحو والطمس، وبالتالي يصبح السؤال عن العلاقة بين فعل الإبادة بما هو طمس، وفعل الأرشفة بما هو غياب، هو محاولة للتساؤل عن العلاقة بين الإبادة والأرشفة، بما أن كلا الفعلان/الممارستان يتضمنان شكلًأ من أشكال الغياب والمحو، في الإبادة يمحى الوجود، وفي الأرشفة يُفترض شكل واحد من الوجود بمحو غيره وممكناته. وفي وسط حمى الأرشفة الفلسطينية الآن، لعل التساؤل عن جدوى الأرشفة بطرائقها الحالية، هو فعل بحث عن شكل من أشكال الوجود الفلسطيني، الذي ينفتح على الأشكال الأخرى دون محو، ساعيًا إلى تأكيد وبناء مكون نقدي لهذا الوجود. سعي إلى فعل الأرشفة بما هو فعل تحرر، وليس فقط وجود.
ينطلق هذا الهاجس من واقع حال هوس الأرشفة الفلسطيني الحالي ومآلاته. فالسؤال عن أي فلسطين تلك التي في كل هذه المشاريع الأرشيفية والمسافة بينها وبين فلسطين التي نعرفها، والتي تتعرض الآن إلى حرب إبادة، على كامل جغرافيتها.
ونموذجنا من عديد النماذج هنا، هو كتاب “كتاب الهدم”، والذي كانت السلطة الحاكمة في غزة قد أصدرته لتوثيق حجم الدمار العمراني والمديني الذي أحدثته حرب إسرائيل على القطاع في العام 2008-2009. كيف يمكننا كفلسطينيين أن نوثق ونؤرشف لهذه الحرب، وكيف سنذكرها. نموذجنا الثاني هو الملف الذي قدمه فريق جنوب أفريقيا في مرافعته ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية، في محكمة العدل الدولية. والذي تضمن تسجيلات وشهادات لجنود الاحتلال الإسرائيلي، بما هي مواد إدانة بنية الإبادة الجماعية.
ما الذي يمكن للأرشفة الحالية والتوثيق أن توثقه حين توثق هذه الحرب، وكيف؟ يتضمن هذا التساؤل عتبتين أساسيتين: عتبة تعريف المادة الأرشيفية، فما هي طبيعتها، هل هي الأخبار المتعلقة بالحرب، وتفاصيلها ومجرياتها فقط، حتى هذه لا يمكن تعريفها بحسم. والثانية هي بناء العلائق بين المواد المعرّفة باعتبارها مادة أرشيفية، وهذه العلائق هي الفرجات بين المواد الأرشيفية، أي البحث في شكل العلاقة بين مادتين أرشيفيتين، أو أكثر. سؤال الربط هذا هو سؤال في جوهره مسافاتي، بمعنى أنه لا يتناول القرب والبعد من حيث أنهما مواد مقاسة بالواضح من العلوم السياسية والسردية الحداثية التاريخية، وهو ما تعكسه التوجهات الأيديولوجية والفصائلية في التوثيق الحالي لتاريخ فلسطين، بقدر ما ينفتح على المسافة كتأويل اجتماعي متعدد ومتداخل ومتجاوز للحقول في آن. بوصف آخر، ما الذي قد يربط مادتين أرشيفيتين في هذه الحرب، وكل الحروب والمذابح الإسرائيلية السابقة. كيف يمكننا فهم العلاقة بين الوالدية في هذه الحرب وبين كتاب “كتاب الهدم”؟، مثلًا.
قد يبدو هذا التساؤل عدميًا للوهلة الأولى، لكنه ينطلق في الأساس من الألم الحادث في هذه الحرب، والذي يجمعنا ويوحدنا كفلسطينيين وفلسطينيات، مع أنصار العدالة حول العالم، في الحاجة لطرائق تاريخية أخرى لفهم ما تمر به البشرية الآن.
تخبرنا جولييتا سن، في كتابها No Archive Will Restore You: “الأرشيف هو أمر محفز لنفسي بين أناي وذاتي”(10)
ثالثًا: الفرح والأمل:
ما زلت أتذكر السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023، حين خرجت علينا محطات الأخبار، وأضاءت شاشات هواتفنا الذكية بالأخبار من غزة. إن الفرح في حينه كان مفتاح تحديد المسافة في شقيها:
المسافة بيننا وبين غزة من ناحية، والمسافة بين غزة وباقي فلسطين من ناحية أخرى، لقد أعاد هذا اليوم ترسيم حدود المسافة بالفرح. هو نفس الفرح الذي نحسه عند رؤية مظاهرات عمان والقاهرة، وغيرهما. هذا الفرح نفسه الذي أشرنا إليه باعتباره مهددًا لأنظمة عربية متواطئة هو الآن مفتاح فهم المسافات بين المدن والعواصم العربية، هو فرجات تأويليّة في مفاهيم وآليات إنتاج المعنى، ومقاومة استبداده الرمزي.
إن التظاهر وحصار السفارات بما هو فعل مشاركة استراتيجي، هو كذلك فعل رمزي، يربط بين المشترك رمزيًا بين كل تلك المدن ومن بها. فالمتظاهرون الذي يحاصرون السفارات ويهتفون في الشوارع، إنما يحمون حقهم في الفرح والأمل، المشترك بين هذه المدن وفي تلك المسافات بينها. وامتلاك الأمل هنا يتضمن – مبدئيًا – امتلاك الحق في معنى خاص تتحكم فيه “الذات” إلى ما هو وراء المعنى المباشر للقوة، والردع، أي الحق في كتابة نفسها في مواجهة كتابة أخرى. إن الأمل في هذه المواجهة هو الامتحان الذي يُخرج “الوطن” و”الدين” و”العقل” وغيره، كمفاهيم ومقولات من حدود طمأنينتها. الأمل بما هو فعل تشاركي مديني هنا بما هو فعل نقدي يحدث داخل سياق “الوطن” ليفككه ويعيد بنائه، يفترض تساؤلًا عن كيف هو الوطن وليس ما هو الوطن، لتذوب حدود الدولة – الوطن، التي أجبرتنا خرائط سايكس بيكو على تضمينها في اللاوعي الفردي والجمعي لفهم المسافات والحدود.
هل يمكننا هنا طرح الأمل والفرح باعتبارهما تأويلات للمسافة بيننا وبين الله؟
انتشرت في الأسابيع والشهور الأخيرة، مقاطع مرئية لشباب ينتزعون الحق في الدعاء لغزة في المساجد من أئمة تقاعسوا عن ذلك، وفي مقاطع أخرى رأينا لمعتمرين ومعتمرات في مكة يرفعون أعلام فلسطين، ولآخرين يعظون زوار أحد المطاعم الواجب مقاطعتها بعدم الشراء منهم، حتى أن ذلك الواعظ العجوز قال: “تدعون الله بقنوط في المسجد الحرام لنصرة أهل غزة، ومن ثم تخرجون لشراء وجبة من مطعم يدعم يدعم قتلتهم! ألا تخافون الله؟!”، ولآخرين في رام الله يقاطعون خطبة الجمعة لوزير الأوقاف الفلسطيني (سيء الذكر والوجه).
إن غزة الآن تقدم لنا طريقًا أقصر لإله أقرب.
كتبت هذه المادة على هامش مداخلة قدمها المؤلف في حوارية له مع الباحثة الفلسطينية سنابل عبد الرحمن، من تنظيم مجموعة نضالات في برلين، بتاريخ 15 مارس/آذار 2024.
هوامش وإحالات:
-
يبين كتاب «القاهرة ١٩٢١» للمؤرخ الأمريكي سي برادفوت، والمُترجم إلى العربية حديثًا، أن فلسطين التاريخية قُسّمت مرتين؛ المرة الثانية المعروفة في عام ١٩٤٧، أما المرة الأولى فكانت في مؤتمر القاهرة ١٩٢١، وقد نشأت إمارة شرق الأردن عن هذا التقسيم. وكان الهدف من هذا التقسيم الأول هو منح عرب فلسطين دولة في إطار محاولة تشرشل الموازنة بين وعد بريطانيا لحلفائها العرب (الشريف حسين وأسرته) بدولة عربية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ووعدها للصهاينة بدولة يهودية على أرض فلسطين (لا تمس مصالح بقية السكان)، ومسعاها التاريخي لتشكيل قاعدة غربية أمامية في الشرق. وقد رفض السير هربرت صموئيل، الصهيوني الجَلد، وأول مفوض بريطاني سامٍ على فلسطين، هذا المقترح أول الأمر (كان يريد فلسطين التاريخية كلها بما فيها شرق الأردن لليهود)، ولكنه كان سياسيًّا عقلانيًّا يعي أن تأييد بريطانيا لوطن يهودي على أرض فلسطين رهين تأييدها لشرق أردن عربي، فاستطاع تشرشل إقناعه بهذا المقترح في نهاية المطاف عن طريق تدخل حاسم من أحد مساعديه في وزارة المستعمرات، وهو توماس لورنس الشهير.
-
يروي الكتاب أنه لما احتدم الخلاف بين «أنصار العرب» وأنصار الصهاينة من مندوبي المؤتمر، وجُلّهم موظفون بريطانيون استعماريون «عرض لورنس وجهة نظره في أن دولة عربية بقيادة [الأمير] عبد الله [ابن الشريف حسين] قد تكون صمّام أمان في المنطقة؛ إذ يمكن الضغط على حاكم يعتمد مركزه على التأييد البريطاني لحمله على كبح جماح معاداة الصهيونية في شرق الأردن. وردّ صموئيل بأنه يخشى استمرار الغارات العربية عبر الحدود إلى داخل فلسطين. ولكن لورنس عقّب قائلًا: إن مسألة هذه الغارات يمكن حلها على أفضل وجه من خلال نظام حكم جيد في شرق الأردن. وأضاف أن إدارة الوضع قد تتم على نحو فعال لمصلحة الطرفين إذا أظهر عبد الله حسن التصرف».
-
شهدت شبكات التواصل الاجتماعي، في الأردن، بعضًا من الهجوم على المتظاهرين والمتظاهرات باعتبارهم يهددون الهوية الوطنية الأردنية، في استدعاء ضحل لنماذج الخطاب الاستعماري والقومي في سياساته الهوياتية. كما تضمن هذا الخطاب تهديدات مبطنة ومصرحة، ودعوة مفتوحة للأجهزة الأمنية لقمع المظاهرات والمتظاهرين.
-
قد نرى أن استخدامات مفهوم الحدّ في العلوم الاجتماعية والإنسانية تنحصر في تيارين رئيسين؛ الأول نتج عن التيار النقدي Theory Borderland الذي حاول أن يبحث في المجموعات المهمشة التي تقطن في الأطراف مقارنة بالمركز الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهي في العادة تحاول أن تعطي مساحة للتعبير عن ثنائية المركز الهامش بطريقة علائقية، ولكنها تظل الأغلب الأعم حبيسة هذه الثنائية، والتي لا نراها قادرة على تخطيها، وإنتاج معرفة نقدية مغايرة. وأما التيار الثاني والذي يتضمن تيارات معرفية ونظرية مختلفة ومتباينة، فهو Frontier Studies، ولا يمكن الإشارة إلى توجه محدد فيه، عدا أنه يبحث في ديناميات الطرف من حيث هو جبهة نشاط إنساني واجتماعي واقتصادي وسياسي متوسع باستمرار. هنالك بعض الدراسات في هذا التيار التي تدرس التوسع الاستعماري باتجاه الأطراف من خلال دراسة وتحليل تجربة استعمار أمريكا الشمالية من قبل الأوروبيين، ولقد أفرزت هذه الأبحاث فهمًا معمقًا ونقديًا للجانب التوسعي للنظم الاستعمارية والرأسمالية. للإطلاع على طرق استخدام التيار الأول في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ينظر على سبيل المثال:
Smadar Lavie & Ted Swedenburg (eds.), Displacement, Diaspora, and Geographies of Identities (Durham/ London:Duke University Press, 1996); Gloria Anzaldua, Borderland/ La Frontera: The new Mestiza (San Francisco: Aunt Lute Books, 1987(
وأما التيار الثاني: Bjorn Thomassen, Liminality and the Modern (Burlington: Ashgate Publishing Limited, 2014).
Jessica Elbert Decker & Dylan Winchock (eds.), Borderlands and Liminal Subjects (Switzerland: Springer, 2017).
-
يُنظر: Halford Mackinder, The Geographical Pivot of History, 1904
-
يُنظر: Carl Schmitt, The Concept of the Political, (Chicago, Chicago University Press, 2006)
-
يُنظر: جرجي زيدان، العرب قبل الإسلام، دار ومكتبة الحياة.
-
سبق للكاتب تطرح مقاربة نقدية لأدبيات ليفيفر، يُنظر:
-
النص الأصلي للاقتباس: “The dialectic is back on the agenda. But it is no longer Marx’s dialectic, just as Marx’s was no longer Hegel’s … The dialectic today no longer clings to historicity and historical time, or to a temporal mechanism such as ‘thesis- antithesis-synthesis’ or ‘affirmation – negation – negation of the negation’ … To recognize space, to recognize what ‘takes place’ there and what it is used for, is to resume the dialectic; analysis will reveal the contradiction of space”
يُنظر: Henry, Lefebvre, Dialectic Materialism, (Paris: Press Universitaires de France, 2009)
-
Julietta, Singh, No Archive will Restore You, (California: Puntom Books, 2018), p26.