قدرتنا على طرح أسئلتنا الفلسطينية في عالم هش، دفع العالم لتهميش الحقيقية ومحو الاجابات، هذا المحو الممنهج لا يعني اليوم التنازل عن حكايتنا فقط، بكل تفكيك سياقاتها، وتضليل تطوراتها، ومحاولة حجب ما تعنيه للعالم وما تثبته من حقائق، وهذا جزء من أي مشروع استيطاني، حيث تصبح الحقيقة عائقاً، لما تشكله من عبء أخلاقي على المستوطن وداعميه، وهذا تحديداً ما فعلته بعض القنوات الإخبارية والمؤسسات الثقافية، التي حولت قطاع غزة تحت وطأة حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي، من مكان لاستخلاص الإجابات وإعادة مناقشتها، إلى مساحة مواربة لتشكيك المبهم بطريقة طرح الأسئلة.
الإبادة مستمرة، رعب الضربات غير المتوقعة لا ينسى، بينما قسوة المشاهد تختبر قدرتنا الحقيقية على الرؤية، ما جعل القدرة الحقيقية على تأمل مشاهد المجازر والقتل الجماعي جزءاً من البطولة، على الرغم من أن البطولة هنا لا تعني الاستسلام للمشهد، بل إعادة فهم سياقه أيضاً، مثل مشهد الطفل الرخو بين أيدي رجل يحمله من إبطيه عالياً، الطفل بلا رأس، بينما يديه مسترخية للحظة الموت، هذه القسوة تدفعنا للوعي بأن المصورين في أوضاع تدفعهم للاختيار بين حياتهم أو المشهد، واختيار المشهد يعني التنازل المستمرة عن جسارة الحياة ومضمونها في سبيل الحركة المستمرة للتوثيق.
التاريخ قد يبدو قاسياً أحياناً، خاصة ضمن التجارب التي علمتنا أن قدرتنا على المشاركة في رواية حكايتنا، لا يعني استئناف الزمن وإعادة بناء تداخلات الكاميرا مع الجدوى السياسية والإنسانية لما يحدث، بل يعني بناء شهادة وجب علينا توثيقها بغض النظرة عن قدرة العالم على استيعابها. لكن على الرغم من البداهة التي كرستها الكاميرا في حياتنا، كون المصور يمتلك لحظته ويحاول امتلك مسافته الشخصية مع الحدث، إلا أنها باتت اليوم اختياراً لا يقوم عن الانفصال الكلي بين المصور والحدث.
لربما هذا ما بلور جوهر مبادرة المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي بمشروعه “من المسافة صفر”، قامت الفكرة على صناعة مجموعة من الأفلام التسجيلية من داخل غزة، لتكون المسافة بين المصور والحدث تتجاوز التجربة وتختبر اليقين الحتمي لغزة كما يراها أهلها، ضمن حرب إبادة جماعية يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على سكان القطاع، لرواية حكايات لم تروَ بعد، وعلى الرغم من أن المشروع ليس تجارياً ولكن مشهراوي أكد أنه تلقي دعماً ومساهمات من عدة مؤسسات وجهات، أبرزها الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، لتنتج التجربة 22 فيلماً، تتنوع بين التسجيلي والروائي والتجريبي، ليشمل عدد العاملين في المشروع 100 غزاوي.
يتجاوز صناع الأفلام في المشروع عدسات الصحفيين في نقل الواقع، لتستعيد الحكاية بشكلها الأول، كونها وسيلة لاستعادة زمن هش يراد محوه، وتعيد تفكيك وتركيب القصص ضمن سياقها اليومي لسكان القطاع، لندرك أكثر من أي وقت مضى، كون البطولة لا يمكن أن تكون أسلوب حياة، بل هي لحظات يستعيد فيها الفلسطيني حضوره، في مرحلة كان يراد فيها أن يكون على الهامش، بعد أن جرده أغلب غرف أخبار الإعلام العالمي من إنسانيته.
إن استعادة ما يراد له أن يكون هامشياً أكد على دور الصناعة السينمائية مجدداً، كونها وسيلة وأداة يمكن من خلالها عرض ما هو تفصيلي، لإعطاء الكادر اليومي والمعاش في غزة بعداً إنسانياً وسياسياً يمكن من خلاله إعطاء صوت لا للمعاناة فقط بل لجدارة الحياة لا بتعاليها البطولي، بل باحتمالات تأمين ما يضمن له الاستمرار، كأن يصل الغزي للمعونات ليأكل، وهذا ما رأيناه في فيلم “عذراً سينما” لمخرجه أحمد حسون، الذي وثق محاولاته المستمرة للحصول على حصته من المعونات التي تقذف من السماء، لنرى أقسى احتمالات الإنسان وهو يوثق جوعه وجوع الآخرين، محاولته لاستدراك الواقع وجعله سياقاً توثيقياً يتعدى قدرته على النجاة، ليكون الفيلم وسيلة تحرضنا بعزم على فهم عجزنا المركب لإدراك الأسئلة اليومية داخل القطاع، والمحاولات الهشة والمكررة لاستعادة معاني الحياة، وهنا يكمن الجزء الحقيقي من الحكاية، حيث يتحول المخرج إلى جزء أساسي من الحكاية التي يحاول روايتها، وهذا ليس جزءاً من البطولة، بل من التماهي اليومي والحقيقي من السرد الذي عمل عليه جميع المخرجين، حيث سمحوا لنا أن نراهم كما لم يروا أنفسهم من قبل، لتكون جسارة المشهد جزءاً واسعاً من معنى الحقيقة.
مهما كانت الحقيقة كلمة إشكالية وتدعي كمالاً يحتاج للكثير من البطولة، إلا أن أهمية مشروع أفلام “من المسافة صفر” تكمن في ضرورة أن يمتلك الفلسطيني صوته، بعيداً أن التغطية الصحفية وغرف الأخيار، خارج سياق المحتوى الإعلامي على منصات التواصل الفلسطيني، إننا نرى الفلسطيني داخل غزة مجرداً من الصيغة الدعائية المحفزة لرؤية مركز الحدث، لأننا تدفعنا لرؤية ما الذي يحدث عندما تنطفئ كاميرات الصحافة، وإلى أين يذهب كل الذين يركضون ويصرخون في تقرير الأخبار العاجلة.
أقيمت خيمة نزوح على هامش مهرجان كان في دورته 77 لعرض الأفلام، لم تكن العروض ضمن الدورة الرسمية لمهرجان كان. النشاط الفلسطيني كانت عروضه داخل قاعات المهرجان ولكنها ليست ضمن العروض المختارة من اللجنة المنظمة، لتكون العروض العربية الأولى للأفلام ضمن الدورة الخامسة لمهرجان عمان السينمائي الدولي التي تمتد من 3 حتى 11 تموز/يوليو القادم.
أخيراً، ضمن 22 فيلماً نكتشف قدرة السينما على استنباط المعنى العميق للتجربة، حيث لا يكون الانتصار في النجاة فقط، بل في تدوينها وإعادة صياغتها كجواب كبير حول سؤال المصير، لتكون أقسى احتمالات الرؤية تكمن في قدرتنا على استيعاب الواقع المتناهي الصغر الذي ينكره العالم، لتنتصر عليه الحكاية، لنرى حيوات متقطعة لمخرجين يحاولون توثيق حالات النزوح، والبحث عن الشهداء بين الأنقاض، النوم تحت أزيز مسيرات الاحتلال، والتطرق لما تعنيه الحياة وهي تتنصل من كل ما هو طبيعي ومنطقي، لتتحول إلى سؤال كبير ومعقد لا تكفي فيه النجاة مرة واحدة، وهو فعلياً ما عرضه فيلم (24 ساعة) الذي نرى فيه تجربة مصعب الذي نجا فيها من الموت ثلاث مرات في يوم واحد، ليتم إنقاذه في ثلاث مناطق مختلفة من القطاع “قيل أنها آمنة”.